ديالكتيك صفورية



تساءلت وأنا أقطع طريقي في حيفا بين جموح المحتفلين بالاستقلال الاسرائيلي، إذا ما كانوا تمعّنوا جيدًا في الأمر. بماذا يحتفلون بالضبط؟ ببقائهم وأولادهم لحمًا لمدافع حروب اسرائيل؟ بالإبقاء عليهم قوة احتياطية من القتلي على مذبح مشاريع التوسّع التي لا يزال حكّامهم يحاولون فرضها؟ بموافقتهم على لعب دور المرتزقة الوضيع في المشرق العربي، تنفيذًا لأوامر البيت الأبيض؟ أهذا استقلال هذا؟
هناك ضعف مكبوت خلف كل هذه الطقوس. هناك من يكابر. عدد الأعلام الفظيع بابتذاله يوحي بذلك. الرموز تكشف أن الحقيقة خلافَ ما يظهر على السطح. هناك من يحاول أن يثبت لنفسه أنه يعيش بألف خير. ولكن أيّ خير سيكون في مواصلة العيش على خازوق الحراب والحروب والإنكار؟
كنت في الطريق الى الباص الذي سيقلّنا الى صفورية المهجرة/الباقية. حوالي الثالثة وقليل بدأت المسيرة. في الأسفل مجموعة من اليمينيين الذين قطعوا احتفالاتهم، أو نقلوها الى هنا، ظنَا منهم أنهم بهذه الحركة الخاطفة سيغيّرون الصورة: صورة قرية مهجرة، بكل ما تعنيه، من بين مئات غيرها. لكن لا يوجد شيء في العالم يمكنه تغيير حقيقة الصورة، حقيقة الجريمة. هناك جرائم لا تغيب معالمها. فكم بالحريّ مع هؤلاء الباقين في وطنهم والمصرّين على التذكّر والتذكير في وضح النهار. ما أجملنا ونحن نمارس فعل الذاكرة واستعادتها، من جميع الأجيال، من جميع الانتماءات.
نسير تحت أشجار الصنوبر. هذه التي جاءت بها "الكيرن كييمت" من أوروبا لإخفاء بقايا آثار القرى المهجّرة ولخلق "فضاء أوروبي" في فلسطين. أشعر ببعض الضيق، فها نحن نحيي وجود قرانا تحت شجر "الكيرن كيمت". لكني سرعان ما أنتبه الى أن المسألة أعمق: فهذه المسيرة تقوم بالفعل النقيض لفعل الإخفاء والتستّر والطمس، بكونها تجري تحت هذا الظرف بالذات. إنها تتوجّه الى الموقع المُراد جعله في حكم الماضي البائد، كي تطلق صوتها الواضح منه بالضبط. هل يوجد ديالكتيك أوضح من هذا، أقول لنفسي وأنتقل الى التفكير الايجابي.
لكني ما ان انتقلت الى التفكير الإيجابي حتى وجدت نفسي وسط حلبة مشاحنات حزبية متشنجة، لا علاقة لها من بعيد ولا من قريب بمعنى هذا النشاط. بل إنها تنقضه وتناقضه. تهينه. لم يكن في هذا المشهد البائخ أي ديالكتيك، ولا تفكيك، بل ربما واحدة من ممارسات التدمير الذاتي. تلك التي لا تنجم سوى عن ضيق الأفق والسلوك القبلي الذي لا يتقن فنّ التعالي فوق الانتماءات المحددة نحو المشترك الأكبر والأرقى. للحظة تمنيت لو أن نفرًا من اليمين يأتي للاستفزاز لعلنا نعود الى رشدنا والى نشاطنا موحّدين.
بعد قليل تخفّ حدة المشاحنات الكلامية. الأمور تسير على ما يرام، وكما يجب أن تكون عليه، احترامًا لذاكرتنا ولأنفسنا.
هذه المرة اختُتمت المسيرة ببرنامج فني. غناء وموسيقى وشعر. لم يأتِ هذا من فراغ. بل ربما بسبب قوّة الحضور الشبابي المُبهِج في المسيرة. الشباب لا يكتفي بالتعبير عن نفسه بالخطابات. الأغنية هنا ذات مذاق خاص، ذات نكهة حيّة. هذا سبب لتفاؤل النفس والعقل.
في طريق العودة حيث الباصات والسيارات، تصل مسامعنا عن بعد أصوات إطلاق لما يشبه البارود. أركض نحو المقدّمة فأرى زعران شرطة إسرائيل يمطرون الناس بقنابل الغاز، وربما بالرصاص المطاطي. بعضهم راجل وبعضهم فوق الخيول. أرى سيدة مسنة تفترش الأرض وتنتحب. أقترب منها. "عندي ضغط يا خالتي، مش غادرة". تشدّ على يدي، أكاد أدمَع لكني أعيد النظر. ففكرة إحضار الإسعاف أهم من فكرة التأثّر الآن، وأنفع. ما أكثر مفارقات العقل والقلب في واقعنا.
أحد المصابين لا تزال الدماء تسير من رأسه. بللتْ أعلى قميصه. "شو صار"، أسأله. "طلعت من السيارة تأبعِد بعد ما علقت، هجموا عليّ، ضربوني على محاشمي، وبالعصي على راسي، وهم يصرّخوا: روح من هون يا عربي يا قذر". يُريني ثقبًا في زجاج السيارة بفعل طلقة، ورفسة شرطي عليها أيضًا. لا تشبه الحافر بالمرّة. بل أبشع. هذه، بدقّة، هي أخلاق شرطة اسرائيل، ومن وما تمثّله.
الاعتداء البوليسي المتوحّش بدأ حين حاول زعران الشرطة إنزال أعلام فلسطين من أيدي بعض الشبان والشابات. بعدها قام أحد زعران اليمين (زملاؤهم) بإلقاء حجر أو زجاجة باتجاه المتظاهرين، فاشتعلت الأمور. واشتعلت النيران في حقل مجاور بفعل قنابل الغاز الكثيفة أيضًا.
في النهاية، أعيد النظر، وأخجل بعض الشيء. قبل قليل تمنيتُ أن يستفزنا أحد عناصر اليمين حتى نكفّ عن مشاحناتنا الداخلية المقيتة. وبعد أن هدأت المشاحنات أدّى استفزاز اليمين الى اعتداء الشرطة علينا. فعلا، كم تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن، ولا الأمنيات، أحيانًا.

هشام نفاع
الثلاثاء 13/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع