فن التعليم



*هذه المحاضرة ألقاها المعلم والرفيق المناضل فؤاد خوري في آخر السنة الدراسية 1949 قبل فصل 500 معلم*

*الفن*

أخالني ادخل في معركة منذ البداية . فالفن أمر اختلف في تعريفه وتحديده الفنانون وعلماء الاجتماع منذ القدم ، وتبعا لاختلافاتهم نشأت مدارس عديدة له : منها مدرسة الفن الشكلي والنسبي والواقعي . وهذه المدارس للفن كانت تلائم العصور المختلفة التي نشأت فيها من الناحية العلمية والاجتماعية. ومهما اختلف في الفن المختلفون فهم ينقسمون إلى فرقتين اساسيتين : احداهما تعتبر الفن لنفسه؛ ومن هنا تعتكف على نفسها وترتقي برجها العاجي وتنظر منه الى الحياة الواقعية كأنها منظر مستقل . وثانيتها تعتبر الفن نتاجا اجتماعيا وثيق الصلات بواقع الحياة متطورا بتطورها وخاضعا لظروفها . وبينما يرى فنانو الفرقة الاولى رسالتهم في اخراج الصور المختلفة للحياة دون أي اعتبار لمتطلبات المجتمع يرى فنانو الفرقة الثانية رسالتهم في تصوير المجتمع وتبيان حركته ووضع الحل المناسب لمشاكله وتفاعلاته – وهكذا فالفنانون الواقعيون من هذه المدرسة هم في الواقع مهندسو المجتمع وموجهو حركته.
 ليس الفن مسألة تلهية وفنية غير مسؤولة بل الفن نتاج اجتماعي يقصد منه تأدية رسالة مسؤلة ذات اثر. اما تلك الفئة التي تدعي الفن وتسترسل في خيال لا يمت الى الواقع بصلة ثم تذهب في تعقيد انتاجها مختلف انواع التعقيد دون أي اعتبار لحاجة المجتمع ومستلزماته فهي فئة "الاقلية المختارة" التي ترى نفسها فوق المجتمع وترى المجتمع زاوية من نفسها خلق ليكون مصدرا لشعورها وانتاجها ومسرحا للعبها ومرحها. وما زال العلم الحديث والمجتمع البشري يقدم البرهان بعد الآخر على زيف فن هذه الفئة وضرره البالغ على الجماهير الواسعة.

 

*التعليم فن*

 والتعليم من حيث هو فن، مرتبط بواقع الحياة بمادته وأساليبه. وكل فن ايضا يعتمد في قيمته وخلوده الى حد بعيد على مادته. ومن يطالع تاريخ التعليم ير أن اساليب التعليم المختلفة كانت ولاتزال ذات علاقة وثيقة بمواده. وعصور التأخر العلمي والجمود الفكري كانت تمتاز بأساليب تعليمية جامدة تعتبر اليوم ضارة بالنشء كل الضرر وغير ملائمة في هذه الفترة من التاريخ التي تمتاز بالتقدم العلمي في جميع الحقول. وعلوم أي عصر بدورها مرتبطة بنوع حياة المجتمع البشري آنذاك. فعندما كان المجتمع البشري يعيش من نتاج الزراعة بشكل رئيسي وعندما كان لا يعرف من أدوات الانتاج ما يعرفه اليوم من تصميمات وآلات فنية معقدة ومتقدمة في ذلك الوقت كان المجتمع البشري خاليا من الابحاث العلمية الرائعة التي توافرت لمجتمع القرون الحديثة. لقد كان العلم والمنطق في القرون الوسطى متأخرين جامدين جمود حياة الناس الزراعية آنذاك. ثم دوت في الجو قوة البخار وسرت في المجتمع رعشة الكهرباء وبدأ ما يعرف بالتاريخ بالثورة الصناعية فاذا بالعلوم تخطو اماما قفزات قفزات ، واذا النظريات الحديثة في علوم الحياة والطبيعة والكيمياء وغيرهما، تحطم العقائد العلمية القديمة المندثرة؟ واذا بالمنطق القديم يثبت بطلانه وعدم صلاحيته العلم الحديث وتبعا لتقدم العلوم على هذا القياس الرائع، كذلك برز الى العالم منطق جديد يتناسب رقيا وواقعية مع العلوم الحديثة. ذلك المنطق الجديد هو جدلية "هيجل" المعروفة بالديلكتيك. ذلك المنطق الذي يمتاز عن سابقه بالحركة الدائمة قبل كل شيء.
لقد قلت ان التعليم كفن مرتبط بمادة العلوم في فترة ما ؟ ومن السخرية أن تبحث قضية اساليب التعليم الفنية بمعزل من نوع المادة التي يراد تعليمها وعن المرحلة التعليمية التي هي على بساط البحث. ولما كانت علوم اي عصر مرتبطة كما اسلفت بمعيشة اهله ووسائل حياتهم المادية، كان أي فن من الفنون يعتمد في رقيه وانحطاطه ، صدقه وعدمه ، خلوده وعرضه، على واقع حياة المجتمع وطرق تحصيله لمعيشته. فالفن الكلاسيكي أو ما يعرف (بالاتباعي) يميز العصور الوسطى مثلا ، التي كانت تسودها الزراعة والتأخر الآلي وسذاجة الفلاحين الاقنان وذلهم. أما القرون التي تلت العصورالوسطى ، والتي امتازت بالتقدم الصناعي العظيم وما تبعه من ثورات عنيفة في تطوير العلوم في جميع ميادينها ، أقول إن هذه القرون الصناعية تمتاز باسلوب الفن الرومنتيكي أو ما يعرف (بالابداعي) . أسلوب يتيح للفنان الحرية في نقل الواقع بالصور التي يراها مناسبة غير متقيد بأديب قديم اغريقي أو لاتيني . وثلاثة القرون الصناعية والنظام الرأسمالي الجديد فترة من الزمن نضج فيها هذا وامتلأ بالتناقضات الداخلية وشعر سواد الناس أن مرح الفنانين الرومانتيكين وانطلاقهم في أجواء الخيال اللطيف المتفائل الذي يصطبغ بالتنافس الفردي والتسابق الدائم ، شعر سواد الناس أن مرح هؤلاء الفنانين ليس له مبرر. فلقد عاد إلى الناس بؤس القرون الوسطى وشقاؤها ولكن على شكل جديد . لقد عاد الى جمهرة الناس رشدها فبدأت تتلمس الواقع وتتحسس وطأته ، وبهذا اصطبغ فن هذه الفترة بالاسلوب الواقعي ، فصار الأدب واقعيا وصارت الفنون جميعها واقعية تصور الواقع بمتناقضاته وحركته الدائمة وتشير الى الحل الذي ترمي اليه تلك الحركة . لقد اصطبغ هذا الفن بصبغة جماهيرية واسعة لعبت دورا كبيرا في تعبئة المجتمع وراء فكرة معينة كما عبأ فولتير وروسو الجماهير لخوض الثورة الفرنسية من قبل.
 حاولت في القطعة السالفة أن أبين كيف أن الفن تختلف أساليبه وتعتمد على ظروف الحياة المادية التي يحياها المجتمع البشري . والتعليم من حيث هو فن متطور في أساليبه غير جامد مقتفيا أثر العلوم في تطورها الخاضع بدوره لظروف الحياة المادية التي كثيرا ما تسمى بالحضارة.

