كان الوقت صباحا.. وبالتحديد الخامسة صباحا.. والعمال يتوجهون الى اعمالهم في المغاسل ودكاكين بيع الخضار والفواكه، والى معمل "الكازوز" وغيرها..
توقف انت، وانت وهو، ابرزنا بطاقات الهوية التي تحملها، انها اسرائيلية والله العظيم، لم يردوا، ركبنا سيارات الشرطة والجيش لم نتمكن من الاستفسار عن سبب هذا الحصار السريع ولا الاعتقال اخبرنا الجنود ورجال الشرطة ان هنالك اصدقاء لنا نحمل تقودهم وهوية صديقي ابو حسان وهي، ها هي في جيبي..
- لا تقلق.. ستراه بعد قليل!
التقينا في ذلك السجن، حيث كانت فبريكة الدخان، فبريكة دخان قرمان، كرر، عند مدخل حيفا الشرقي، ساحة كبيرة اغلقوا علينا البوابات ووقف الحراس للرقابة، ماذا فعلنا؟ لا جواب، اين الماء اننا نشعر بالعطش، آذان من طين لا تسمع..
فقط اوامر، ستنتظرون هنا! لماذا؟ اجابتهم الشمس الحارقة التي بدأت تتعالى في السماء. العطش اول من استجاب للحصار فشاركه محاصرتنا، اخرج لنا لسانه هازئا من اين سأسقيكم وانتم اكثر من الف عامل وعرب ايضا!
وكان بائع الجبن يجلس مطرقا عطشا قلقا على سلة الجبن التي امامه.. ماذا سيحل بها وقد احضرها كعادته يوميا ليبيعها في حيفا؟ وما هذه المرمطة والاعتقال العجيب؟ انه يوم الاستقلال ايها المغفلون العرب.. انتم رهن الاعتقال ريثما نحتفل وينتهي يوم الرقص على ارض اغتصبناها!
نشوة المغتصب الجنونية!
بدأت وتبدأ ولا تتم الا بمحاصرة العمال الباحثين عن قوتهم، منذ بدأت هذه الذكرى، وهي تمثل يوم نكبة الاغتصاب ونكبة الحصار لمن بقي هنا!
جاعوا.. الشمس تأبى الرجوع والحر يزداد.. والجوع يشارك العطش والاسلاك في محاصرة العمال، اشتروا الجبنة من بائعها، خلصوه منها وتحدوا العطش عطش يداوى بالملح، جبنة مالحة.
وفي ساعات المساء توقفت الباصات، وتحركت الاوامر هيا من منكم من قرية البعنة ليتوجه الى هذا الباص، مجد الكروم ودير الاسد الى ذاك الباص، نحف الى الباص هناك، دلّوا العمال على الباصات، بحثوا مرة اخرى عن الهويات، وجمعوا اجره الباصات، ومن نسي هويته في البيت ولا يحمل نقودا، توجهوا به الى سجن الجلمة ريثما يأتي من يفك اسره، أسر كالقضاء والقدر وليس بالضرورة ان تكون حاملا لأية تهمة، التهمة موجودة.. عربي لا يحمل هوية!!
كان عليّ يشعر بالغضب في تلك اللحظات التي صاحبت سفره في الباص المتجه الى مجد الكروم، لقد عوّلت امه على اجرته التي سيحضرها اليوم من عمله في غسل علب السردين.. حيث يقوم العمال بجمعها عن المزابل ويأتون بها الى المصنع (الفبريكة) كما اخبرني، تُغسل العلب وتنظف وتدهن ويعاد استعمالها وتعبئتها باللحوم والاسماك! وستصرخ امه بغضب سببه قلة ذات اليد.. أي عيد استقلال ايها الكاذب؟ ومنذ متى كان لدينا اعياد استقلال؟ ليس لنا.. نحن لنا النكبة والاعتقال.. لن تقنع امه.. لأنها تحفظ في ذاكرتها ذكرى هذا اليوم الاسود حين تم ترحيل اخوتها الثلاثة وابناء عمها، الى ما لا يعلمه الا الله..
وها هو ابنها يفبرك اعتقالا واستقلالا ولا يحضر مالا!!
يحق لها ان لا تصدق، وهذا الاعتقال العجيب لا تصدقه الاذن فهو لراحة هؤلاء المفبركين، بفتح الراء، الذين تفبركت هوياتهم فأعيد غسل قبائلهم وشعوبهم وافرادهم من اثيوبيا وروسيا الى واق الواق..
انتقلت فكرة فبريكة السمك واعادة تدوير العلب القذرة عن شتى المزابل الى عقول هؤلاء المغتصبين فأعادوا فبركة وتلميع اناس واشخاص لا يعرفون موقع هذه الدولة على الخريطة واحضروهم الى هنا مكونين بهم الشعب الذي يزاحم علي ابو حسين وعمال الفبارك الاخرى لزحزحتهم عن اماكن قوتهم وسكنهم واراضيهم.. فقفز علي ورفاقه ولحقهم الباقون فجلسوا على صدور ورقاب هؤلاء المفبركون، فهم تقليد كاذب غير اصلي لا باللون ولا بالرائحة!
هكذا حدثني علي ابو حسين، الذي كان عازبا ايام ذلك الاعتقال – الحصار واليوم هو في منتصف السبعينيات يسكن وسط قبيلة من الابناء والبنات اكبرهم ابنه حسين واكبر البنات محسوبتكم كاتبة هذه الاوجاع، ولأبي اقول:
أيها الرجل المجبول بالصدق والحب الذي لا يوصف لهذه الارض
ان الشمس والفجر سيمران من هنا
ليطيحا بهذا العصر الخؤون.. العصر الاحتلالي.. الذي احرقتكم شمس اعتقالاته وحصاره وما زالت تمزق طائرات اطفالنا الورقية لتحلق طائراتها المعدنية قاذفة بلهيب كراهيتها واغتصاباتها.
(مجد الكروم)
اسمهان خلايلة *
الأثنين 19/5/2008