صفرت الباخرة ثلاث واعلنت الرحيل مع غروب الشمس التي وقفت ارجوانية تماما على الحد الفاصل بين النور والظلام . بدت الشمس متعبة واهية مسرعة للغوص في البحر هاربة من قيظها الذي تركته وراءها وقد اتعب النفوس وهد حيل الكون . هربت الى مضجعها في قاع البحر تبحث عن موجة زرقاء تغسل شعرها الارجواني المبعثر وتنظر فارس ليلها باردا آتيا من قاع البحر يبعث في حناياها بردا وسلاما حتى تعود للبعث من جديد عما قريب. ليل الليل في كل مكان وانا اقف على دفة السفينة قرب الصاري الكبير احدق في الميناء والبحارة على دفات السفن الراسية من كل اصقاع الارض الاحق الشعاع الاخير واعيش الرحيل مرة اخرى.
نعم اعيش الرحيل مرة اخرى ؟؟ . اتيت من رحم الشرق وها انا ابحر صوب الغرب وابحث عن شمس جنوبية لاغترب وعن اخرى شمالية لا تشرق.
كان الكرمل عندها اخضر غامقا حانيا عملاقا مشرعا الاذرعة بعثها في كل الاتجاهات وهو يحتضن حيفا وهي تمد جبينها صاغرة تستقبل بشوق وعنفوان قبلات الغروب وتغسل قدميها السمراوتين في مياه البحر التي هدأت وهربت منها الامواج بدورها تبحث عن مهجعها في اللجج العميقة.
نعم يا رفيقة الروح .. وقفت احدق في ابعاد تلك اللوحة البديعة التي رسمتها الطبيعة والانسان معا واندمجت فيها كل الاشياء وكل المتحولات وكل الوان قوس قزح . بانت لي سرمدية الزمان التي امتزجت مع الحركة الدؤوب في الميناء والتي لم تحفل للتغيير الحاصل في الطبيعة البعيدة قرب الشمس ولا لسكون البحر ولا لتعب الامواج التي بالكاد لاطفت جبهات السفن الكبيرة التي ترنّحت بهدوء ذات اليمين وذات اليسار مهدودة الحيل بعد هذا النهار الخمسيني القاتل .
خرجت السفينة ببطء شديد من الميناء ..رويدا رويدا صغر الكرمل وصغرت حيفا وغرقت اضواؤها البعيدة في الافق المظلم واصبح الوطن الكبير ذكرى . نعم اصبح الوطن كله ذكرى بعد ان كنت للحظات عبرت في قلب الوطن .
ها أنذا يارفيقة روحي ..يا ذاك الخيط السحري الذي يربطني مع قلب الوطن اصبحت انت ذكرى تنام متربعة على صدر الوطن وفي صميم القلب حارسة دقاته التي تتسارع كلما اوغلت السفينة غربا في اللجج الزرقاء واصبحت انا بدوري ذكرى في مركز دائرة الافق الازرق الذي حدق بي من كل الجبهات حيث غدوت لا اسمع الا اصوات الامواج المتلاحقة الآتية من بعيد واصوات النوارس التائهة التي تبحث عن وطن .
دارت حياتي الماضية كلها كشريط فيلم طويل بث على صفحة الغسق الغارق في مياه البحر التي كوّنت بتموجاتها المتلاحقة اجمل موسيقى خلفية سمعتها في حياتي. رأيتك هناك تتهادين بثوبك الرائع الذي جمع في حناياه اخضرار الزيتون وعتم ليل فلسطين وفضة بدرها وذهب شمسها بعيدة عن شفاهي . كم تقت لاطبع على جسدك البديع آلاف القبل من رأسك حتى اخمص قدميك .
رايتك كما عهدتك واثقة الخطى تخطرين في واد سحيق تبحثين عن الهة الاعاصير تطلبين منها بشوق كل العاشقين الكف عن الدوران والجنون والثوران مشيرة لها بسبابتك متوعدة تلك الالهة التي انزوت هاجعة في كهف سحيق على شاطئ لازوردي ساحر ولسان حالك يقول " ...ايتها الالهة اياك من عواصفك وجنونك ..تلك سفينة حبيبي.. نصف قلبي ابحر معه ونصفه الاآخر يتنظر عودته على حافة الشوق واللهفة "
عندها هذيت باسمك وهذيت ونهشتني حرقة الفراق ولوعة اللقاء وانا في بدء مشروع السفر .
من يترك شواطئ حالمة كبحور الدمع في مقلتيك عاقّ وضال يستحق غضب كل الالهة .
من يترك شمسا كتلك الارجوانية التي غارت لتوها في الافق حلت عليه لعنة الارض والسماء . من يترك رضاب شفتيك المعقود بسكر عنب الخليل وتين الجليل وبرتقال يافا لا يعرف الحب طريقا الى قلبه وحكم على نفسه بالشقاء الابدي .
انا يا رفيقة روحي اختمرت من خمرتك المعتقة ولعقت رضابك وتنعمت بشالك ونعمت بشمسك وعكفت سني عمري كلها متنسكا في محراب حبك لا اقوى على البعاد ولا على الفراق ولا ارغب بالسفر الا اذا اشتقت الى عذوبة لقاء يبعث في الخدر ويخلقني كل مرة من جديد .
قلت لي في ليلة الوداع ..اتذكرين ؟
" حبيبي قلبي معك هنا وفي كل مكان "
قلت لك " سريرك في فؤادي .. وعيونك الناعسة خريطة السفر "
قلت لي " انا دوما حائرة معك بين الذكرى والذكرى "
قلت لك " ضميني اليك بين الذكرى والذكرى وبلغي سلامي الى عينيك ونهديك وخصرك وشعرك المشاغب الذي يبحر معي دوما الى اطراف الدنيا كلها "
هذه الكلمات سأخطها بحروف من ذهب وسأبعثها لك حيث انت مع اول نسمة صباح قادمة على القبس الاول لا محالة .
( شفاعمرو)
د. فؤاد خطيب *
الثلاثاء 13/5/2008