 

*التعليم قبل النهضة الاوروبية*

لم يصبح التعليم فنا ذا بال قبل النهضة الاوروبية ففي العصور القديمة والعصور الوسطى كان التعليم من حظ جزء ضئيل من المجتمع البشري . فما ترويه كتب التاريخ يرينا أن الطبقة المتعلمة كانت لا تشمل إلا الاكليروس والنبلاء في العصور الوسطى . وقبل ذلك كان التعليم من نصيب الاغنياء ذوي العقارات الواسعة والثروات الطائلة. ولذلك فقد كان اسلوب التعليم طوال هذه القرون فرديا في قصر النبيل أو في الدير. ولما كانت العلوم على وجه عام متأخرة في تلك العصور فكانت مواد التعليم في الغالب ما ابقاه ارسطو وغيره من فلاسفة الاغريق مضافا الى ذلك اللغة اللاتينية لغة الكنيسة الكاثوليكية "الرسمية" التي بها كانت تقرأ التوراة والانجيل. ونلاحظ من خلال ظلال التاريخ أن التعليم كغيره من الخدمات الاجتماعية يزدهر وينتعش في ظل حكم مركزي سلمي ، كما أنه ينكمش ولا يفطن به أحد في فترات التفرقة والتناحر. مثال ذلك أن شرلمان رغم أنه كان في القرن الثامن بعد الميلاد أصدر امرا سنة 789 يقضي بتعليم أكبر عدد يمكن من الناس ليس فقط من النبلاء والاكليروس بل ومن الاقنان وغيرهم من الطبقات الفقيرة الكادحة . والمعروف أن عصر شرلمان امتاز بتوحيد اجزاء كبيرة من وسط أوروبا وغربها. وقضى على القتال الدائم بين النبلاء الاقطاعيين ، كما أنه أضفى بردة من السلام والانتعاش والحكم المركزي على امبراطوريته. ولكن يذكر لنا التاريخ كذلك أن امر شرلمان المذكور لم يلق من طبقة الاكليروس آنئذ اهتماما كافيا بصفتهم الفئة المتعلمة من الشعب.
وتوالت القلاقل والحروب مما كان يزج جماهير الشعب في المجازر البشرية ويشغلها عن التعليم وغير التعليم، حتى كانت اواخر العصور الوسطى وأوائل العصور الحديثة، وظهر في أوروبا ما يعرف بالنهضة الأوروبية. جاءت هذه النهضة نتيجته منطقية حتمية لاسباب كثيرة أهمها تهدم نظام الاقطاع ونمو نظام اقتصادي جديد كان يمتاز بالتجارة الواسعة وبداية الصناعة الحديثة على أساس المشاغل أو ما يعرف بالمانيفكتر. جاءت هذه النهضة عامة شاملة فرأى التاريخ تجددا وانتعاشا في الفنون كما في العلوم وقفز التعليم أيضا فقزة أمامية جديدة لم تكن بالامكان إلا في هذه الفترة. ذلك أن حركة النهضة الفكرية والفنية ومصاحبتها لتقدم ملموس في وعي جماهير الشعب الاجتماعي الذي نتج عن تهدم الاقطاع ، كل ذلك قد اكسب سواء الناس حق المطالبة بالتعلم ليلائموا بين ما اكتسبوه في الناحية الاقتصادية ما يعرفونه. وهذا جعل من التعليم الفردي الذي كان سائدا اسلوبا سخيفا يعرقل الواجب الاجتماعي الجديد. وهنا برز الى مسرح الوجود "نظام الصفوف" الذي يمكّن المعلم من تعليم عدد كبير من التلاميذ في وقت واحد. ولا شك أن العناية الخاصة التي كان يحظى بها أبناء النبلاء لدى معلميهم الخصوصيين لم يكن لها وجود في نظام الصفوف. فالصفوف تضم في الغالب أبناء الطبقات الفقيرة المنتجة ، والمعلمون الجدد في هذا النظام قد تغيرت مفاهيمهم ايضا اذ شرعوا يتحسسون ضرورة العمل على اساس تعاوني اجتماعي وليس على اساس فردي. ونتج من هاتين الحقيقتين أن نظام الصفوف كان صورة صادقة للنظام الاقتصادي المادي الذي بدأ يسيطر على أوروبا بأجمعها ، ذلك النظام الذي بدأ يجمع مئات العمال تحت سقف واحد يتعاونون في الانتاج المشترك.
ثم شعر بعض علماء التربية في تلك العصور بأن نظام الصفوف يقضي إلى حد على حقوق الطالب الفردية ، فبرزت نظريات جديدة تعالج هذا النقص في نظام الصفوف منها نظرية الصفوف المتوازية والصفوف المتحركة .والمقصود فيها إيجاد خطط تفصيلية داخل وحدة الصف تسهل عمل التعليم على المعلم والطالب وفي نفس الوقت لا تتعارض مع اتجاه الصف العام.
أما المرأة في الفترة السابقة للنهضة الأوروبية فكانت شأن الرجل قليلة الحظ من التعلم لاسباب أهمها اثنان:
أولا: تأخر المجتمع ككل وهذا ظاهر مما أسلفت.
وثانيا: سيطرة الرجل على المرأة ، تلك السيطرة التي وما تزال (الى بعض الحدود) تجعل منها ملكا للرجل يتصرف به كما يشاء. وكلا السببين يعودان في جذورهما إلى امر واحد هو تبعية المرأة للرجل واعتمادها الكلي عليه في حياتها ومعيشتها .
والمهم أن هذا الهضم لحق المرأة في التعلم نراه يزول تدريجيا ويختفي عن العيان كلما زادت مساهمة المرأة مساهمة فعالة وصحيحة في عملية الانتاج العام أي كلما انخرطت في سلك العمل.
أما رأي بعض رجال التعليم في ابعاد المدرسة واساليبها عن جو المجتمع الواقعي فهو رأي لا اساس له من الصحة.
لاسباب: ايسرها أنه غير ممكن . ليس من المعقول ولا من المستطاع أن تنزع من المدرسة أي اثر لما يجري في واقع الحياة الا بطريقة واحدة هي عزل الطلاب والمعلمين عن المجتمع وواقعه . ولقد اثبتت التجارب الكثيرة التي قام بها أصحاب هذا الرأي بطلان رأيهم ، أن المعلمين والطلاب وهما مادة التعليم الاساسية سيبقيان في صميم المجتمع! وأبعد من ذلك ان إبعاد المدرسة عن المجتمع الواقعي هو جريمة يقترفها اصحاب هذا الرأي ضد جماهير الشعب لان النشء العزيز الذي عليه يقع واجب بناء المستقبل يجب أن يتحلى بنوع معين من التربية تهيئة للحياة في مجتمعه والتكيف عليه . قال جون ديوي العالم الامريكي الشهير في التربية: "متى ربت المدرسة كل ولد من الامة على مبدأ اجتماعي تأتي لها هيئة اجتماعية خليقة بالمحبة والاحترام متناسبة والاعضاء متلائمة الاجزاء تسطع فيها أنوار البهاء".
هذه معلومات نستقيها من بطون التاريخ وليست اجتهادا أجتهده في هذا المجال.

*تطور اساليب التعليم*

 كان العلماء في العصور الوسطى والقديمة يعتبرون الطفل صفحة بيضاء ينقش المعلم عليها ما يريد كمية وكيفية. ولذلك تبارى المعلمون في طبع طلابهم كل بالطابع الذي يريد كما تسابقوا في حشو أدمغ الطلاب بالعلوم والمعارف والمعتقدات التي كانت سائدة آنذاك . ويستطيع كل من يرغب أن يرى نوع هذا التعليم أن يزور بعض المعاهد القديمة سيما في بعض المدارس الاكليريكية. إذ لا تزال هناك بقايا لتلك النظريات القديمة البالية التي تجعل من الطلاب آلات صماء لا إبداع عندها ولا تجديد. ولا غرابة أن تكون أساليب التعليم على هذا النحو في عصور خيم عليها الظلم والارهاب ، وقاوم فيها أولو الامر وحماة الزمان، قاوموا فيها العلم والعرفان حتى أقدم احد البابوات على احراق جاليليو لأنه قال ان الارض كروية!
ومن الممكن أن نتصور الطلاب في تلك العصور وهم يرتجفون فرقا اذا رأوا معلمهم، يجلسون كما لا يزال يقول بعض المعلمين حتى اليوم "مكتفين" ؟ ومن الممكن أن نتصور المعلم ذلك الجبار العاتي بعصا طويلة يجلس أمام الطلاب يلقنهم الدرس وهم يعيدونه على مسمع منه؟ فاذا أخطأ أحدهم ضربه المعلم دون عناء لان عصاه طويله . ومن الممكن أن نتصور غرفة الدرس وضعت الحصى في أحدى زواياها "لركوع" الطلاب عليها، وعلقت "اداة الفلقة" على الحائط رمزا لسلطة المعلم (المغوار)! من الممكن أن نتصور كل هذا لنقف على شعور الطلاب نحو المدرسة ومدى حبهم لها . ومن الممكن أن نتصور أحد آباء الطلاب يجر ابنه الى المدرسة التي (نجا) منها باعجوبة على أثر ضربه؛ يجر ابنه ويقول للمعلم المفضال: "لي العظم ولك اللحم فافعل ما شئت". – أيها الزملاء هذه هي مدارس القرون الوسطى وتلك هي أساليب التعليم فيها – ولكن: أليس ارهاب المعلمين للطلاب هو عينه ارهاب الاكليروس للشعب بالحرمان وارهاب النبلاء للاقنان بالضرب والتعذيب؟ أليست أدوات تعذيب الطلاب وعقابهم هي هي ادوات تعذيب الفلاحين عند النبلاء والبروتستانت في محاكم التفتيش ؟ ألا تتلاءم نظرية صفحة الطفل الملساء الخالية ، الفارغة، مع اعتبار أصحاب السلطة آنذاك للاكثرية الساحقة من الناس الذين هم الفلاحون الاقنان الاذلاء؟!!
يستطيع كل منكم أيها الزملاء والزميلات أن يلمس العلاقة الوثيقة بل والارتباط التام بين أساليب التعليم ومادته وبين ظروف الحياة المادية لعصر من العصور.
ودارت عجلة التاريخ – وهي دوما متحركة – وتقدمت أساليب الانتاج وتعاظمت قوة الانسان وتمادى في تسخيره الطبيعة وقواها ؟ فضاقت جماهير الناس ذرعا بالاقطاع وجهله وارهابه واستغلاله! واندفع الناس بقيادة التجار والصناعيين الصغار كالتيار الجارف فحطموا دعائم الاقطاع واقتحموا "الباستيل" في فرنسا رمز طغيان الاقطاع واحلافه ، ورفرف فوق أوروبا جمعاء علم جديد كان يخفق في سمائها ويرفع شعارات "الحرية والاخاء والمساواة" ! ونتيجة لهذا حدثت انقلابات عظيمة في أساليب التربية والتعليم تتناسب مع ذلك العصر ولا يمكن أن تحدث قبل ذلك.
 لقد كان روسو من ابرز المفكرين الذين حضروا للثورة الفرنسية الكبرى – ولكن روسو كان مبرزا أيضا في عالم الاجتماع والتربية . والنظريات التي سبقت الثورة الصناعية من علمية واقتصادية واجتماعية ، تلك النظريات فندها تطور العلوم الحديث، وروسو هو حلقة في تطور العلوم الحديث الذي انتظم أوروبا كلها في القرن الثامن عشر والتاسع عشر. إن نظرية "الصفحة البيضاء الملساء" التي كانت سائدة قد اندثرت واثبتت العلوم أن الطفل عندما يولد يتحلى بغرائز تامه ويرث عن والديه امكانيات معينه لا يمكن ازالتها وان كان بالامكان تحويلها وتوجيهها. ومن الاجرام حقا أن تقهر غرائز الطفل أو يتناساها المعلم فيقتل فيه قوته الحقيقية ومصدر ابداعه في المستقبل. وكتاب روسو المعروف بـ"اميل" يصور لنا رأيه في وجوب تربية الطفل على اساس الحرية والتجربة والخطأ.
