*توقفت عن كتابة القصة والشعر حين شعرت بأنني لن أكون الأول* زمن الرواية بدأ مبكرًا على مستوى العالم كله، ثم تجلى لدينا في السبعينيات* صنع الله ابراهيم غير متسق مع نفسه لأنه رفض جائزة تعبّر عن إرادة المثقفين وقبل أكثر من جائزة من دول النفط*
الطريق إلى جامعة القاهرة يبدأ من المحلة الكبرى، والطريق إلى المجلس الأعلى للثقافة يمر بجامعات هارفارد وصنعاء والكويت وسكنسون إديسون ستوكهلم، والخطوات القليلة بين المجلس والمركز القومي للترجمة تحتاج إلى 15 عاما لقطعها.
هذه هي رحلة الدكتور جابر عصفور التي بدأها طالبا في المدرسة القبطية بالمحلة الكبرى، ثم التحق بقسم اللغة العربية كلية الآداب جامعة القاهرة، ثم حصل منها على الدكتوراة في النقد الأدبي عام 1973 بمرتبة الشرف الأولى، ليبدأ بعدها مشواره النقدي عبر أكثر من 100 كتاب وبحث في النقد الأدبي والسياسة والثقافة، منحازا إلى الأفكار التنويرية والتحررية، مقاوما نزعات التطرف والرجعية والظلامية التي تحاول الهيمنة على المصريين، ليؤكد أن دور المثقف هو تحريك الجماهير والتأثير في وعيهم وليس ـ كما يتصور البعض ـ أن يعتكف في برجه العاجي، مترفعا عن مشاكلهم.
* في بداية هذا العام أصدرت ثلاثة كتب تهتم بقضايا سياسية وثقافية عامة، فلماذا 3 كتب دفعة واحدة؟ ولماذا لم يكن بينها كتاب واحد على الأقل في النقد الأدبي رغم أنه تخصصك الأساسي؟
عصفور: في الحقيقة هي أربعة كتب وليست ثلاثة، بعناوين «مقالات غاضبة» و«نقد ثقافة التخلف» و«نحو ثقافة مغايرة» وهي تتناول قضايا سياسية وثقافية عامة كما قلت أنت، أما الكتاب الرابع فهو متخصص في النقد الأدبي بالفعل بعنوان «رؤى العالم» وصدر في بيروت، ولهذا لم يتم الاطلاع عليه في مصر بشكل واسع، وأنا لدي نظام أحاول أن أحافظ عليه، وهو أن يصدر لي في كل عام كتاب في النقد الأدبي، فأنا أكتب مقالين أسبوعيا، ومقالا شهريا للنقد الأدبي.
* معظم كتاباتك تركز على محاربة التطرف والإرهاب، وهذا يطرح سؤالا مهما: من الأولى بالمحاربة.. الديكتاتورية التي تولد عنها الإرهاب أم الإرهاب نفسه وهو نتيجة تحارب الفقر ومظاهره، أم نقضي على الأسباب التي أوجدته؟
عصفور: لا بد من محاربة كل هذا في وقت واحد، وأنا أركز في كتاباتي على محاربة التطرف والعنف لأننا في مجتمع تملأه الأفكار الرجعية والظلامية، وما نحن فيه حاليا مهما كان، أهون كثيرا من الحكم الديني، فنار الدولة المدنية أفضل بكل تأكيد من جنة الدولة الدينية.
*هل ترى أن كتاباتك أثرت في الواقع.. أو أسهمت في تراجع الإرهاب بشكل ما؟
عصفور: نعم أثرت، وأنا ألمس هذا بنفسي، فكثيرا ما يقابلني أناس لا أعرفهم أو يكلمونني في التليفون، ويقولون لي نحن نقرأ مقالاتك وكتبك، وقد أثرت فينا.
* أطلقت مقولة «زمن الرواية» ثم أصدرت كتابا بنفس الاسم، فلاقت الفكرة هجوما كبيرا وقتها، ثم أثبتت صدقها، فهل كانت هذه المقولة نتيجة قراءة للواقع أم نظرة للمستقبل؟
عصفور: هذا الكتاب من أكثر الكتب التي هوجمت بسببها في حياتي، لكن ما حدث بعد هذا أكد صدق مقولتي وهذا يؤكد ما قلته لك من قبل حول تأثير كتاباتي في الواقع بشكل أو بآخر، وهذه المقولة جاءت نتيجة أنني في وقت من الأوقات وجدت أن معظم قراءاتي في الرواية، وأنني لا أستطيع متابعة كل هذا الكم من الروايات التي تصدرها دور النشر، ثم حصدت أسماء الفائزين بنوبل على مستوى العالم فوجدت أن معظمهم روائيون، ثم سألت أصحاب ومديري دور النشر، فقالوا إن دواوين فطاحل الشعراء أو من يطلقون هذا علي أنفسهم لا تبيع 100 نسخة، بينما الروايات تصدر وتنفد في وقت قصير، كل هذا جعلني أقول إننا في زمن الرواية، وحاليا الرواية تشهد حالة ازدهار لم تحدث من قبل، هل تعلم عدد النسخ التي باعتها رواية «عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسواني حتى الآن؟ باعت حوالي نصف مليون نسخة، وهذا رقم ضخم جدا، ويؤكد مدى إقبال القراء على الرواية أكثر من الشعر والقصة القصيرة وغيرها.
