الدعوة للإضراب العام في مصر: ماذا بعد؟
لم يكن أحد يتصوّر أنّ إعلانا صدر عن مجموعة شباب، ليس من بينهم أحد من محترفي السياسة، على موقع «facebook» بالدعوة لإضراب عام ضدّ تدني الأجور وزيادة الأسعار، يمكن أن يسبب كل هذا الضجيج الذي حدث في مصر، بل ويدفع إلى هذا القدر الهائل من الدعاية والتعبئة الحكومية المضادة. الدعوة لما حدث يوم 6 نيسان الماضي بدأت من المحلّة، بإعلان عمال شركة الغزل إضرابهم في ذلك اليوم، ومطالبة باقي القوى والحركات بالتضامن معهم. ثم تلقّفت الدعوة القوى الجذرية الصغيرة وشباب الـ «facebook» وأعلنوا الإضراب العام. وإذا كان صحيحا أنّ الدعوة لإضراب عام كانت قفزا على مستوى الصراع الطبقي في مصر خلال المرحلة الراهنة، وما كان لها أن تنجح، فإن من الصحيح أيضا أنها حققت صدى واسع الانتشار، لم يحدث كنتيجة لدعاية القوى الجذرية الصغيرة، وإنما تحقق بفضل شباب الـ «facebook»، وشبكة الإنترنت. أما الدعوة إلى إضراب 4 أيار، فقد كانت من المبتدى إلى المنتهى دعوة تخصّ هؤلاء الشباب، انطلقت بالأساس بفضل ما حقّقته المرة الأولى من صدى، وحملت في طياتها تحدٍّ واضح باختيارها للإضراب في اليوم الذي أتم فيه مبارك عامه الثمانين، حيث عوّدتنا أبواق النظام تحويل ذلك اليوم من كل عام إلى محفل للثناء على مبارك وتبجيله والتسبيح بحمده. إطلاق دعوة للإضراب العام في ذلك التاريخ، يعني ضمنا إعلانا برفض مبارك ونظامه ومحافله. ومن الواضح أن هذا التحدّي استفز النظام المصري، وعلى حدّ تعليق لأحد رجال السلطة، هو نائب رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان، كمال أبو المجد فـ«إن اختيار اليوم الذي يناسب الاحتفال بميلاد الرئيس مبارك يجافي الذوق، ويعدّ خروجا على اللياقة». ورغم التحدّي الذي حملته الدعوة لإضراب عام يوم ميلاد مبارك، فإن بقيت دعوة مغامرة غير قابلة عمليا للتنفيذ، يمكنها فقط تحقيق صدى واسع، لكنها تفتقد الأدوات المطلوبة للتعبئة وسط القطاعات الاجتماعية القادرة على فرض إضراب عام. فالقوى الداعية للإضراب ــ الشباب المنخرطون في مواقع الإنترنت ــ هي بطبيعتها قوى غير منظّمة، لا يوحّدها إطار فكري أو برنامجي ما، وليس لها نفوذ وسط جماهير المنتجين، ولا تملك أهدافا محدّدة أو برنامجا بعينه للمطالب. كما أن الدعوة للإضراب نفسها كانت تحمل طابعا سلبيا، خرجت تحت شعار «خليك في البيت»، أي أن هدف التعبئة هو دفع من يستجيبون للدعوة إلى البقاء في منازلهم، لا إلى تعبئتهم للتجمهر أو التظاهر أو الاعتصام، وبالتالي إلى فتح الباب أمام إمكان تطوير حركة جماهيرية قادرة على خوض صدام سياسي أوسع. أما المفارقة التي حملتها الدعوة لإضراب 4 أيار، فكانت إعلان الإخوان المسلمين استجابتهم لها، رغم رفضهم السابق للمشاركة يوم 6 نيسان، وهو الذي كان ذا صدى أوسع وزخم أكبر بكثير. والمؤكد أن استجابتهم هذه جاءت ردا على ما أصدرته المحكمة العسكرية من أحكام مشددة ضد قادتهم، إلا أنها كانت تتماشى بوضوح مع السياسة التي انتهجوها خلال العامين الماضيين. فالدعوة إلى «خليك في البيت» تعني من جانب إعلان الغضب، ومن جانب آخر تحاشي الصدام، وهذا ما اتّبعه الإخوان منذ تحويل قادتهم إلى المحاكم العسكرية، ودفعهم إلى التراجع عن الحركة في الشارع التي مارسوها عام 2005، رغم ما يواجهونه من عسف يومي. وقد أكّد نائب المرشد محمد حبيب، في أحد تصريحاته أنّ استجابتهم للدعوة للإضراب جاءت بسبب طابعها السلمي غير الصدامي، وقصور الأمر على البقاء في المنازل. هذا الأداء المتخاذل من الإخوان في مواجهة ديكتاتورية مبارك طوال عامين أسفر عن انقسامات ذات شأن في أوساطهم، وجعل عددا من قيادييهم البارزين يتحدثون علنا عن رفضهم لسياسة الجماعة. والمفارقة أن استجابتهم للدعوة أدت إلى المزيد من الانقسامات داخلهم، وإلى المزيد من الهجوم العلني لشبابهم على سياستهم، وتحديدا بسبب الطابع السلبي لفكرة «خليك في البيت»، وخاصة بعد الأحكام العسكرية المشددة التي صدرت ضدهم. المهم في الأمر أن ما أحدثته الدعوة الأولى من صدى، إضافةً إلى إعلان الإخوان المشاركة في الإضراب الثاني سبّبا حالة فزع لدى الدوائر الدعائية الحكومية، كشفت مدى الارتباك الذي صاروا عليه في ظل تفاقم الأزمة الاجتماعية في مصر. وصل الأمر إلى التبكير بموعد خطاب مبارك في عيد العمال، المقرَّر مسبقا إلقاؤه يوم 5 أيار، ليلقيه يوم 29 نيسان حتى يستبق الحدث، هذا علاوة على الهجوم على فكرة الإضراب وعلى «المتآمرين» داخل مواقع الإنترنت، والطنطنة بالإنجازات الاقتصادية وبقدرة الدولة على التحكُّم في الأسعار، الذي استمر بكثافة طوال أسبوعين، في كل الصحف ومحطات التليفزيون الحكومية. أما الخطوة المضادة الأهم في مواجهة الدعوة للإضراب فكانت ما أعلنه مبارك في خطابه عن زيادة العلاوة السنوية لجميع العاملين بالدولة والشركات الحكومية بنسبة 30 في المائة من الأجر الثابت، وهي نسبة لا تحقّق عمليا الكثير، لأنّ الأجور الثابتة للعاملين في الدولة تمثل جزءا محدودا من الأجر الحقيقي الذي يقوم في معظمه على الأجور المتغيرة (الحوافز، والأرباح، والمكافآت...). ورغم الأثر المحدود للعلاوة، إلا أنهم استخدموها دعائيا بشكل مكثف خلال الأيام السابقة على خطاب الرئيس. ويمكن القول إنّ هذه الدعاية أدّت دورا بدرجة ما في تحجيم الاستجابة فعليا للدعوة إلى الإضراب. ولكن الأهم أنّ جهاز الأمن استفاد من درس إضراب 6 نيسان، حيث أدت التهديدات والاستنفار الأمني يومها إلى عزوف جماهير كثيرة عن الخروج من منازلها تحاشيا للعنف المرتقب، ممّا أحدث أثرا لافتا لمصلحة الإضراب السلبي. لذا تحاشى النظام هذه المرة بوضوح التسبب في أي نوع من الاستنفار. الاستثناء الوحيد كان في مدينة المحلة، التي تحوّلت إلى ثكنة عسكرية، وخضعت لاحتلال شديد الكثافة من جانب قوات الأمن لمنع أي محاولة للتظاهر. وفي غمرة شعور النظام بالنجاح في عبور فخ الإضراب دون خسائر، خرج رئيس الوزراء أحمد نظيف، مؤكدا أنه ليس هناك أي خطط لزيادة الأسعار، وأن الحكومة على العكس من ذلك بصدد اتخاذ إجراءات «قوية» لخفض الأسعار. وفي اليوم نفسه، بعد عدة ساعات من هذا التصريح، تقدّمت الحكومة بإجراءاتها إلى مجلس الشعب، وهي مجموعة قرارات تقضي برفع أسعار البنزين والغاز والسجائر، وإلغاء الإعفاءات الضريبية الممنوحة للمؤسّسات التعليمية! وبالطبع أقر المجلس بأغلبيته الحكومية جميع القرارات، رغم صيحات المعارضة ونواحها. والذي لا شك فيه أن ما تم إقراره سيكون له آثار شديدة الوطأة على الناس، فهو لن يبتلع علاوة الـ30 في المئة فحسب، وإنما يبتلع معها ما بقي من قوت لدى المواطن المصري البسيط. وإذا كان أحد لم يتوقع أن تسفر الدعوة للإضراب العام يوم 4 أيار عن إضراب عام كامل، أو حتى جزئي في بعض المواقع، إلا أن ما أحدثته من صدى واسع أدهش الجميع، فلم يعتَد محترفو السياسة في مصر تقدير الأثر البالغ لشبكات التواصل الاجتماعي الحديثة، وما توفّره التكنولوجيا المتقدمة من إمكانات. أما النظام، فيتصرف كمن وقع في فخ، فهو أمام فاعل مجهول غير محدّد المعالم، لا يقدر على التعامل معه بطرقه التقليدية، فضلا عن أن هذا الفاعل يعبث معه في ظرف أزمة عنيفة، هو غير قادر عمليا على الفكاك منها. نحن أمام جمهور واسع من الشباب الغاضبين، غير المنتمين سياسيا، بل وغير الواثقين بقدرة السياسة التقليدية والقوى المعبّرة عنها على تحقيق الخلاص، يملكون أداة سحرية هم أمهر من يتعاملون معها. وهو ثمن الفراغ السياسي الذي أحدثه نظام مبارك بقمعه المتواصل طوال ربع قرن، وتواطؤ المعارضة الإصلاحية من مختلف تياراتها معه، وتخاذلها في مواجهته... فماذا سيفعل هؤلاء إزاء إجراءات رفع الأسعار الأخيرة؟ وماذا سيفعل العمال في المحلة وغيرها من مواقع الإنتاج في مصر ضد تلك الإجراءات؟ * صحافي مصرييحيى فكري السبت 17/5/2008 |