وهكذا نرى أن الثورة في عالم الاقتصاد والصناعة والنهضة الشاملة في العلوم والفنون- ومصاحبة كل ذلك لوعي اجتماعي متزايد وحقوق دمقراطية مكتسبة- نرى أن كل ذلك يتلاءم مع رأي روسو في التربية والتعليم.
إن العلوم الحديثة بتطورها الثوري العظيم قد صبغت أساليب التعليم بصبغة واقعية تجربية. فنظرية دارون في علم الحياة بدون اوهام القرون الوسطى التي تبشر بالجمود والاستقرار والتسليم الاعمى . لقد تطورت العلوم المختلفة بفضل اسلوب التجربة والايمان بقوة العقل البشري وصدق ما يتوصل إليه عن طريق احاسيسه المختلفة. لقد أصبحت النظريات الحديثة في علم النفس الذي يؤثر بفن التعليم تأثيرا بالغا أصبحت نظريات علم النفس تبنى على قواعد الاحساس وصدقه. وهذا أمر واقعي لاغبار عليه. ولكن شاء بعض علماء التربية والتعليم أن ينحرفوا انحرافا متطرفا أو قل إن ظروفهم المادية دعتهم إلى ذلك. لقد شرع هؤلاء يقولون إن الغاية من التعليم هي تقوية الاحساس وارهافه لا أكثر ولا أقل وبذلك يستعمله الطالب في المجال الذي يريد . وفي هذا الرأي كما ترون عزل لفن التعليم عن غاية التعليم الحيوية المادية ، يشبه رأي الفنانين أصحاب البروج العاجية. أن أولئك يجعلون من التعليم غاية لا واسطه. وفي هذا عزل للمدرسة عن البيت وابعاد للطالب عن حقيقة حياته وواقعها وفي هذا يقول روسو:
"انا مع وجوب تقوية الحواس بألعاب معينة لا نجعلها غاية مقصودة بالذات. فانه لا يكفي أن نستعملها لغاية أن نقويها ، بل يجب أن نستعملها وسائل للحكم على الشيء . اذ لا نستطيع في الحقيقة أن ننظر ونسمع ونلمس إلا حسب ما نتعلم – نعم إن مجرد استعمال الحواس ميكانيكيا قد يقوي البدن دون ترقية الحكم . فقد نحسن السباحة والركض والقفز ورمي الحجارة غير أن لنا عيونا وآذانا تعلمنا كيف نستعمل الايدي والاقدام . فلا تقصر همك على رياضة القوة بل قوِّ الحواس على أنها وسائل لقيادة القوة وارشادها . فأحسن استعمال كل منهما وادفع نتائج الواحدة بالاخرى . فقس واحسب وزن وقابل ولا تستعمل القوة قبل تقدير المقاومة ؟ وليكن حساب النتيجة سابقا لاعمال الوسائل . واجعل الولد يهتم بتجنب الجهود الباطلة أو الناقصة في تحصيل المطلوب . وإذا ربيته على أن يحسب نتائج ما يفعله هو ثم اصلحت غلطة في حسابه بعد الاجتهاد والاختبار كان مفعوله "أوفر وعمله أحكم وأكثر".
 أيها الزملاء والزميلات: إن واجب المعلم أي يرعى اتجاهات الطلاب العامة والغايات البعيدة من تعلمهم لا أن يكون آلة صماء مشلولة في المجتمع تدور في دوائر مغلقة . ومن منكم أو منكن يرضى أو ترضى بالعزلة القاتلة عن تقرير مصير مجتمعه وتاريخه الذي يقرره الى حد بعيد نوع التربية التي يتلقاها النشء. انني اعيد ما قلت: ليس في مجتمعنا شيء اسمه حياد ، وكل من يحترم عمله والعلم الحديث والمنطق الحديث يعلم أن الحياد هو أمر وهمي . ان الحياد هو مؤامرة لشل قسم من المجتمع عن العمل النضالي المستمر مما يضر بمصالح فئة خاصة من الناس . ومن يقنع نفسه بالحياد فهو يخادعها ويعلم أنه يؤيد مدى التأخر التي تشد بعجلة التاريخ الى الخلف ولا يرضى أحدكم أو أحدكن أن تكون المدرسة على هذه الشاكله.

 

أما بعد،
فلقد قيل أن القرن الثامن عشر والتاسع عشر كانا قرني ثورة في نظم التعليم. ومن يطلع على تاريخ التربية والتعليم يتأكد من هذه الحقيقة. فمنذ أن بزغت شمس الحضارة الصناعية الحديثة وعلم النفس وعلم التربية والتعليم في حال تطور دائم ، نظريات تنقض ونظريات تبرز وتنمو ولكن جميع هذه النظريات ترتكز على اساس واحد هو احترام الطفل والعناية به وبمواهبه ، والسعي لتوجيهها وتقويتها وابرازها. وكان أبو هؤلاء المربين بستالوزي الذي توفي سنة 1827، وتبعه تلميذه فروبل الذي فكر أول من فكر بروضات الاطفال. وعلى اسس التجريب وتقوية الحواس لانها ابواب المعرفة نشأت طرق تعليمية جديدة كثيرة منها طريقة ديكرولي ومنتسوري ودلتن إلخ...
ولا أود أن استرسل في تحليل كل طريقة من هذه الطرائق لضيق المجال أولا وثانيا لانها كلها تتحد في مراميها وتستهدف غاية واحدة هي تنمية حواس الطفل وتقريب حياة المدرسة من حياته الواقعية. لقد كان يشعر اولئك المجددون جميعهم أن المدرسة بعيدة عن البيت. ان اساليب التعليم والتربية في المدرسة، والمادة هناك؟ لا تنقل الى الخارج ولا يستفيد منها الطلاب كما هو المقصود. وهذا ما نشعر به نحن هنا فكم سائل يسأل وماذا يستفيد طلابنا من تعلم الجبر والهندسة والكيمياء اذا خرجوا الى العالم القاسي؟
ايها الاخوات والاخوان: هذا ما بدأ يتحسسه علماء التربية والتعليم في القرن التاسع عشر والعشرين: أن المدرسة بعيدة عن البيت في وجوها واساليبها. وان التعاون بينهما مفقود أو يكاد يكون مفقودا ، وفي سبيل التقريب بينهما واحلال التعاون مكان التنابذ جرب اولئك الناس طرقهم وبذلوا جهودهم. ولكن السؤال الذي اطرحه الآن: هل نجح هؤلاء المربون في تجاربهم؟ إن واقع الحياة يثبت عكس ذلك. فنحن كجزء من العالم نشعر بوطأة التناقض بين البيت والمدرسة إن جو البيت هو واقعي يتأثر به الطالب عندما يحادث أباه وأمه ويجدهما في واد والمدرسة في واد. كذلك يتأثر الطالب بجو البيت عندما تقف الحاجة المادية حجر عثرة قي سبيل نيله كتابا أو قطعة لباس. أما جو المدرسة فهو جو المعلومات المطلقة والعظات الاخلاقية والتحليق في سماء الخيال. انه جو التسابق للعلوم، جو الارهاق الفكري. وهكذا فبين جو المدرسة وجو البيت هوه سحيقة. واسمحوا لي أن أقول إن هذه الهوة تزداد عمقا اذا ما عرفنا أن جو البيت ولا سيما الشرقي منه هو جو الجهل والاوهام المخيم على الوالدين والاقارب وجو المدرسة هو جو العلوم الحديثة والنور والعرفان. فكيف يمكن والحالة هذه التقريب بين البيت والمدرسة لنجعل من التعليم فنا انشائيا يساعد النشء في حياته الواقعية ليبني مستقبلا سعيدا مرحا؟
ايها الزميلات والزملاء، طريقة البحث العلمي هي الوحيدة التي توصلنا الى نتائج مرضية. ولذلك فلا نستطيع أن نبحث قضية اصلاح أساليب التعليم في مدارسنا دون توسع الدائرة وربط الامور بعضها ببعض. وعلى هذا الاساس أقول:
