لا شك ان ما يقوم به الصديق الممثل القدير الصامت والصاخب في ذات الوقت سعيد سلامة ورفاقه في مؤسسة زيدان سلامة للثقافة والفنون وتقديمه حتى الآن لاربعة مهرجانات دولية لفن التمثيل الصامت - البانتوميما في شفاعمرو عمل جبار وكبير يشكر عليه هو ورفاقه المنظمين الذين عملوا فاجادوا وخلقوا ولو لايام واقعا جميلا مغردا في وجدان آخر بائس تنقصه الثقافة وخاصة المسرحية. عندما تلقيت دعوة لحضور افتتاح المهرجان الرابع هذا العام عدت خلال لحظات عشرين عاما ونيفا الى الوراء وشعرت بذاتي وانا اتهيأ وارتدي ملابسي الاحتفالية واضعا الدعوة في جيب القميص بأنني للتو ذاهب للمسرح الوطني في براغ العاصمة الاوروبية الثقافية المسرحية العريقة حيت يتعامل الناس هناك مع الفن والثقافة بصورة عامة والمسرح بفروعه المختلفة بشكل خاص يشابه تعاملنا نحن هنا مع الشمس والهواء. حضور مسرحية او حدث ثقافي آخر كل اسبوع او اثنين هي حالة فردية وجماعية بل يكاد يكون واجبا وطنيا يحترمه الناس هنا بكل فئاتهم وتياراتهم. كثيرة هي المرات التي وقفنا بها هناك بالطابور اسابيع قبل الموعد لنشتري تذكرة الى باليه " بحيرة البجع " او اوبريتا " دون جوفاني " او " سبارتاكوس" او عرض جديد " للمسرح الاسود " الفريد من نوعه في العالم الذي يجمع في طياته خليطا فريدا وبديعا بين المسرح والسينما وبين المسرح الناطق والآخر الصامت. كنا عندها نشعر ان الناس يعيشون للحظتهم عيدا كل مرة من جديد وقد تزينوا وارتدوا اجمل ما عندهم من ثياب وتعطروا وتحضروا جسديا ونفسيا للقاء ثقافي – مسرحي يتوارثونه هناك ابا عن جد. حتى تحت الاحتلال النازي لم يتوقف العمل في المسرح الوطني بل زاد من عروضه لانه كان وما يزال يبلور وبصدق الروح الوطنية التشيكية الصادقة في كل حين وفي كل حال. كان رد الشعب هناك على الاحتلال ان زاد من دعمه المعنوي والمادي للمسرح الوطني ولم تنجح جحافل هتلر كلها ان تقضي على الروح الوطنية التشيكية بل زاد عنفوانها حتى بلورت لذاتها مقاومة وطنية قاتلت النازيين في شوارع براغ والمدن التشيكية الاخرى ونجحت في اغتيال " هايدريخ " الحاكم العسكري النازي هناك وبقيت قوية وحيوية حتى وصلت جحافل الجيش الاحمر في 8/5/1945 وحررت براغ نهائيا من الوحش النازي .
كتبنا هذا لنلقي ضوءا بسيطا على اهمية الثقافة والمسرح بشكل خاص عند الشعوب المتطورة التي كونت منذ زمن بعيد قاعدة وجودية اساسية لتلك الشعوب لاستمرارية وجودها الثقافي والوطني والجسدي المجرد .
كتبنا مرة وربما كتب ذاك قبلنا الكثيرون بان " المسرح مرآة للمجتمع " وغياب مسرح دائم هو غياب لاحد اهم دعائم الوجود لمجتمع يصبو الى البقاء والتطور والاستمرارية الى الابد .
نحن هنا نكد ونعمل ونفكر جاهدين في استرجاع ذاكرة شعب ذهبت مع رياح العاصفة ونحاول ان نبني مدماكا " فرتواليا " خياليا حجرا على حجر لنكمل بناء زماكانيا جماليا ضاع في الضياع وكاد ان يذهب ادراج الرياح مرة واحدة والى الابد. الصديق سعيد ورفاقه الشفاعمريون بكافة اطيافهم ابدعوا واوجدوا حالتين وجوديتين شفاعمريتين كانتا مختفيتين تحت قشور ثقافية استهلاكية فعلت فعلها بالمجتمعات الحية وقوضت اركانها الثقافية والانسانية والحضارية الحقيقية بصورة عامة .
