بحثت عنه في بيته فلم أجده، قالت لي زوجته العجوز: الحق به غربي المخيم، وستجده حتما هناك جالسًا تحت شجرة زيتون.. كانت الشمس على وشك المغيب، فأسرعت الخطى كي أجده هناك قبل أن يعود لأداء صلاة المغرب في مسجد المخيم.. وبالفعل نجح مخططي، والتقيته هناك يحتمي في ظل شجرة زيتون رومية، في كرم ليس بعيدا كثيرا عن منازل المخيم، كهل طاعن في السنّ، جاوز الثمانين من عمره، تجاعيد وجهه تقول انه قد واجه الأهوال في حياته، يعتمر كوفية بيضاء وعقالاً (مرعزًا) ويرتدي قمبازا مقصبا يلف وسطه بحزام جلدي من النوع العريض. يفترش الأرض جالسا منهمكا في لفّ سيجارة من دخّان (الهيشي البلدي) من علبة معدنية صدئة غاية في القدم، يداه ترتجفان بوضوح، ويلصق ورق السيجارة بلعاب شفتيه، فتخاله ومن شدّة ترفقه بالسيجارة وحرصه الزائد على إتقانها وكأنه يقبّل محبوبة..
قطعت عليه وحدته واستغراقه بالتفكير حين كان يهم بإشعال السيجارة باستخدام قداحة قديمة تعمل بالكاز.. طرحت عليه السلام واستأذنته بالجلوس عنده.. فرحّب بي وترحّم بادئا على روح أبي الذي كان يعرفه جيدا قائلا بتنهّد: (إيه يا عمّي.. مات أبوك وارتاح وتركنا هنا للعذاب... والله زلام زمان ما الهم مثيل في هذا الزمن.. واللّي بروح ما بيجي زيّه).
قلت لنفسي وأنا أهم بالجلوس... نحن الآن في ذكرى النكبة الستين، ومن المؤكد أن هذا الكهل الطّاعن في السنّ يختزن في ذاكرته كمّا هائلا من المعلومانت عن الديار الأولى، وعن رحلة العذاب والتشرّد، وعن حياة اللجوء في المخيمات، وبدون تردد استقرّ الرأي عندي على استنزاف معلوماته عن حياة المخيمات، لأنني قد عشت جزء مهما منها... وبدأت أفكّر كيف أبدا حديثي معه، وكيف ادفعه للحديث بتلقائيّة وسلاسة..؟ كيف لي أن استفزّه ليقوم بسرد ولو جزء من تجربته الشخصيّة.. فبدأت الحديث بطريقة تهكمية قائلا: ها أنت يا شيخ ترتاح وتنام ليلك الطويل بينما أجيالنا يذوقون العذاب ويواجهون مصاعب الحياة التي أورثتمونا انتم إيّاها..!!
عندها أشعل الشيخ سيجاره واخذ منها نفسا عميقا ونفخ الدخان في وجهي قائلا بصوت متهدّج: (الله يظلم إلّي ظلمنا جميعا.. الله عالانجليز واليهود والزعامة العربية.. إحنا يا عمّي كنّا جميعا ضحية التآمر الدولي إللّي ما انتهى لغاية اليوم).. واصلت استفزازه بالقول انتم جيل النكبة دائما تبالغون في الحديث عن معاناتكم مع أنها لا تقارن بما نعيشه اليوم في زمن الحصار والإغلاق..!! فتبسّم ساخرا وقال لي من حقّكم انتم أبناء جيل اليوم أن تعتبروا أنفسكم الأكثر تعرضا للظلم في العالم.. هذا لأنكم لم تعيشوا ظروفنا الأولى، ولم يحدّثكم احد كيف أصبحنا نحن أصحاب الأطيان والأملاك بين يوم وليلة مشرّدين مطاردين لا نملك من الدنيا شيئًا.. انتم يا عمي ولدتم في ظروف النعيم بالمقارنة مع ظروفنا..
وهنا أدركت أنني نجحت في إدخال الشيخ في مصيدتي وأنني فتحت جرحه القديم الذي من الواضح انه لم يندمل بعد، فعاودت استفزازه بالقول له: أنا أيضا مثلك يا شيخ لاجئ ولم المس قساوة الحياة التي تتحدث عنها.. فانفجر الشيخ غاضبا وقال: أنت يا عمّي لاجئ من زمن آخر، أنت لم تذق طعم الهوان والذلّ والجوع والفقر، سأسألك يا بني عن بعض جوانب حياة الشّظف التي عاشها جيلنا، فان كنت تذكرها فأنت لاجئ، وان كنت قد سمعت أن جدّك أو أبوك قد مرّا بها فهذا يعني انك لاجئ ابن لاجئ...