1. إن اول ما يجب عمله هو رفع مستوى حياة الفئات الفقيرة الاباء والامهات مع الابناء والبنات. وهذا الواجب يقع على المعلمين كما يقع على غيرهم؟ وقبل أن تمتلئ البطون لا يمكن أن يجد العلم طريقا الى الذهون. وكل انسان عاقل يعلم طريق العمل المجدي لحل مشاكل البطالة والفقر، ففي هذا السبيل ليعمل العاملون .
2. وثاني ما يجب عمله هو رفع مستوى حياة المعلمين الفكرية والمادية. إن قسما كبيرا وكبيرا جدا من المعلمين يعاني. فقرا مدقعا واحوالا مالية قاسية للغاية، وذلك بسبب المسؤوليات التي يتحملها وبسبب انخفاض القوة الشرائية لراتبه الشهري. والمعلمون والمعلمات هم أولى العاملين في جهاز الحكومة بكفاية حاجتهم المادية، لينصرفوا الى عملهم المقدس الدقيق انصرافا كليا.
 اما مستوى المعلمين الفكري فيجب أن يظل في ارتفاع مستمر وتجدد دائم بحسب النظريات العلمية الحديثة في جميع الحقول لاسيما التربية والتعليم وعلم النفس ومن اجل ذلك يجب عقد الفصول التدريبية والتدريسية على شكل واسع ويجب تشجيع المعلمين لتكملة دراساتهم العلمية.
3. ولكن المعلمين يجب أن يصلوا الى هذه الاهداف لا افرادا بل في شكل اجتماعي منظم. وعلى هذا فمن الضروري ان ينتظم المعلمون في الجمعيات المختلفة تنمية لروح التعاون بينهم وتقريبا لهم من صميم الحياة الواقعية. واول هذه الجمعيات التي يجب عليهم أن ينخرطوا فيها هي نقابات المعلمين ومن المفرح حقا أن يكون معلمو اسرائيل قد انتظموا جزئيا في نقابات ، وما نرجوه هو أن تسرع السلطات المختصة الى الاعتراف سريعا بقانونية النقابة هنا .
4. ازالة الامية بين الكبار والصغار! وانما اعني الكبار لأن التقريب بين المدرسة والبيت لا يتم الا اذا اتسعت آفاق الوالدين وتبدد من عقولهم الاوهام. ان تعليم الكبار يساعد الابناء والبنات على التعلم.
5. اما من ناحية المدرسة نفسها فمن الضروري توسيع المختبرات الزراعية والحيوانية والطبيعية والكيماوية. إن حشو عقول الطلاب والطالبات بالنظريات العلمية دون اجراء التجارب العلمية مما يشد تفكير الطلاب ويقتل قوتهم الابداعية.
6. وبرامج التعليم في حاجة الى تغيير اساسي يجعل منها وسائل لتنمية قوة التفكير لا حشو الدماغ بالمعلومات الجافة المطلقة.
7. وان انسَ لا أنسى ضرورة تقريب المدرسة من الاهالي واشراكهم في مسؤولياتها كتأليف لجان من أولياء أمور الطلاب تتعاون مع الهيئات التدريسية على تربية النشء وتعليمه.
هذه هي اهم الامور التي اعتقد بضرورة انجازها لجعل التعليم فنا إنشائيا متقدما. ولا شك أن قرار الحكومة الاخير بشأن التعليم الالزامي كان خطوة تصاعدية طيبة من حيث المبدأ ، وما نطلب تجنبه هو جعل صفوف المدارس (زرائب) بتكديس (الستينيات) (والسبعينيات) من الاجساد البشرية الغضة فيها وتسمية ذلك تعليما الزاميا. ان واجب الحكومة يدعو الى توسيع المدارس وتكثير المعلمين لاستعاب الطلاب والطالبات في سن التعليم.
أيها الزميلات والزملاء أيها الاخوات والاخوان لستُ أشك في صعوبة تطبيق مقترحاتي ولا في حراجة الظروف الحاضرة، انها اقتراحات تتطلب مجهودات كبيرة. ولكن من طلب الكبير ضحى في سبيله بالكبير والسلام.


 

فؤاد خوري
السبت 10/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع