محمود درويش في الذكرى الستين للنكبة: لم أزل حيّا!



لا يحتاج الفلسطينيون ان تبلغ النكبة عمرها الستين ليتذكروها، فهي موجودة بينهم كل يوم. هي التي رسمت مصائرهم النضالية والمعيشية وأسست لرحلة العودة في الأدب والفكر والعمل السياسي والخيال الشعبي. تلك العودة التي لم تتحقق بعد. لا يحتاج محمود درويش ان تبلغ النكبة عامها الستين كي يتذكرها. فهي، تقريبا، عمره الكامل الذي بدأه طفلا شريدا في لبنان، ثم لاجئا على ارض وطنه بعد ان دمر لكن مع ذلك لم يترك درويش هذه الذكرى التراجيدية، «البروة» الغزاة مسقط رأسه تمر من دون كلمة. وكلمة محمود درويش، كما يمكن توقعها، هي في الشعر.

 

على محطة قطار سقط عن الخريطة

محمود درويش

عُشْبٌ، هواء يابس، شوك، وصبار
على سلك الحديد. هناك شكل الشيء
في عبثية اللاشكل يمضغ ظِلَّهُ...
عدم هناك موثق.. ومطوَّقٌ بنقيضه
ويمامتان تحلقان
على سقيفة غرفة مهجورة عند المحطةِ
والمحطةُ مثل وشم ذاب في جسد المكان
هناك ايضا سروتان نحيلتان كإبرتين طويلتين
تطرّزان سحابة صفراء ليمونيّةً
وهناك سائحةٌ تصوّر مشهدين:
الأوّلَ، الشمسَ التي افترشتْ سرير البحرِ
والثاني، خُلوَّ المقعدِ الخشبيِّ من كيس المسافرِ

(يضجر الذهب السماويُّ المنافقُ من صلابتهِ)

وقفتُ على المحطة.. لا لأنتظر القطارَ
ولا عواطفيَ الخبيئةَ في جماليات شيء ما بعيدٍ،
بل لأعرف كيف جُنَّ البحرُ وانكسر المكانُ
كحجرة خزفية، ومتى ولدتُ وأين عشتُ،
وكيف هاجرتِ الطيورُ إلى الجنوب أو الشمال.
ألا تزال بقيتي تكفي لينتصر الخياليُّ الخفيفُ
على فساد الواقعيِّ؟ ألا تزال غزالتي حُبلَى؟

(كبرنا. كم كبرنا، والطريق إلى السماء طويلةٌ)

كان القطار يسير كالأفعي الوديعة من
بلاد الشام حتي مصر. كان صفيرُهُ
يخفي ثُغاءَ الماعزِ المبحوحَ عن نهم الذئاب.
كأنه وقت خرافي لتدريب الذئاب على صداقتنا.
وكان دخانه يعلو على نار القرى المتفتّحات
الطالعات من الطبيعة كالشجيراتِ.

(الحياةُ بداهةٌ. وبيوتنا كقلوبنا مفتوحةُ الأبواب)

كنا طيبين وسُذَّجا. قلنا: البلادُ بلادُنا
قلبُ الخريطة لن تصاب بأيَّ داءٍ خارجيٍّ.
والسماء كريمة معنا، ولا نتكلم الفصحى معا
الا لماما: في مواعيد الصلاة، وفي ليالي القَدْر.
حاضُرنا يسامرنا: معا نحيا، وماضينا يُسلّينا:
اذا احتجتم إليّ رجعتُ. كنا طيبين وحالمين
فلم نر الغدَ يسرق الماضي.. طريدَتَهُ، ويرحلُ

(كان حاضرنا يُرَبِّي القمح واليقطين قبل هنيهة،
ويُرقِّصُ الوادي)

وقفتُ على المحطة في الغروب: ألا تزال
هنالك امرأتان في امرأة تُلَمِّعُ فَخْذَهَا بالبرق؟
اسطوريتان ـ عدوّتان ـ صديقتان، وتوأمان
على سطوح الريح. واحدةٌ تغازلني. وثانيةٌ
تقاتلني؟ وهل كَسَرَ الدمُ المسفوكُ سيفا
واحدا لأقول: إنّ إلهتي الأولى معي؟

(صدَّقْتُ أغنيتي القديمةَ كي أكذّبَ واقعي)

كان القطار سفينةً بريةً ترسو.. وتحملنا
إلى مدن الخيال الواقعية كلما احتجنا إلى
اللعب البريء مع المصائر. للنوافذ في القطار
مكانةُ السحريِّ في العاديِّ: يركض كل شيء.
تركض الاشجار والافكار والامواج والابراج
تركض خلفنا. وروائح الليمون تركض. والهواء
وسائر الاشياء تركض، والحنين إلى بعيد
غامضٍ، والقلب يركضُ.

(كلُّ شيءٍ كان مختلفا ومؤتلفا)

وقفتُ على المحطة. كنت مهجورا كغرفة حارس
الأوقات في تلك المحطة. كنتُ منهوبا يطل
على خزائنه ويسأل نفسه: هل كان ذاك
العقلُ / ذاك الكنزُ لي؟ هل كان هذا
اللازورديُّ المبلَّلُ بالرطوبة والندى الليليِّ لي؟
هل كنتُ في يوم من الأيام تلميذَ الفراشة
في الهشاشة والجسارة تارة، وزميلها في
الاستعارة تارة؟ هل كنت في يوم من الايام
لي؟ هل تمرض الذكرى معي وتُصابُ بالحُمَّى؟

(أرى أثري على حجر، فأحسب انه قَمَري
وأنشدُ واقفا)

طللية اخرى وأُُهلك ذكرياتي في الوقوف
على المحطة. لا أحب الآن هذا العشب،
هذا اليابس المنسيّ، هذا اليائس العبثيَّ،
يكتب سيرة النسيان في هذا المكان الزئبقيِّ.
ولا أحب الأقحوان على قبور الأنبياء.
ولا أحب خلاص ذاتي بالمجاز، ولو أرادتني
الكمنجةُ ان اكون صدى لذاتي. لا احب سوى
الرجوع إلى حياتي، كي تكون نهايتي سرديةً لبدايتي.