* وما رأيك في «عمارة يعقوبيان»؟
عصفور: رأيي أنها رواية جيدة لكن ليس أكثر من هذا.
* بالمناسبة.. هل قرأت «شيكاغو» لعلاء الأسواني أيضا؟
عصفور: قرأتها.. ولا أحب أن أتكلم كثيرا في هذه النقطة، لكنها عموما أضعف من «يعقوبيان».
*زمن الرواية*
* مقولة «زمن الرواية» تحققت بشكل أوضح لدي كتاب ما بعد جيل التسعينيات.. فما رأيك في هذا؟ وأين أنت من هؤلاء الكتاب؟
عصفور: زمن الرواية بدأ مبكرا على مستوى العالم كله، ثم تجلى لدينا في السبعينيات وما بعدها، وأنا أعترف أنني لا أتابع كتابات الأجيال الجديدة من الكتاب بشكل جيد بسبب العمل ولانشغال الدائم وما شابه، لكنني لا أتردد في قراءة أي نص يصلني من هؤلاء الكتاب، فأي نص يقع في يدي أقرأه فورا، وأي عمل يعجبني أكتب عنه، بغض النظر عن صاحبه وانتماءاته، حتى لو كان يهاجمني أنا شخصيا.
* إذن متى ينتهي «زمن الرواية»؟ ولصالح أي الأجناس الأدبية؟
عصفور: زمن الرواية مفتوح حتى الآن، لكنه ربما ينتهي إذا أصبح إيقاع الحياة أسرع، وأصبح القارئ يحتاج إلى أن يترك الكتاب كثيرا قبل أن ينهيه، ووقتها سيتجه القارئ والكاتب معا إلى القصة القصيرة، وعلى فكرة هذا بدأ يحدث بشكل ما على مستوى العالم، فالقصة القصيرة بدأت تأخذ دورا أكبر، إلا أن هذا لم يحدث عندنا، فالرواية لدينا هي المسيطرة حتى الآن، كما أن هناك اتجاها عالميا أيضا نحو كتب السيرة الذاتية.
* بماذا تفسر ازدهار الواقع الثقافي حاليا من كثرة الإصدارات والجوائز والمبيعات والترجمات رغم تردي الواقع السياسي والاقتصادي وغيرها؟
عصفور: صحيح أن هناك ارتباطا بين الواقع الثقافي والواقع الاقتصادي والسياسي، ولكنه ليس في صورة علاقة طردية، فربما ينهار الاقتصاد والسياسة ويزدهر الأدب، لأن الكتاب والأدباء لا يعجزون، فحين يكون نظام الحكم ديكتاتوريا وقمعيا، فإنهم يلجأون إلى الرمز للتحايل عليه ويكتبون ما يريدون.. وكثيرا ما ازدهر الأدب في عصور كممت فيها الأفواه وحطمت فيها الأقلام، لأن الإبداع لا يقبل أي قيود من أي نوع.. وحاليا أنا أرى وجود مساحة كبيرة من الحرية للإبداع في مختلف الفنون حتى السينما، ففيلم مثل «حين ميسرة» لخالد يوسف قدم فكرة المثلية الجنسية بين امرأتين، وهذا لم نكن نستطيع تقديمه بهذه الصورة قبل سنوات، كما أن الأجيال الجديدة من المبدعين تتميز بميزة لم تكن موجودة فينا، وهي فكرة التحرر الداخلي، وأقرب نموذج على هذا روايتك «سرير الرجل الإيطالي» فهي تتميز بهذا النوع من التحرر التام أثناء الكتابة الذي لا أستطيع أنا أو جيلي فعله رغم كل هذه الممارسة والخبرة الطويلة بالكتابة.
*علاقة المثقف بالسلطة*
* كيف ترى العلاقة بين المثقف والسلطة.. خاصة إذا كان متصلا برموزها ويعمل تحت إشرافهم.. وهو بشكل أو بآخر محسوب عليهم؟
عصفور: دخلت المجلس الأعلى للثقافة وأنا أعلم أنني سأتعامل مع السلطة.. ودخلت وأنا أحمل مشروعي على يدي، وبدأت في تنفيذه وأنا على أتم استعداد للتخلي عن المنصب فورا إذا عارضني أحد في تنفيذ ما أريد أو أبدى أي تدخل في عملي، وطوال الـ15 عاما التي قضيتها في المجلس وأنا أتعامل مع السلطة بهذه الطريقة، لأن المثقف لا بد أن تكون لديه استقلالية كاملة، وأنا كنت حريصا على هذه الاستقلالية طوال الوقت، ولم يحدث أن حاول أحد على الإطلاق أن يتدخل في عملي ولا أن يفرض عليَّ شيئا لا أريده، ولو حدث هذا لكنت قد تركت المجلس فورا، وهذه الصيغة كانت صريحة لي تماما.
* ماذا كان شعورك لحظة إعلان «صنع الله إبراهيم» رفضه لجائزة مؤتمر الرواية عام 2005 وأنت تقف بجواره على المنصة وبجوارك وزير الثقافة فاروق حسني وأنت المسؤول عن منح الجائزة؟.
عصفور: شعرت بالصدمة بمجرد إعلانه رفض الجائزة، لأنني كنت قد كلمته في الهاتف لأبلغه بخبر فوزه بالجائزة فشكرني بحرارة، وأعلن قبوله لها، وأملاني اسمه الثلاثي الذي لم أكن أعرفه، حتى أكتبه في الشيك الذي يحمل القيمة المادية للجائزة، ثم أفاجأ به بعد كل هذا يعلن رفضه للجائزة على الملأ، وأنا أرى أن تصرف صنع الله إبراهيم بهذه الطريقة غير أخلاقي، فلو كان يريد رفض الجائزة، فلماذا لم يرفضها حين عرضت عليه أول مرة، وإذا كان ما يريده هو الاعتذار عنها اعتذارا مسببا، فكان يمكنه عقد مؤتمر صحافي يعلن فيه أسباب رفضه للجائزة، وهذا سيكون تصرفا محترما، لكن فكرة الرفض بهذه الطريقة تنطوي على خداع وتصرف غير أخلاقي فعلا، وعلى فكرة كل ما أراده صنع الله من وراء رفضه للجائزة هو تسجيل موقف سياسي درامي، حتى يخطف الأضواء وتصفيق الجماهير، وأنا أرى أنه غير متسق مع نفسه لأنه رفض هذه الجائزة رغم أنها ليست من الحكومة بالمعنى المباشر وإنما هي تعبير عن إرادة المثقفين والكتاب العرب والمصريين الذين منحوها له، وفي الوقت نفسه فإنه قبل أكثر من جائزة من دول النفط ومن أموال النفط، وأسباب اعتراضه على الجائزة المصرية تتوفر وأكثر منها بكثير في جوائز النفط التي لم يرفضها، كما أن جائزة مؤتمر الرواية حصل عليها كتاب كبار ربما أكبر من صنع الله، مثل الطيب صالح وعبد الرحمن منيف وهو كاتب كبير ومناضل كبير أيضا ومع هذا لم يرفضها.
* تعاملت طوال رحتلك الثقافية مع الإبداع من الخارج ناقدا ومحللا، ألم تفكر في أن تكتب إبداعا؟
عصفور: أحيانا وأنا أكتب المقالات أجد القلم يجنح مني ويكتب سردا، هذا كل شيء حاليا، لكنني وأنا في الكلية كنت أكتب إبداعا وأحب الكتابة.. بدأت بكتابة القصة القصيرة، ثم اتجهت إلي الشعر، وهذا غريب لأن العكس هو الذي يحدث غالبا، ثم توقفت عن الكتابة الإبداعية، لأنني حسبتها مع نفسي ووجدت أنني لن أكون الشاعر الأول أو الكاتب الأول ربما الثاني أو الثالث أو الرابع وأنا اعتدت أن أكون الأول وأحب أن أكون الأول، فتوقفت عن الإبداع لأتفرغ للكتابة النقدية.
* وهل تري أنك أصبحت الأول في النقد؟
عصفور: مقالاتي في يدي أعكف عليها وأبذل كل جهدي حتي تكون مقالتي هي أفضل ما يمكن أن يكتب عن العمل الذي أتناوله، ويكون كل ما يأتي بعدها تاليا لها، ولا استطيع أن أقول إنني الأول حاليا، وأترك هذا لغيري.
*كلام في السياسة*
* كم مرة التقيت الرئيس مبارك؟ وما الحديث الذي دار بينكما؟
عصفور: 4 أو 5 مرات، معظمها في معرض الكتاب، ولم يدر بيننا أي حديث، لأن اللقاءات كانت عابرة في إطار بروتوكول.