أتذكر يا بني (يوم المؤن)، الذي كنّا نشبّهه في أيامنا بيوم القيامة..؟! حيث كان كل أهالي المخيم يتجمّعون منذ الصباح على باب التموين ويتشاجرون ويتناحرون على الأماكن في الطابور، وكيف كان فرسان الجيش يأتون لينظّموا الناس بعصي الخيزران؟
أتذكر يا بني يوم توزيع البقج (طرود الملابس المستعملة) وكم كان الأطفال يسرعون الخطى لإيصالها لبيوتهم ويتشوّقون للحظة التي تقوم أمهم بفتح البقجة وإعطاء كل واحد منهم حصته- بنطال أو حذاء أو قميص أو كبّوت- ليلبسه ويخرج به إلى الشارع ويتباهى به أمام أقرانه.. مهما كان مقاس ذاك اللباس كبيرًا؟
أتذكر مطاعم الوكالة والحليب وكيف كان الأطفال والشباب وحتى بعض الكهول يصطفون بالطابور لينالوا نصيبهم ويتناولوا وجبة غداء- قد تكون هي الوحيدة في ذلك النهار؟ أتذكر لماذا كان الأطفال يحبون المطعم أكثر في يوم الأربعاء؟ (وذلك لأن المطعم كان يقدم وجبة من الكفتة ويقدم طبق حلوى من القسطر أو الشعريّة).
أتذكر حنفيّات المياه العامة التي كانت مقامة في كل حارة؟ وكم كانت تنشب الصراعات والطّوش بين النساء وهن يتسابقن... من تملأ جرارها أوّلاً؟
أتذكر المراحيض العامّة..؟ حين لم يكن في أي بيت في المخيم وحدة صحية خاصة، وكم كان الوضع محرجا للنساء وهن يدخلن المراحيض على مرأى من الرجال؟
أتذكر أزقة المخيم في فصل الشتاء..؟ وكم مرة تزحلقت في الوحل وعدت للبيت غارقا بالأوساخ لتنال عقابك الشديد من أمك؟ أتذكر كم مرة فقدت فيها حذاءك البلاستيكي حين كانت أرجلك تغوص في أعماق الطّين- هذا إذا كان لديك حذاء لتلبسه..
أتذكر السينما الجوّلة أداة الترفيه التي كانت تحضرها لنا الوكالة مرة أو مرّتين في العام؟ لنجلس جميعا نساء ورجالا في الخلاء أمام شاشة كبيرة (هي جدار المدرسة) ونشاهد أفلام فريد شوقي؟
أتذكر كيف كنتم تسعة أخوة وأم وأب تعيشون في غرفة بنتها لكم الوكالة بمقاس (3*3) ومعها أحيانا ملحق صغير..؟ وكيف كنتم جميعا تغتسلون فيها وتعد لكم أمكم فيها الطعام ويستقبل فيها أيضا والدكم الضيوف وفي آخر الليل تنامون جميعا فيها في صفوف؟
أتذكر حقائب المدرسة التي كان أطفال اللاجئين يحملونها..؟ وكيف كانت مصنوعة على أيدي أمهاتهم من القماش (الخيش)..
أتذكر أن تلاميذ مدارس وكالة الغوث كانوا يحلقون رؤوسهم على درجة الصفر..؟ وذلك حفاظا على نظافتها وللوقاية من حشرة القمل التي كانت منتشرة بسبب تدني مستوى النظافة لقلة المياه..
أتذكر انك لبست بنطالا أو قميصا به ألف رقعة ورقعة..؟
أتذكر انك أمضيت أياما وأسابيع دون أن يكون في جيبك ملّيم احمر..؟
أتذكر النباتات البرّيّة- كالخبّيزة والعلت واللّوف- وهي تتصدر مائدتكم في معظم الأيام..؟
أتذكر أيام كان في المخيم عددا ضخما من المقاهي تمتلئ بالشباب وحتى كبار السن..؟ يمضون فيها طيلة نهارهم وحتى منتصف الليل... لأنهم بدون عمل..
أتذكر ألعاب الأطفال المفضّلة- عرب ويهود- وعسكر وحرامية- والزّرينة- والكومستير..؟ وكيف كان أولاد الحارة الواحدة يشكّلون حلفا مقدّسا ليهاجموا أولاد الحارات الأخرى..
أتذكر كم سمعت عبارات التندّر والاستهزاء والحطّ من مكانة اللاجئين..؟
أتذكر كم كانت الحكومة تجنّد مخبرين تسلّطهم على الناس ليتجسّسوا ويحصوا أنفاس البشر..؟ وكم مرة ضبطّهم يسترقون السّمع خلف الشّبابيك، ويتلصلصون من الثّقوب..
وأنهى الشيخ كلامه والمؤذّن ينادي على صلاة المغرب معتذرا عن إكمال الحكاية بالقول: يا عمّي إن ما ذكرته لك ما هو إلا جزء بسيط مما واجهه معظم اللاجئين بعد لجوئهم وتشريدهم من ديارهم الأولى... وأوصيك أن تحفظ ما قلته لك، وان تنقله لأبناء جيلك علهم لا ينسون.
(مخيم الفارعة)
خالد منصور
الجمعة 16/5/2008