يكفينا ما تقدمه الفضائيات العربية وخاصة المصرية واللبنانية من ثقافة ضحلة هشة بعيدة كل البعد عن مقومات الثقافة الوطنية الاصيلة التي تربينا عليها بجهد عربي مصري بالاساس قبل عقود قليلة مضت وبالتحديد قبل ردة السادات وتصفيته منجزات ثورة 23 تموز يوليو المجيدة هناك. ما زالت بقايا هذه الثقافة الوطنية باقية واعية ومشرفة في سوريا العربية رغم كل حملات الضغط التي تمارس ضدها ليلا ونهارا من قبل الدوائر الامبريالية العالمية بمختلف صورها. علوج ثقافة الفضائيات كثر وسوقهم رائجة هناك وخاصة في مصر ولبنان ولا نقصد هنا المثقفين الواعين الوطنيين ولا بحال من الاحوال وهم كثر ولكن الاستهلاكية المفتوحة على الغرب اسكتتهم وابعدتهم عن دوائر الثأثير. دأب مثقفو العولمة هناك في العقدين الاخيرين على خلق حالة لا ثقافية - شبه بورنو غرافية - استهلاكية وقحة تهيء للامبريالية المعولمة ان تقتحم مكونات تلك المجتمعات الفقيرة ماديا بعزلها ومن ثم تبديد ارثها الحضاري الضخم الذي يعود الى قرون عديدة. في هذه العجالة لايمكننا ان ننسى ان الايادي الآثمة الاجنبية عملت هي الاخرى بدورها على وأد الثقافة والحضارة العربية - الاسلامية. تجلى ذاك بالتاريخ المدون الذي نعرفه على الاقل مرتين حتى الآن الاولى عندما غزا هولاكو ومعه التتار بغداد والقوا بكتب " دار الكتب " الى مياه دجلة والثانية عندما غزت الجحافل الامريكية بغداد عام 2003. قصفت الطائرات الامريكية والغربية –المتنورة في بداية قصفها هناك في بغداد الرشيد المتحف العراقي الوطني وكأنه كان هدفا استراتيجيا عسكريا او منصة اطلاق لصواريخ عابرة للقارات .
ربما فهم الغزاة المعاصرون الامر كما نفهمه نحن ونكتب عنه الآن ولسان حالهم يقول "..اذا قضيت على حضارة وارث وطني لشعب من الشعوب سهل عليك القضاء عليه جسديا و معنويا .. ما يتبقى منه بعد ذاك بقية شعب ضعيف وهش يكون امر اخضاعه مقضيا ". عذرا على هذا الاستطراد نعود الآن الى الحالات التي خلقتها مهرجانات شفاعمرو للتمثيل الصامت .
الحالة الاولى - خلق حالة مسرحية وتقليدا مسرحيا بغض النظر عن نوعية هذا المسرح ومستواه الفني في بدايته. مجرد هذا الخلق هو بداية واعية لبعث جديد لحركة مسرحية ثقافية مباركة عرفتها شفاعمرو في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي زالت فجأة كما ظهرت فجأة - وهذا بحد ذاته عمل جبار وكبير .
الحالة الثانية - خلق مفهوم آخر لتواجد الشعبين في هذه البلاد. يمكنهما ان يلتقيا على خشبة المسرح ووراء كواليسه حتى يرى الواحد منهم الآخر مجردا بصورة انسانية مباشرة ويخاطبه بالثقافة والمعرفة وبلغة العيون ولغة الجسد ولغة العقول. نحن نرى خلق حالات فريدة كهذه هي حلقة لتحقيق ذات الشعبين هنا وفرصة تعايش مزدوجة لا بد منها في نهاية المطاف بعد ان يأخذ كل ذي حق حقه وتزول جميع ظواهر العنصرية والتمييز القومي من قاموس الوجود الواقعي هنا حتى الآن .
لا شك ان الصمت هو لغة الآلهة ولغة الوجود الاولى. احس بان الله عز جلاله كان واقفا بعظمته على حافة العالم في بداية الخلق صامتا متأملا راسما لوحة خلق الكون بعبقرية مطلقة. رسم البحر فكان البحر رسم الشمس فكانت الشمس رسم الجبال فقامت من اعماق البحر. رسم الريح فهبت تدور مع روح الخالق تبحث عن بقية الجمال الذي تكون وتصور. ان لغة الصمت والايماء هي لغة الانسان الاول. ذاك الذي سجد للخالق يمجد الخلق و يشير ببنانه لرفيقة عن عظمة الخلق. جدنا الاول قبل جدتنا الاولى القبلة الاولى بصمت وخشوع ولسان حاله تقول " احبك مثلما احب الله هذا الوجود. صمتي ولواعج قلبي ورفات جفوني هي دليلي " .
البانتوميما - اذًا هي فن الهي اصيل وجميل وقديم قدم البحر هادئ ومعبر لكن تنقصه الحناجر القوية الجبارة حتى تقول القول الفصل وحتى تصرخ عاليا الى السماء التي ابتعدت عنا في عصرنا الغريب هذا حتى اصبحنا نعيش حالة غير طبيعية في عالمنا اليوم ..عيشة مرتجلة وزائفة وعاتية تأكل الاخضر واليابس من امامنا وتحرق شراع الحق في اليوم آلاف المرات .
كم تمتعت مع ذاك المبدع الذي اتانا زائرا من بلغاريا الذي تقمص دور العنكبوت فاردا شبكته العنكبوتية متربصا لذبابة او لحشرة عابرة تقع فيها فيلتهمها ويعود الى نصب شباكه والى صمته والى حيلته مترقبا فرصة اخرى. هذه الحادثة الغريزية رغم بساطة وقعها هي حالة وجودية تتجلى فيها العبقرية التي اوجدتها الطبيعة والبشرية ومنذ ان خلقت. فيها صراع البقاء وفيها بقاء المادة وتحولها وفيها مادية الحياة وفيها عرض صامت بارع ابدي مثوارث بلغة الصمت منذ بدء الخلق. عرض ذاك العنكبوت كان صامتا ولكنه في برهة لخص معضلة هذا الوجود بعظمته كلها .
اذا انوجد الاساس فلماذا لا نكمل البنيان ؟
لماذا لا نخلق مع المسرح الصامت مسرحا آخر ناطقا يبلغ رسالة وجودنا الحضارية المعاشة في هذه الارض المعذبة ؟
لماذا لا نخلق حركة مسرحية شاملة ودائمة ونبني مدماكا حضاريا اساسيا متمسكا بجذور هذا الوطن. اعتقد ان الطاقات باتت شبه متوافرة في شفاعمرو ونقصد البناء التحتي للمسرح من حيث وجود قاعات العرض والتقنيات ونقصد بذات الوقت البناء المسرحي الفوقي - البشري من ممثلين ومواهب وكتاب مسرحيين وكوادر فنية تنتظر فرصة لانطلاقها. النصوص المسرحية العالمية والعربية متوافرة والنصوص المسرحية المحلية ستنوجد ان رأت فرصا سانحة للتجسيد على خشبة مسرح هادف وواع.
صدق صديقنا سعيد عندما قال بكلمته القصيرة ان جمهور شفاعمرو ربما شاهد او يشاهد بانتوميما اكثر من اي جمهور آخر ربما في العالم كله وهذا اصبح كلاما واقعيا وجميلا. للمحافظة على هذا الجمهور يجب ان نجعله مرة يصمت ومرة يصرخ من اعماقه. واقعنا المعا ش السياسي والاجتماعي والاقتصادي يحتاج منا احيانا الى صراخ عابر للقارات .
البانتوميما في شفاعمرو كسرت حاجز الصمت وخلقت واقعا مسرحيا لكنها مع كل جمالها لا يمكنها ان توجه مجتمعا بخطاه المستقبلية وخاصة اننا بحاجة ماسة لمثل هذا التوجه والتوجيه لنحافظ على ذاتنا المعرضة لبراثن الغوغائية الطائفية والعائلية والعدمية القومية والاستهلاكية الضحلة التي باتت تجرف ذاتنا الثقافية الحضارية تلك. تعالوا لنفكر معا كلنا في خلق مسرح شفاعمري ناطق ناجح بجانب الآخر الصامت الناجح التي شقت سمعته الآفاق .
(شفاعمرو)
د. فؤاد خطيب *
الثلاثاء 6/5/2008