* هل يهتم الرئيس مبارك بالثقافة؟
عصفور: نعم، بدليل أن جائزة الدولة التقديرية كانت في بداية حكمه 5 آلاف جنيه ووصلت حاليا إلى 200 ألف جنيه، كما أن هناك مشروعات ثقافية كثيرة حدثت في عهده.
* كثيرا ما تحدثت عن مستقبل الثقافة، فهل يمكن أن تحدثنا عن مستقبل مصر؟
عصفور: كلما أفكر في مستقبل مصر أقول: ربنا يستر، البلد يعيش حاليا حالة غليان، بسبب الفقر الشديد والارتفاع الجنوني للأسعار، والفساد والنهب المستمر للفقراء، كل هذا يمكن أن يؤدي في أي لحظة إلي انفجار شعبي لا يعرف مداه ولا أخطاره إلا الله، لهذا لابد من حل سريع وتدارك للأزمات التي يعاني منها الناس، قبل أن يحدث الانفجار الشعبي الذي قد يذهب بكل شيء، وأحداث المحلة الأخيرة ستتكرر ولن تكون الأخيرة إلا إذا شيلنا المتفجرات التي أدت إليها، فالأوضاع هناك دفعت الناس للانفجار وهم معذورون، والنار التي اشتعلت هناك ستمتد إلي كل مكان في مصر لو لم توجد حلول جذرية لكل المشاكل.
* وكيف تري الوضع بعد الرئيس مبارك مباشرة؟
عصفور: هذا لا يعلمه إلا الله أيضا، لكن الوضع غير مطمئن، فحالة الإضراب بربتها لها، والمثقفون مختلفون، ولا توجد أي قوة منظمة غير الإخوان المسلمين للأسف، وأخطر ماي مكن حدوثه هو أن يمسك الإخوان المسلمون البلد.
* وماذا عن فكرة التوريث؟
عصفور: كل الأمور حاليا تصب في اتجاه التوريث، وأنا ضده علي طول الخط، ولا بد من وقوف المجتمع المدني ضد التوريث والدولة الدينية معا، ولا بد أن يتحرك الشعب، لأن الحكام لا يُهدون الديمقراطية لشعوبهم، الديمقراطية لا يفرضها إلا الشعب الواعي، والمصريون حاليا يحتاجون إلي من يرد إليهم وعيهم ويقودهم في حركتهم لأخذ حقوقهم.
وأنا أري أن الصورة ليست قاتمة تماما، بدليل الإضرابات والاعتصامات التي تحدث كل يوم وما نشاهده من تجمعات سياسية علي درجة الوعي والتنظيم والوطنية مثل حركة كفاية وحركة 9 مارس لاستقلال الجامعات التي يناضل فيها الأساتذة لنيل حقوقهم وحقوق وطنهم ويطالبون بجامعة خالية من الأمن وأنا زرت الكثير من جامعات العالم ولم أر هذا الوضع المخزي إلا في جامعاتنا، فالأمن في كل مكان بشكلهم الرسمي القهري ويطلبون الكارنيهات والبطاقات في الدخول والخروج كأنك في ثكنة عسكرية.
* ولماذا لم تشارك في جماعة 9 مارس؟
عصفور: أنا معهم دائما وعلي أتم استعداد أن أشاركهم وهم يعلمون هذا جيدا وإن تأزمت الأمور سأنزل للوقوف معهم بكل ما أستطيع.
* خرجت من منصبك وتم الاحتفاء بك وتكريمك وتردد أنك في احتفالية حزب التجمع بك بدوت سعيدا ومرتبكا.. هل مازلت تحتفظ بروح الطفل الصغير الذي يرتبك حين يخرج ليتم تكريمه أمام الطابور لأنه الأول علي المدرسة؟
عصفور: نعم أرتبك، ولو خلوت بنفسي لبكيت، أنا خجول بطبيعتي، وهذا سر أقوله لأول مرة، أنا لست مقتحما، بل إنني خجول جدا، والتكريم يسعدني خاصة بعد تركي المنصب، فالمعتاد في مثل هذه الأحوال هو كسر «قُلة» خلف الخارج من منصبه، لكن مثقفي مصر احتفلوا بي وكرموني، وهذا تقريبا هو أول تكريم أحصل عليه من مصر، فلم أحصل علي جائزة الدولة ولا جائزة مبارك لأنني كنت القاضي فيها، لكن الآن تركت المنصب ويمكنني أن آخذ أي جائزة، ولكنني حصلت علي الجائزة التي أحبها وهي حب الناس لي والتفافهم حولي.
* روائي وصحافي مصري، القاهرة
حاوره: محمد صلاح العزب
السبت 10/5/2008