* الفتنة أشد ضراوة من إسرائيل.. *
لعل أبهى «هدية» تلقتها إسرائيل في احتفالها بالعيد الستين لإقامتها بالقوة ثم تطويبها «دولة اليهود» بلسان الرئيس الأميركي جورج بوش، هي تلك التي جاءتها من لبنان وعبر الأزمة السياسية التي افتعلتها السلطة، قبل أسبوع، بقرارها المشبوه حول سلاح المقاومة، مع وعيها بأن الرد عليه سيكون حاسماً ومن «طبيعة عسكرية» لا يقلل من أذاها على الجميع أنها اضطرارية، خصوصاً في ظل الانقسام السائد والقابل لأن يشتعل فتنة عمياء تؤذي لبنان جميعاً وبعنوانه المقاوم أساساً.
و«الهدية اللبنانية» التي تم توقيت تقديمها لإسرائيل من ضمن سلة الهدايا العربية التي لا عين رأت بمثل جلالها ولا أذن سمعت بمثل وهجها الدموي الذي لا يقدر بثمن، كانت الأعظم قيمة بين ما تلقته «دولة اليهود» التي أقامتها القوة على أنقاض فلسطين وعلى حساب شعبها وهوية هذه الأرض العربية وحقوق أهلها في أن يبنوا مستقبلهم فوق أرضهم بقدراتهم، كما كانت الحال مع أمم أخرى سبقتهم إلى الوحدة والتقدم والديموقراطية.. وحقوق الإنسان.
ولم يحدث أن احتفل «العالم» بمناسبة يجللها الظلم (الدولي) والحقد العنصري وقهر الشعوب (الأخرى) وامتهان قيم الحق والعدالة والمساواة بين البشر، كهذا الاحتفال الاستفزازي الفخم الذي تجري مراسمه في إسرائيل بحضور حشد من القادة والرؤساء وأصحاب الأسماء اللامعة في مجالات الإنجاز الفكري والعلمي ندر أن تلاقوا في مناسبة مشابهة في أي زمان أو مكان.
على أن الحقيقة الجارحة هي أن إسرائيل، الدولة التي أقيمت بحد السيف على أرض شعب كان آمناً في وطنه فشردته وقهرت أمته جميعاً، برغم ملايينها التي لا تحصى، تستحق مثل هذا الاحتفال الفخم الذي يقام فوق ركام أحلام هذه الأمة المقهورة بأنظمتها القامعة والمتخلفة، وهي هي التي مهّدت للنكبة، وهي هي التي تستمد دوامها من استمرار هذه النكبة بكل مفاعيلها المدمرة لطاقات الأمة وجهود إنسانها.. وحقوقه.
«المجتمع الدولي» لا يتعامل مع الماضي ولا يعترف بالذكريات، مهما كانت مؤثرة، ولا يعيد حقوقاً لم يحفظها أهلها. إنه يتعامل، وبقسوة، مع الأمر الواقع. والأمر الواقع تصنعه القوة. ولا يعوّض التاريخ أمة ضيّعت أسباب قوتها ووقفت على بابه تندب حظها وتتظلم وتتسول الرأفة بها... بل لعل بعضها يبيع جلد بعضها الآخر بذريعة استنقاذ نفسه، مغلقاً بذلك دائرة العجز وافتقاد الهوية والتيه في أحضان المهانة!
... وها هو الرئيس الأميركي جورج بوش يصل إلى عيد إسرائيل اليوم، محملاً بكنوز الهدايا التي هي بمعظمها عربية المنشأ، فيقدم لها ـ قبل الدعم المباشر وبعده ـ أشلاء العراق وجراح لبنان (الذي لم ينس أن يشد أزر سلطته حتى كاد يخنقها بحبه)، فضلاً عن التيه الفلسطيني في غمار «خريطة الطريق» التي تُضل ولا تهدي، لأن كلمة «فلسطين» مُسحت عن بوصلتها لتبقى إبرتها متجهة إلى «إسرائيل دولة اليهود»، كيفما كان حالها!
والهدايا «عربية» لأن ملوك الطوائف العرب فرّطوا بالعراق غير مرة، حتى إذا ما اجتاحه الاحتلال الأميركي لم يجد من يقاومه فيه، وكان سهلاً عليه أن يغوي أولئك الملوك فيقنعهم أن «الفتنة» هي أفضل ضمان لهم في وجه شعوبهم، فأسهموا في إشعالها في أرض الرافدين، مع وعيهم أن ألسنة نيرانها ستمتد من أدنى أرض العروبة والإسلام إلى أقصاها، وبهذا تنشغل عنهم زمناً إضافياً (يربحه الاحتلال ومعه إسرائيل)... بل إن الفتنة قد تجعل شعوبهم تعود إلى طاعتهم صاغرة: أوليست الفتنة أشد من القتل؟!
وها أن الفتنة التي وجدت من يوقظها في لبنان تحاصر الظاهرة النبيلة التي نشأت فيه ونمت حتى غدت مقاومة مهابة تستطيع إنجاز التحرير وإجلاء الاحتلال الإسرائيلي (في مثل هذه الأيام من العام ألفين)، وتقدر على الصمود في مواجهة الحرب الإسرائيلية ـ بقرار أميركي ـ لمدة ثلاثة وثلاثين يوماً وتخرج منتصرة، في تموز ,2006 بينما تغرق إسرائيل ـ حكومة وجيشاً ومجتمعاً ـ في مستنقع الهزيمة، يتبادل مسؤولوها الاتهامات بالتقصير ونقص الكفاءة والإهمال، ثم يتلاقون جميعاً على كتمان السر حرصاً على هيبة الكيان ودولته، ويفضلون محاسبة إيهود أولمرت بتهمة خراب الذمة والفساد، وليس على التسبب بالهزيمة، كما وزير دفاعه.
ولأن الفتنة أشد ضراوة من إسرائيل، فقد كان لا بد من محاصرة هذه المقاومة بأفخاخ التضييق على حقوقها، والاتهامات التي تطاول شرف سلاحها وتكاد تمسها في وطنيتها، فتصور تارة وكأنها «قوة وافدة»، وطوراً وكأنها طوابير من «العملاء» ينتظمون في ميليشيا تعمل لخدمة أهداف الغير، ومرة ثالثة وكأنها «عصابة إرهابية» تنهب المال العام.. (وكأن الذين اتهموها في شرفها لم يعرفوا الحرام، ولا مدوا أيديهم إلى ما تبقى من مال عام، ولا هم عاثوا فساداً على امتداد تاريخهم الطويل في السلطة)..
ومن حق أي مواطن أن يتساءل اليوم، وهو في قلب محنة هذا الوطن الصغير: هل كان توقيت الاتهام المتجني للمقاومة بأنها بسلاح الإشارة عندها، وهو بعض مكمن السر في صلابتها وانتظام تحركاتها وبالتالي انتصاراتها، إنما كانت تنهب «المال العام»، وتتصرف وكأنها عصابة إرهابية، فيطالبها بعض أهل السلطة المختلف على شرعيتها بتقديمها للمحاكمة... (دولياً؟ وأمام مجلس الأمن)؟!
ألم يكن هذا التصرف الأخرق (إذا حسنت النوايا) استدراجاً للمقاومة إلى الداخل، لترد عنها الظلم، مع خطر الغرق في المستنقع الطائفي والمذهبي، مما يشوه صورتها ويحملها نتائج الارتكابات التي لا بد سترافق اللجوء إلى السلاح، خصوصاً أنها ليست وحدها من يملك السلاح، وليس كل من يحمله مؤهلاً للالتزام بقيمها، وبالتالي الانجرار إلى حيث يسهل اتهامها بأنها تستخدم سلاحها ضد أهلها، وهم هم حماة سلاحها، الذي سبق أن حماهم في الماضي، وهو مؤهل لأن يحميهم في الحاضر والمستقبل (وليس المدمرة الأميركية كول، ولا المشاريع الأميركية المشبوهة لاحتواء الجيش اللبناني بوهم تسليحه بما يلزم للاقتتال الأهلي، بينما هي قد منعت ماضياً وتمنع حاضراً وستمنع عنه مستقبلاً أي سلاح يفيده في الصمود أمام الاعتداءات الإسرائيلية التي لم تتوقف يوماً، أقله في الجو، مع استمرار احتلال بعض التراب الوطني..)؟
هل كانت هذه «هدية» لبنان إلى إسرائيل في العيد الستين لشطبها فلسطين عن الخريطة، كما توحي تصريحات القادة الإسرائيليين والرئيس الأميركي الذي يسجل السابقة في مشاركته باحتفال (استفزازي) كهذا؟
وإن كان «ملوك الطوائف العرب» قد هانت عليهم كراماتهم فلم يحاولوا منعه من إحراجهم... خصوصاً أنه سيذهب بعد الاحتفال مباشرة ليلتقي بعضهم، كما أنه استدعى بعضهم الآخر إلى شرم الشيخ وهي المدينة التي اصطنعت لتكون بديلاً من عاصمة مصر، القاهرة، فيطمئنهم إلى أن حسن سلوكهم مع إسرائيل في عيدها كان جيداً وسيحظون بالجوائز تقديراً لانضباطهم وتجاهلهم مآسي أمتهم في العراق تحت الاحتلال وفلسطين ولبنان، وغيرها كثير..
مرة أخرى: هل كان عفوياً ذلك القرار الهمايوني الذي اتخذته السلطة قبل أسبوع، بكل ما فيه من عناصر الاستفزاز والتفجير... خصوصاً أن «أهل هذه السلطة» يعرفون أنه غير قابل للتنفيذ، وأنه مجرد نفخ في نار فتنة سيلعن الناس من أيقظها؟!
[ [ [
إن عيد إسرائيل إنما يُصنع بهزائمنا، التي غالباً ما نصطنعها بأيدي ملوك الطوائف العرب من أهل السلطة والمال أما سلاحهم فبأيدي من له حق الإمرة، وهو أميركي الهوية أو الهوى، وكلاهما واحد.
وشموع العيد في إسرائيل إنما تضاء بنار الفتنة التي تتهدد بلادنا في وجودها، والتي لا يجوز تجهيل فاعلها ومن هو مسؤول عن توسيع دائرة الحريق في الداخل وفي المحيط العربي جميعاً، قبل أن نصل إلى مسؤولية الإدارة الأميركية أو ملوك دولة اليهود التي يُراد لها أن تكون بديلاً من فلسطين العربية.. مرة وإلى الأبد!
وها نحن جميعاً في المصيدة الدموية، بينما «تنير» دنيانا شموع احتفالات عدونا ـ أمس واليوم والغد ـ بذكرى انتصاره علينا، بمجموعنا، وإن كانت تنغص عليه فرحة العيد صورة هذا الوطن الصغير وقد قاتله حتى منع عنه النصر بدماء مجاهديه الذين يراد اليوم تشويه صورتهم تمهيداً «لتحرير» لبنان منهم، بعدما ضاق كل أهل السلطة في بلادنا بالجهاد والمجاهدين والانتصار اليتيم الذي يراد اغتياله بالفتنة... وبأيدي أهله في بيروت والجبل والشمال والبقاع فضلاً عن الجنوب الذي «احترف» أهله التضحية حتى كاد لا يعرف غيرها من أسباب الحياة.
طلال سلمان
الأربعاء 14/5/2008