في الذكرى الستين للنكبة: إغتصاب وطن وتشريد شعب



(عضو المكتب السياسي لحزب الشعب الفلسطيني)

تتواصل الاستعدادات والتحضيرات الفلسطينية في كل مكان لإحياء ذكرى مرور ستين عاما على النكبة الكبرى التي لحقت بشعبنا  في الخامس عشر من أيار عام 1948، والتي نفذتها العصابات الصهيونية بتواطؤ كامل مع دول الاستعمار القديم وزعيمتها بريطانيا الدولة المنتدبة على فلسطين آنذاك، فقامت بتوفير  كل عوامل النجاح للحركة الصهيونية  لتمكنها من نجاح مشروعها ألاحتلالي  في السيطرة على فلسطين وطرد أصحابها وهو ما  تحقق  في الخامس عشر من أيار قبل ستة عقود من الزمن، حيث نجح الصهاينة ليس بسرقة ارض بلا شعب كما يدعون فحسب ، بل سيطروا على دولة كانت مؤسساتها قائمة على الأرض  كان  شعبها يسعى لاستقلاله فطردوا سكانها في أوسع عملية تطهير عرقي منذ  الحرب العالمية الثانية، وكما تشير مجمل الأبحاث والدراسات   فقد  اغتصبوا دولة كانت قائمة بمؤسساتها المختلفة  تخضع   لانتداب بريطانيا التي حرمت أهلها من حقهم في الاستقلال  أسوة بالبلدان التي كانت خاضعة للاستعمار آنذاك ووفرت للحركة الصهيونية ومشروعها  العنصري  كل فرص وعوامل النجاح بدءا من  توفير  السلاح والعتاد وإقامة العشرات من معسكرات التدريب والتجنيد، علاوة على تسهيل حركة الهجرة لاستيعاب آلاف اليهود في العالم وإسكانهم في فلسطين ،وفي نفس الوقت فقد مارست بريطانيا  كل اشكال البطش ضد أصحاب الأرض الحقيقيين وحرمتهم من أي وسيلة للدفاع عن حقوقهم في مواجهة الخطر الداهم الذي كان ينمو ويتصاعد أمام ناظريهم، وقاوموه ببسالة وعناد نادر  إلا أن حجم الدعم والتسهيلات التي قدمت   للحركة الصهيونية  مكنها من  تحقيق نجاحات هامة لمشروعها  في اغتصاب وطن وتهجير الشعب  الذي عاش فوق أرضه آلاف السنين. وكما تشير العديد من الأبحاث والدراسات فإن ألفا وثلاثمائة تجمع فلسطيني  يتجاوز عدد  سكانها معظمها الآلاف  كانت قائمة في فلسطين التاريخية عام 1945  بينما كان الصهاينة في ذلك  التاريخ  وبالرغم من التواطؤ والتزوير البريطاني قد نجحوا فقط بإقامة 181 مستعمرة لا يزيد عدد سكان الواحدة منها عن العشرات، ومع استمرار الدعم والتسهيلات المكشوفة من بريطانيا وصل لاحقا  آلاف اليهود من شتى أصقاع الأرض وشنت عصاباتهم المعروفة الارغون وشتيرن والهاغناة حربها الوحشية وحملات الإبادة  والتطهير والعرقي ضد شعبنا الفلسطيني الاعزل، إلى أن تمكنت هذه العصابات في منتصف أيار عام 1948 من سرقة الوطن وهو ما نسميه عن حق( بالنكبة الكبرى) التي حلت بشعبنا، إنهم سرقوا الوطن الذي كان قائما  يضم مؤسسات دولة قائمة بذاتها سعى سكانها للاستقلال أسوة بجيرانهم وخاضوا كفاحا مريرا في سبيل ذلك ولكنهم لم يحققوا ما سعوا إليه بفعل عوامل عدة ،  تمثلت في حجم وطبيعة القوى المتآمرة على فلسطين وشعبها في مقابل الشعب الفلسطيني الأعزل وإمكانياته المتواضعة، إضافة إلى عجز القيادة  الرسمية على قراءة الواقع بشكل أفضل بما يعيق تنفيذ المشروع الصهيوني ويعرقل النجاحات التي حققها على حساب حقوق شعبنا.