(كدويّ أجراسٍ، هنا انكسر الزمان)

وقفتُ في الستين من جرحي. وقفتُ على
المحطة، لا لأنتظر القطار ولا هتاف العائدين
من الجنوب إلى السنابل، بل لأحفظ ساحل
الزيتون والليمون في تاريخ خارطتي. أهذا...
كل هذا للغياب وما تبقي من فُتات الغيب لي؟
هل مرَّ بي شبحي ولوّح من بعيد واختفى
وسألتُهُ: هل كلما ابتسم الغريبُ لنا وَحَيَّانا
ذبحنا للغريب غزالةً؟

(وقع الصدى مني ككوز صنوبرٍ)

لا شيء يرشدني إلى نفسي سوي حدسي.
تبيض يمامتان شريدتان رسائلَ المنفى على كتفيَّ،
ثم تحلقان على ارتفاع شاحب. وتمرُّ سائحةٌ
وتسألني: أيمكن ان أصوّركَ احتراما للحقيقة؟
قلت: ما المعنى؟ فقالت لي: أيمكن ان أصوّرك
امتدادا للطبيعةِ؟ قلت: يمكنُ.. كل شيء ممكنٌ.
فَعِمِي مساءً، واتركيني الآن كي أخلو إلى
الموت.. ونفسي!

(للحقيقة، ههنا وجه وحيدٌ واحدٌ
ولذا.. سأنشد:)

أنتَ أنتَ ولو خسرتَ. أنا وأنتَ اثنان
في الماضي، وفي الغد واحد. مَرَّ القطار
ولم نكن يَقِظَيْنِ، فانهض كاملا متفائلا،
لا تنتظر احدا سواك هنا. هنا سقط القطار
عن الخريطة عند منتصف الطريق الساحليِّ.
وشبَّت النيرانُ في قلب الخريطة، ثم اطفأها
الشتاء وقد تأخر. كم كبرنا كم كبرنا
قبل عودتنا إلى أسمائنا الأولى:

(أقول لمن يراني عبر منظار على بُرْجِ الحراسةِ:
لا أراكَ، ولا أراكََ)

أرى مكاني كُلَّهُ حولي. أراني في المكان بكل
أعضائي وأسمائي. أرى شجر النخيل ينقّح
الفصحي من الأخطاء في لغتي. أرى عادات
زهر اللوز في تدريب أغنيتي على فرح
فجائيٍّ. ارى أثري وأتبعه. أرى ظلي
وأرفعه من الوادي بملقط شعر كنعانية
ثكلي. أرى ما لا يُرى من جاذبيةِ
ما يسيل من الجمال الكامل المتكامل الكُليِّ
في أبد التلال، ولا ارى قنّاصتي.

(ضيفا على نفسي أحلُّ )

هناك موتي يوقدون النار حول قبورهم.
وهناك احياءٌ يُعِدّون العشاء لضيفهم.
وهناك ما يكفي من الكلمات كي يعلو المجاز
على الوقائع. كلما اغتمَّ المكانُ أضاءه
قمر نُحاسيٌّ وَوَسَّعَهُ. انا ضيف على نفسي.
ستحرجني ضيافتها وتبهجني فأشرق بالكلام
وتشرق الكلمات بالدمع العصيّ. ويشرب الموتي
مع الأحياء نعناع الخلود، ولا يطيلون
الحديث عن القيامة

(لا قطار هناك، لا أحد سينتظر القطار)

بلادنا قَلْبُ الخريطة. قلبها المثقوبُ مثل القرش
في سوق الحديد. وآخر الركاب من احدى
جهات الشام حتى مصر لم يرجع ليدفع اجرة
القناص عن عمل اضافيٍّ كما يتوقع الغرباء.
لم يرجع ولم يحمل شهادة موته وحياته معه
لكي يتبين الفقهاء في علم القيامة أين موقعه
من الفردوس. كم كنا ملائكة وحمقي حين
صدقنا البيارق والخيول، وحين آمنّا بأن جناح
نسر سوف يرفعنا إلى الأعلى!

(سمائي فكرةٌ. والأرض منفايَ المُفَضَّلُ)

كلُّ ما في الأمر اني لا اصدق غير حدسي.
للبراهين الحوار المستحيلُ. لقصة التكوين
تأويلُ الفلاسفة الطويلُ. لفكرتي عن عالمي
خَلَلٌ يسبّبه الرحيل. لجرحي الأبديِّ محكمة
بلا قاض حياديٍّ. يقول لي القضاة المنهكون
من الحقيقة: كل ما في الامر أن حوادث
الطرقات أمرٌ شائع. سقط القطار عن
الخريطة واحترقتَ بجمرة الماضي. وهذا لم
يكن غزوا!
ولكني اقول: وكل ما في الأمر اني
لا اصدّق غير حدسي.

محمود درويش
الجمعة 16/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع