كي لا يصبح نداء يا عمال العالم اتحدوا نفاقا مخجلا في أفواهنا



حاولت في مقالات سابقة توضيح بعض جوانب النقاش الدائر في الحزب منذ المؤتمر الأخير ، والذي اتخذ منحا سلبيا خاصة منذ مؤتمر الجبهة . أما وقد تعدت خطوط النقاش حدود النرفزات المسموح بها شرعا كما ظهر في رسالة رفيق من حيفا إلى الأمين العام للحزب ، واندلقت على صفحات المواقع الالكترونية . واكتسبت هالة ( فكرية ) تقدم النظرية الماركسية كنظرية إصلاحية ترقيعية وغير ثورية ، كما يظهر من مرة إلى أخرى في تنظيرات الرفيقة تمار غوجانسكي ، فلا بد من، الوقوف على إسقاطات  هذه الظاهرة وكشف جذورها  الفكرية  .
من الجهة التنظيمية تستطيع قيادة الحزب أن تعالج مسالة الخروقات التنظيمية من خلال الأطر الحزبية ، لكن عدم الوضوح الأيديولوجي وتشويه الماركسية في خدمة رأي خاص ليس فقط انه يتعارض مع الماركسية ، بل ويتعارض مع قرارات مؤتمر الحزب ، بحاجة إلى أكثر من معالجة تنظيمية .
في الحقيقة هالني ذاك التشويه الحاصل في فهم حق الأمم في تقرير مصيرها ، والتشويه الحاصل في فهم التناسب بين ما هو قومي وما هو أممي ، هالني ذاك البون الشاسع في الفهم الأيديولوجي المفترض لقضايا الصراع الطبقي وقضايا الصراع القومي .
لقد كتب بليخانوف في عام 1902 ، ونحو انعقاد مؤتمر حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي في روسيا عام 1903 ، في العدد 4 من مجلة زاريا ( الفجر ) على الصفحة 135  كتب ما يلي : " إن مبدأ حق تقرير المصير الوارد في البرنامج والذي كان غير إجباري بالنسبة إلى الاشتراكيين البرجوازيين ، إلا انه إجباري بالنسبة إلى الاشتراكيين الديمقراطيين ، فلو أهملناه وخشينا الإفصاح عنه خوفا من صدم الأوهام القومية لدى مواطنينا من أبناء القبيلة الروسية ، لكان نداء : يا عمال العالم اتحدوا ، نفاقا مخجلا في أفواهنا " .    ولو قيض لي الإشارة إلى الجذور المعرفية لوهن وأزمة اليسار الإسرائيلي ، والى جذور الانتهازية في فهم التناسب بين الطبقي والقومي ، لأشرت إلى تلك المقالة والى الجملة المقتبسة أعلاه بالذات . واعتقد أن الخوف من صدم الأوهام القومية لدى أبناء القبيلة اليهودية ، ومحاولة خلق بدائل "نضالية" اخف وطأة من القضايا الجوهرية والمفصلية ، هي التعبير المركز للانحراف وبنفس الوقت التعبير المركز لازمة اليسار ، ولا اعني هنا ما يسمى اليسار الصهيوني ، وإنما اليسار غير الصهيوني أو حتى المعادي للصهيونية ، بما في ذلك بعض الفئات المتشنجة داخل الحزب الشيوعي ، وهي الفئة التي ابغي مناقشتها في هذه المداخلة .
قد يدعي البعض أن مجرد الاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني ، كاف لدحض هذا الرأي ، لكن في الحقيقة ليس هذا نقاشي وليس في ذلك تكمن الأزمة ، وإنما تكمن الأزمة في خلق الانطباع الزائف وكأن حل المسالة السيادية على مناطق 67 وتصفية الاحتلال كفيلة بحل المسالة القومية ، بمعزل عن مكانة الأقلية القومية العربية في إسرائيل ، واعني بمكانتها : حقوقها القومية والمدنية والتاريخية كمجموعة سكانية اصلانية ، وليس كما تصورها بعض طروحات تلك المجموعة والتي" تعتقد" أن الحديث يدور عن مجموعة مهاجرين استوطنت في السويد مثلا .
في مطلع يناير عام 2006 وفي مقابلة مع صحيفة كل العرب ، أعرب السكرتير العام السابق للحزب عن إمكانية إعادة النظر في يهودية الدولة بعد إقامة الدولة الفلسطينية في مناطق الاحتلال من عام 67 ، لاحظوا أن هذا التصريح قد سبق شروط اولمرت وبوش حول يهودية الدولة بنحو عام على الأقل ،    وقد ناقشت هذه المسالة سابقا ورفضت الربط الميكانيكي بين تصفية الاحتلال ويهودية الدولة ، وقد بينت سابقا أن ما نراه من قبول واسع لمبدأ دولتين لشعبين ، ليس بالضرورة جنوح إسرائيلي للسلام ، وتربع إسرائيلي للحق والعدل ، وإنما حرب على يهودية الدولة ، وحرب شعواء تشنها إسرائيل الدولة وإسرائيل المؤسسة الصهيونية لتصفية الأقلية العربية ليس فقط ثقافة وتاريخا وجغرافيا وإنما وجوديا أيضا . لذا ليس الانحراف في اعتبار معركة الجماهير العربية معركة وجودية ، وإنما الانحراف في دحر مسالة جوهرية ومفصلية مثل حق تقرير المصير ، ومكانة الجماهير العربية في إسرائيل ومسالة يهودية الدولة إلى مراتب متدنية في النضال الجماهيري . يتجلى الانحراف في تغييب القضية المركزية والتي قد تصدم بشدة أوهام القومية القبلية اليهودية .
يتجلى الانحراف  في  تمييع  علم  الطبقة العاملة الأحمر بألوان وردية وخضراء  واستنباط  طرائق "نضالية" ليس بالضرورة طبقية أو يسارية (كما تدعي تلك المجموعة) تعني بقضايا عامة وغير خلافية أو غير صادمة ، مثل حقوق "المثليين" وقضايا البيئة . لتقترب بطروحات اليسار من حالة منسجمة مع هذه الأوهام ، أو على اقل تقدير غير صادمة ولا تتعارض معها ، وسوف أعود لاحقا إلى هذه الطرائق "النضالية" المستحدثة ، ولكن أولا سوف أتوقف عند حق تقرير المصير .
لقد بينت في مداخلة سابقة بطلان الادعاء القائل بان الماركسية تمنح حق تقرير المصير للطبقة العاملة وليس للأمة ، وأوضحت أن الماركسية تتحدث عن حق الأمم في تقرير مصيرها ، وإدراك الماركسية التام للنزعات القومية داخل الأمم ، وكيف أن الماركسية لا توازي إطلاقا بين النزعة القومية للأمة المضطهدة وبين النزعة القومية لأمة تمارس الاضطهاد ، وليس صدفة أن تطالب الماركسية  من  طليعة  الطبقة العاملة دعم العناصر الديمقراطية  في النزعة القومية للأمة المضطهدة وتهذيبها ونبذ العناصر الشوفينية فيها ، وقد ربط  لينين بشكل واضح وصريح النضال الثوري في سبيل الاشتراكية بالبرنامج الثوري في المسالة القومية ، ( لينين – المسالة الثورية وحق الأمم  في  تقرير  مصيرها ) ، وفي المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي  البلشفي في روسيا أكد لينين : " انه سيكون من بالغ الخطأ  إزاحة تقرير الأمم لمصيرها ووضع تقرير الكادحين لمصيرهم ، لان هذا الطرح لا يأخذ بالحسبان بكم من الصعوبات وبكم من التعرجات يجري التمايز بين الأمم " ، وأنا شخصيا أفضل الاعتماد على لينين في هذه الحيثيات بالذات وليس على الرفيقة غوجانسكي .

اتفق مع الادعاء أن التغيير يأتي عبر مخاطبة المجتمع اليهودي ، وأكثر من ذلك اعتقد أن احد أشكال الأزمة هي عدم مخاطبة المجتمع اليهودي ، لكن بين المخاطبة والخطاب يجب أن يكون الوضوح ، وبين الوردي والأخضر والأحمر يجب أن يكون الأحمر ، فالسؤال هو بأي خطاب نخاطب المجتمع اليهودي ؟؟ ...  والنقاش ليس حول المخاطبة وإنما حول جوهر الخطاب ، وكل من يدعي خلاف ذلك عليه أولا أن يتحرر من سيكولوجية النعامة ، فتاريخيا كلفنا هذا النقاش انقساما في عام 1965 ، وليس سرا أن الانحراف الصهيوني لمجموعة ميكونيس وسنيه في جوهره إقصاء مركزية المسالة القومية ومراعاة الأوهام القومية القبلية اليهودية ، والاقتراب من طروحات مغرقة باليمينية ، لا يستطيع احد مهما بلغت حدة انحرافه أن يدعي أنها طروحات طبقية أو أممية . وتاريخيا أيضا كلفنا هذا النقاش اتهاما باطلا وظالما للقائد المتميز توفيق زياد بالتعصب القومي  وهو  خير من رفع الأممية إلى أرقى مراتبها ، مرتبة الكرامة القومية .
 للأسف تتكرر هذه الاتهامات اليوم مرة أخرى ، ولكن من واجبي وواجب الحزب التأكيد مرة تلو     المرة  ، إن  من  يريد أن ينحدر بالأممية إلى مرتبة العدمية القومية !! فليفعل ! ولكن ليس قبل أن      
- يفرجينا عرض أكتافه . وليتلمظ بعدميته بعيدا عن نهجنا الاممي الثوري . ومن واجبي وواجب الحزب  رفض هذه الاتهامات وتعرية حقيقتها الانتهازية ، فان كان مصدرها عربيا فهي انحدار بالأممية  إلى   حضيض العدمية القومية ، وان كان مصدرها يهوديا  فهي استعلاء  قومي يبغي مراعاة الأوهام القومية القبلية اليهودية .
حين كانت جدتي رحمها الله تنسب فعل الستر إلى ضمير الغائب المؤنث ، كنت أدرك أن هناك فضيحة يجدر سماعها ، ويبدو أن هناك ثلة تصر على الافتضاح وتقصي نفسها عن فعل الستر ، فان الحذلقة عن يسار ويمين وانحراف قومي ليست أكثر من قطعة بامبرز تستر عورة يمينية مناقضة تماما للموقف الاممي اليساري ومناقضة للتحليل الطبقي الحقيقي للظواهر الاجتماعية ، وتبغي الاحتكاك بأوهام القبيلة ، أو بكلمات أدق تبغي الاحتكاك بالإجماع القومي الإسرائيلي ، وهو الإجماع المعادي لجماهيرنا العربية وليس اقل عداءا لحزبنا الشيوعي .
لا تثيرني السطحية في تفسير الاستغلال الرأسمالي بقدر ما يزعجني التزوير النظري وزج الماركسية في مواقع إصلاحية ترقيعية ، والماركسية بريئة منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب ، ففي حين ننبري للنضال ضد البطالة والفقر ومظاهر الإملاق ، هناك من يسعى إلى طمس المعالم القومية للبطالة والفقر ، وهناك من يسعى إلى تصوير القضية بشكل مجرد من طبيعة النظام القائم في إسرائيل .  تعتقد تمار غوجانسكي أن تقديم المسالة القومية أو إعطاء الأولوية لحل النزاعات  القومية  هو انحراف من   المواقف الطبقية ، بل  وتذهب إلى ابعد من ذلك في قولها :
" إن اؤلئك الذين ينبرون للتصدي لاضطهاد مجموعة معينة بمعزل عن تحليل الجذور الطبقية للاضطهاد ، فإنهم يبقون في إطار هذا الخطاب ، والذي يفسر أسباب الاضطهاد بكون النساء – نساء ، وكون الشرقيين – شرقيين ، وكون العرب – عربا " انتهى الاقتباس وطيب الله الأنفاس ، ( الاتحاد 2 أيار 2008 ) للوهلة الأولى يبدو منطقيا ، لو أن نضالاتنا فعلا منعزلة عن تحليلها الطبقي ، فمعركة أيار 58 ليس فقط أنها طبقية بامتياز بل ووطنية من الدرجة الأولى عززت الانتماء القومي والوطني ، ولا يمكن لأحد أن يزاود على هذا التاريخ النضالي الناصع للشيوعيين العرب واليهود . ولنعود إلى الاقتباس أعلاه !! من المستفيد من مسح صبغة التمييز العرقي عن إسرائيل ؟؟ ألا تمارس المؤسسة الإسرائيلية تمييزا ضد الجماهير العربية على أساس عرقي  ؟؟ ألا تمارس إسرائيل نظاما من الفصل العنصري إلى درجة إقامة بانتوستانات محاطة  بجدران شاهقة من الاسمنت المسلح ؟؟  لماذا يتشبث البعض بمقولات مبتورة ومجزوءة من النظرية ، وينصرف من تاريخ نضالي مشرف مثال أيار 58 ، تاريخ  يربط القضية الطبقية بشكل ابداعي وخلاق بالقضية القومية والوطنية تماما كما رآها لينين .