وفي معرض الحديث عن النكبة والوطن الذي سرق  لا بد من التأكيد  للرأي العام على الدوام  بأن فلسطين لم تكن خالية من السكان كما يزعم الصهاينة، بل كانت وكما أسلفت دولة تخضع لانتداب بغيض لعب دورا تآمريا في حرمان شعبها من الاستقلال كما نصت كل صكوك الانتداب،  وتشير مختلف الدراسات والأبحاث التي تناولت أوضاع فلسطين قبل النكبة إلى أن الصهاينة بنوا دولتهم على مؤسسات دولة قائمة بعد ان اغتصبوها،  فقد كان في فلسطين إبان  الانتداب1700 منشأة حكومية من نواد ومبان ومؤسسات للصناعة وغيرها وكانت فلسطين تعتبر من أكثر الدول المجاورة تقدماً في المجالات التجارية والصناعية والزراعية فقد ضمت 500 مؤسسة عاملة في مجالات عدة ، وتميزت فلسطين بموقعها الجغرافي المتميز الذي كان يربط البلدان المجاورة بشبكة من السكك الحديدية حيث كان فيها 41  محطة للقطار و700 كيلو متر من سكك للحديد، إضافة إلى 31 مطارا و 6000 كيلو مترا من الطرقات المعبدة و37 معسكراً للجيش البريطاني سلمت بمعظمها ومعداتها للصهاينة الذين استخدموها في حربهم لإبادة شعبنا وتهجيره عن وطنه. وفي هذه النكبة أيضا استولت إسرائيل على 2000 معْلم تاريخي من المساجد والمقابر والاديرة والكهوف ومراكز الآثار، كما كانت فلسطين غنية أيضا بمصادر المياه وعذوبتها  حيث توفر فيها آنذاك 3650 مصدرا للمياه، وللسيطرة على كل هذا  فقد استخدمت العصابات الصهيونية كل وسائل الابادة من قتل وتدمير واغتصاب وحرق الناس وهم أحياء ، كما حدث مع أهالي طيرة حيفا جريمة التطهير العرقي وقد أثبتت الدراسات التي صدرت مؤخرا بما فيها تلك التي صدرت عن  الكتاب الإسرائيليين والباحثين بعد أن استفاقت ضمائرهم فأشاروا إلى أن 90% من القرى الفلسطينية نزح سكانها الذين مثل عددهم آنذاك 52% تحت وطأة التعرض لهجمات عسكرية تمت أثناء وجود الانتداب البريطاني وتحت حمايته ومع حلول شهر أيار عام 1948 و الإعلان رسميا عن قيام إسرائيل تم طرد النسبة المتبقية التي تمثل 42% من السكان وقد استكملت إسرائيل طرد العدد المتبقي الذي يمثل 6% بعد اتفاقات الهدنة التي أعقبت قيامها.
وتبين تلك الدراسات أيضا أن العصابات الصهيونية ارتكبت في حربها ضد شعبنا أبشع المجازر التي عرفتها الإنسانية حيث دمرت أكثر من 700 قرية ومحلة وارتكبت ما بين عامي 1947- 949 فقط 247 حادثة قتل وإبادة منها 141 مذبحة تعتبر 70 منها في إطار المذابح الكبرى و 71 في إطار المتوسطة ونلاحظ ان الإرهاب غير  المسبوق الذي نفذته العصابات الصهيونية مكنها عام 1948 من إتمام حلقات مهمة من  فصول مؤامراتها القاضية باحتلال فلسطين وطرد أهلها الذين تحولوا إلى لاجئين،  فاق عددهم هذه الأيام ستة ملايين لاجئ تناثروا في اتجاهات متعددة، إلى كل من لبنان والأردن وسوريا والضفة الغربية وقطاع غزة والى العديد من دول العالم الأخرى، من خلال ما تقدم فان لغة الأرقام التي اشرنا  لها أعلاه والعديد مثلها تختزنه الأبحاث والدراسات يبين أن إسرائيل سرقت دولة قائمة بذاتها وشردت شعبا بغالبيته وقلبت حياته رأسا على عقب.
وفي هذه الأيام من شهر  ايار حيث تدهمنا ككل عام الذكرى المؤلمة للنكبة  التي ما زالت جرحا غائرا في الجسد الفلسطيني يقطر دما  نقول بالرغم من مضى ستة عقود من الزمن  على وقوعها وما تركته من آثار  سلبية على حياة  شعبنا سيبقى يعاني منها إلى ان يتعافى من آلامها ولن يتم ذلك الا بتحقيق حقوقه العادلة في العودة والحرية والاستقلال. فشعبنا  الفلسطيني ورغم الجراح  التي ذكرت لم ولن   يستسلم للوقائع التي فرضتها ا إسرائيل كنتاج للنكبة المؤلمة فما زال يخوض مسيرة كفاحية متواصلة كافح خلالها من  اجل الحفاظ  على  حق العودة واسقط العشرات من مشاريع التوطين  وتمكن من إعادة إبراز هويته الوطنية و كيانه المعنوي و السياسي بفعل التضحيات الكبيرة منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية التي شكلت ذروة التحدي الفلسطيني في مواجهة النكبة.  وقد استطاع شعبنا  عبر ممثله الشرعي والوحيد  الوصول إلى كافة المحافل الدولية لكسب التأييد لحقوقه الوطنية المشروعة، وبناء كينونته السياسية الموحدة التي مثلتها نشأة منظمة التحرير الفلسطينية وتنامي دورها ومكانتها على كافة الصعد  كما حظيت باعتراف عربي و عالمي بتمثيل  لشعبنا  في الجمعية العامة للأمم المتحدة والمحافل الدولية الأخرى، وكسبت تأييد العالم  لحق شعبنا في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعودة لاجئيه الذين شردتهم النكبة قبل ستين عاما ، وخلال العقود  الطويلة من التضحية و العطاء المتواصل عكس نضال شعبنا وكفاحه المتواصل إصراره وتصميمه على نيل حريته واستقلاله والعيش بحرية وكرامة ، ومن اجل ذلك قدم على هذا الدرب ،درب الحرية والعودة والاستقلال ، مئات الآلاف من الشهداء و الجرحى والأسرى و المشردين وعلى درب التضحيات هذا ما  زال شعبنا البطل يخوض نضاله الدءوب من اجل عودة لاجئيه الذين شردوا من ديارهم عام 1948 مستندا  لقرارات الشرعية الدولية وعلى رأسها القرار 194 القاضي بحق عودة  اللاجئين إلى ديارهم،
ونحن نتحدث هذه الأيام عن النكبة لا بد لنا من أن نشير ونحذر من  ملامح نكبة جديدة تلوح في الأفق  ستكون تداعياتها لو تحققت لا قدر الله اكبر كثيرا من تداعيات نكبة عام 1948  ، تبرز ملامحها لكل متتبع من خلال  تصعيد العدوان الإسرائيلي بكافة اشكاله ومواصلة الاستيطان وبناء جدار الفصل  العنصري الذي يلتهم58% من أراضي الضفة الغربية وتقطيع أوصالها إلى معازل يصعب التواصل بينها وإقامة حزام استيطاني واسع يعزل القدس عن الأراضي المحتلة عام 67، ويترافق كل ذلك مع الحصار الظالم المفروض على قطاع غزة وقطع إمدادات الوقود على سكانه الذين باتوا على شفا كارثة إنسانية تهدد حياة أكثر من مليون ونصف مليون  فلسطيني،  وبكل أسف يتم ذلك تحت سمع وبصر العالم اجمع ، وعلاوة على مخاطر هذا العدوان فان مخاطر حدوث النكبة الجديدة التي نحذر منها تتمثل في  استمرار حالة الانقسام الحاد  الذي يعصف بالوضع الداخلي الفلسطيني، ويهدد المشروع الوطني الفلسطيني ويهدد في حال استمراره  مجمل القضية الوطنية الفلسطينية ويفتح الطريق كما أشرت إلى نكبة أخرى غير تلك التي صنعها الأعداء عام 1948. ولكن بأيدينا وبإصرار اعمى لم يعد مفهوما  من قبل أقطاب الانقسام الذين يصرون على تجاهل هذه المخاطر رغم وضوحها وضوح الشمس الأمر الذي يطرح تساؤلا مشروعا لمصلحة من استمرار ذلك، والى متى تستمر سياسة الهروب للامام من استحقاقات إنهاء الانقسام بما فيها تجاهل المبادرات الداعية لذلك،ومن هذا  المنطلق نقول مرة أخرى ان المسؤولية الوطنية تتطلب مواجهة مختلف هذه المخاطر تتركز في ضرورة وقف المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي واشتراط استئنافها بوقف العدوان والاستيطان، خاصة وان حكومة اولمرت براك تتخذ من ذلك غطاء لاستمرار استيطانها ، والى جانب ذلك  ضرورة الإسراع في مغادرة هذه الحالة المؤلمة من الانقسام  واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية و التعامل الايجابي مع كافة المبادرات المطروحة،  وتنفيذ كل ما يساعد  على تطبيقها  بما يفتح الطريق للبدء بحوار وطني شامل  لمعالجة مختلف جوانب الأزمة الفلسطينية، وفق وثيقة الوفاق الوطني   وإقامة حكومة انتقالية متوافق عليها  وإعادة وحدة النظام  السياسي بمؤسساته كافة وتحضر لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية وفق مبدأ التمثيل النسبي الكامل  ومعالجة ملف منظمة التحرير وفق لما نص عليه اتفاق القاهرة آذار 2005 ان ذلك وحده  يمكن  أن يغلق الطريق على مخاطر وقوع نكبة جديدة تبدد مشروعنا الوطني  ويعيد الأمل المفقود  للمواطن الرازح بين مطرقة الاحتلال وسندان الانقسام. وهذا وحده من شأنه أن يعزز صمود شعبنا و يمكننا جميعا من مواجهة العدوان والتصدي لأهدافه التي مازالت قائمة على مبدأ بن غوريون القائل. إن تدمير فلسطين الكامل شرط لقيام إسرائيل وبقائها.

وليد العوض *
الأربعاء 14/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع