“أبو حمامة” رجل طويل ممشوق ونحيف، أمتاز بارتدائه ذات الملابس طيلة السنة، حطة وعقال وقمباز بلون ابيض، أو لنقل كان لونه ابيض، وشيال يبرز من تحته شعر صدره الأشقر وعلى وسطه حزام جلدي بني اللون، وله شاربان صغيران أشقران ولحية أعطى عثنونها لوجهه شكل الماعز البري.. يبدو “أبو حمامة” من الوهلة الأولى، بأنه هرم بسبب هيئته الخارجية المهملة ولكنه في الحقيقة لم يتخط الخمسين من عمره.
اعتاد “أبو حمامة” أن يقضي معظم وقته بين أشجار الزيتون وبين مغاور الجبال.. يسير مسافات شاسعة، بلا هدف.. يقف على سفح الجبل ويزاول هوايته برمي الحجارة لمسافات بعيدة، تماما مثل الأطفال والفتيان، ضاحكا لوحده ومتسليا.. يبقى على هذا المنوال ساعات طويلة، وفي عودته إلى القرية كان يقطف عيدان الميرمية والزعتر، يحزمها ويحملها على كتفه أو تحت إبطه ويدور بين البيوت ويوزعها على النساء. لم يرتد “أبو حمامة” الملابس الداخلية أبدا، ملابسه البيضاء لم تعرف طريق النظافة، دائما ملطخة بالتربة الحمراء، يغسلها في الأعياد، حين تحن عليه إحدى النساء وتفرض عليه خلعها، ورغم ذلك لم تكن له رائحة منفـّرة، بل تنبعث منه رائحة الطبيعة والأعشاب البرية المنعشة التي كان بين أحضانها.
كان “أبو حمامة” مقبولا على أهالي القرية، تجنب مجالس الرجال لأنهم استخفوا به. والأطفال كانوا مصدر إزعاجه، نكلوا به، لاحقوه بالحجارة والبصاق والشتائم، ولكنه كان يعاملهم بتسامح وهدوء، ويهرب منهم، فساقاه طويلان، ولا يجاريهما أحد بالركض.
أما النساء فعاملته معاملة خاصة، فحين تراه النساء هابطا أو صاعدا إلى الجبل ينادينه مستهزآت: تعال يا “أبو حمامة”، ماذا معك اليوم؟ من أين قطفت الميرمية؟ ماذا فعلت في الجبال؟ متى ستتزوج؟
وما أن يأمن “أبو حمامة” جانبهن، حتى يقترب ويدخل وسطهن، فيتغامزن لترفع إحداهن، قمبازه وتكشف المستور، الذي يتدلى مثل عنقود، وما أن يستره القمباز ثانية، حتى ترفعه امرأة أخرى، وهو واقف بينهن سعيدا، لا ينهرهن، ولا يحاول أن يستر عورته، ويتمتع بتمتعهن، ثم يبتعد مبتهجا برنين ضحكاتهن..
في قرى شمال فلسطين، يطلق على العضو التناسلي للرجل أسم “حمامة” ومن هنا جاء اسمه، ولا أحد يعرف اسمه الحقيقي أو إذا كان له اسم له سواه، ويعرف الجميع بأن النساء يداعبنه، وقد تقاسمن هذا الأمر بالإجماع، لأن هذا يعتبر ضرب من المزاح المشروع في المجتمع القروي، وإذا مر “أبو حمامة” ولم ينتبهن له كان يبادر ويناديهن: من منكن تريد الميرمية اليوم؟.. حتى يقع أو يُوقع نفسه في قبضتهن، كان كتومًا ويؤتمن على الأسرار. ولم يتفوه بحرف لواحدة عن واحدة منهن، حتى ولو حاولن استدراجه.
أما أصله وفصله، فهناك حديث متداول بين الجدات، بأن أحد أجداده كان جنديًا فرنسيًا، جاء مع نابليون لاحتلال البلاد، إلا أنه أثناء حصار مدينة عكا، فر إلى إحدى القرى المجاورة ومكث فيها ولم يعد مع جيش نابليون المهزوم.
استعانت به النساء لمزاولة بعض الأعمال البيتية، فساعد في قطف ثمار الفاكهة وحمل الأغراض الثقيلة وقام بتنظيف ساحات البيوت وري الحديقة.. كان "أبو الهمم"، عند الحاجة، يشمر قمبازه ويدخله في حزامه ويبدأ بالعمل.
الأمر المثير والملفت للانتباه، وغير المثير للجدل، أن عددًا من الأطفال في البلدة كانت عيونهم زرقاء وشعرهم أشقر، رغم أن الوالدين سمر البشرة! ويقال إن أمهاتهم توحّمن على “أبو حمامة” خلال فترة الحمل!!!
عاش “أبو حمامة” في كوخ مصنوع من الزنك، خلا من الأثاث، ما عدا فرشة ومخدة وغطاء، وبابور كاز، يسخن عليه المياه لشرب الشاي ونادرا ما يستعمله، لأنه كان دائما خاليا من الوقود. وبين الفترة والفترة كانت تذهب إليه بعض النساء حاملات له بعض الطعام.. وأحيانا، تتطوع إحداهن لتنظيف تخشيبته.
في مساء أحد الأيام ذهبت إليه “أم إبراهيم”، حاملة معها بعض الزاد وما كادت تلمح الكوخ من بعيد حتى رأت الدخان يتصاعد منه فهرولت نحوه مسرعة ولم تستطع الدخول، لأن النيران أتت على كل ما فيه، فألقت الزاد من يدها وعادت مسرعة مستنجدة: "براكية "أبو حمامة" تحترق.. براكية "أبو حمامة" تحترق"..
وأسرع بعض الرجال إلى إطفاء الحريق، لكن النيران كانت أسرع منهم فأتت على الكوخ كل محتوياته بما فيها "أبو حمامة" نفسه.
لم يكن لأهل القرية حديث سوى كوخ "أبو حمامة" وميتته الشنيعة، فخاف الأطفال وبكت النساء وحزن الرجال لهول هذه الميتة القاسية.. وبدأت الأقاويل والإشاعات والقصص تحاك حول أسباب الحريق وتساءل الجميع: هل انتحر؟ هل مات بفعل فاعل؟ هل كان موته قضاء وقدرا أم ماذا..؟!
أكد أبو إبراهيم أمام الحضور: لقد مات قضاءً وقدرًا، فالرجل ليس له أعداء ولا توجد لديه دوافع للانتحار وعاش بيننا سعيدا..
عقب “أبو كايد”: صحيح ليس له أعداء، لكن البعض كان يكرهه خاصة الرجال وقد سمعت أن “أبو كاظم” كان دائم الشجار مع زوجته، لأنها كانت تعيّره بأن “أبو حمامة” يتمتع برجولة أكثر منه.. وأضاف “أبو كايد”: المؤكد أن كثيرًا من النساء كن يفعلن ذلك.. أجابه أبو إبراهيم ما هذا الكلام الذي تقوله؟ ولماذا تذكر أبو كاظم في ادعاءاتك السيئة فكلنا نعرف بأنك لا تحبه ونعرف لماذا..
صمت “أبو كايد” على مضض وأخذ الجميع يتغامزون عليه، لأنهم يعرفون أنه كان يريد “وصفية” زوجة “أبو كاظم” من قبل أن يتزوجها، لكنها رفضته وفضلت عليه “أبو كاظم”.. ومن الإشاعات التي راجت وكان مطلقها "أبو كاظم"، أن من أحرق "أبو حمامة" هي أحدى التنظيمات الفلسطينية لأنه كان جاسوسا ومتعاونًا مع المخابرات الإسرائيلية، وأن "أبو حمامة" لم يكن بالأبله، بل كان يتصنع ذلك للتمويه.. ولكن هذه الإشاعة لم تلق رواجا، خاصة لأنها كبيرة جدا، قياسا مع "أبو حمامة"، كما أن مروّجها هو "أبو كاظم" الذي أصبح أحد المشبوهين بعد إشاعة “أبو كايد” الأولى.
“وصفيّة”، زوجة أبو كاظم، أكدت لنساء القرية انه مات قضاء وقدرا، لأنها كانت آخر من رآه وأقنعته بأن يستحم، وجاء إليها وملأت له زجاجة كاز لبابوره وكما يبدو، احترق عند محاولته إشعال البابور.. لم تصدق النساء ما قالته وصفية فهن يعرفن بانها ذات مصلحة في هذه الإشاعة حتى تبعد عنها الشبهات..
الحديث عن حريق كوخ “أبو حمامة” لم يتوقف، ففي كل يوم كانت تشاع حكاية جديدة وتحليل أجد، رغم أن الشرطة أكدت أن الحادث قضاء وقدرا.
بعد عدة أشهر على وفاته، أنجبت وصفية ابنها الرابع وأسمته “جان” وكان أشقر وعيناه زرقاوين.. والغريب في الأمر، أن العديد من أطفال القرية، أخذوا بالصعود إلى الجبل والوقوف في نفس المكان ويلقون الحجارة.. تماما كما كان يفعل "أبو حمامة"، والأغرب من ذلك، انه بعد سنة، ظهر رجل آخر، مرتديا ثيابًا شبيهة بتلك التي كان يلبسها "أبو حمامة"، وحاول أن يقوم بنفس الدور، لكنه لم يفلح بذلك، لأن رجال القرية قاموا بطرده بعد أيام معدودة.
وأعجب من كل هذا أن حكومة إسرائيل، حظرت جني الميرمية والزعتر البري وفرضت غرامة مالية على كل من يقطفها.
(حيفا)
بقلم: ميسون أسدي
الأثنين 19/5/2008