إن محاولة محو صبغة التمييز العرقي عن إسرائيل ليست فقط انحرافا فظا من الماركسية وتحريفا سافرا لها ، وإنما ينطوي على خطورة بالغة ، خطورة تسرب طروحات صهيونية إلى داخل تنظيم ثوري معاد للصهيونية ،  واعني إلى داخل الحزب . والحديث عن الصراع الطبقي بهذا الشكل المبتور والمجرد لا يخدم الطبقة العاملة الإسرائيلية ، لا يخدم لا العمال العرب ولا العمال اليهود ، فإذا ما كشفنا الطابع القومي للاستغلال الطبقي سوف نخون امميتنا ونخون يساريتنا ونخون قضيتنا الوطنية ، فراس المال يشتد شراسة حين يستفرد بالعامل العربي أضعاف شراسته تجاه العامل اليهودي ، وإسرائيل الرسمية لا تخفي ذلك ، بل وأحيانا تتباهى بعمق عنصريتها ، فلو استثنينا العرب من معطيات البطالة مثلا وليس حصرا ، وبمعطيات إسرائيلية صرفة ، لوقفت إسرائيل في مصاف الدول المتقدمة بنسبة بطالة لا تتجاوز النسب الأوروبية ، ولكن  حين  يتم احتساب العرب ( رغم  كونهم أقلية لا تتعدى أل 20% من السكان )
تتراجع إسرائيل إلى مراتب الدول النامية . وهذه المقاييس تنسحب على كل مجالات الحياة ابتداء من حصة الفرد في الدخل القومي إلى التعليم إلى الأرض إلى لقمة العيش ، فهل يمكن الحديث عن الاستغلال الطبقي دون طابعه القومي العنصري ؟

إن تجريد النضال الطبقي من طابعه القومي ليس انه يدغدغ الأوهام القومية لدى أبناء القبيلة اليهودية فحسب وإنما يرضي شراسة رأس المال أيضا ، لذا لا يمكن أن تكون يساريا حقيقيا وثوريا امميا حقيقيا ،  إذا ما عريت الاستغلال الرأسمالي حتى آخر ورقة توت أو قطعة بامبرز قومي يستر عورته بها . وهذا ما نفعله نحن الشيوعيون وما يجب أن نفعله كي لا يصبح   نداء   يا عمال العالم اتحدوا ! نفاقا مخجلا في أفواهنا  !     
وبالعودة إلى استنباط طرائق "نضالية" غير صادمة للأوهام القومية القبلية اليهودية أو غير صادمة للإجماع القومي الإسرائيلي ، فإنني لا افهم كيف يمكن توجيه النقد الشديد لمشروع ندوات الطاولة المستديرة التي إدارتها الجبهة في الناصرة والتي تناقش القضايا الحارقة والملتهبةللجماهير العربية  وبنفس الوقت عقد ندوات حول "مسيرة التفاخر للمثليين جنسيا" ، شرفيا لا ادري بم يتفاخرون ، ولا ادري لماذا يصر البعض على اعتبار نكاح الابنّة والسحاق أجندة يسارية !!  وكي أكون جليا بودي أن أوضح أن ليس كل موقف علماني هو موقف يساري ، وليس كل معارضة للإكراه الديني هي معارضة يسارية . فاليسار بين واليمين بين ، نتفق جميعا على رفض الإكراه الديني ، ونتفق جميعا على رفض قمع المثليين ، ولكن هل نتفق جميعا على اعتبارهم شريحة اجتماعية تتوازى قضاياها بقضايا الأرض والمسكن وهدم البيوت ؟؟ وقضايا الأقلية العربية في إسرائيل ؟؟  وفي الحقيقة لا أرى جرعة زائدة من يسارية ولا جرعة زائدة من طبقية في الحديث المبتذل عن "المجموعات المضطهدة" والمزاودة والمبالغة في تقديم قضايا    " البيئة " وتقديم سخونة الأوزون وسخونة الهوائيات على سخونة دم شهداء هبة أكتوبر وعلى سخونة هدم البيوت ومصادرة الأراضي ومصادرة لقمة أطفالنا ، فمرة أخرى وكي لا يصبح نداء يا عمال العالم اتحدوا  !!  نفاقا  مخجلا  في أفواهنا ، توجب وضع النقاط على الحروف ووضع الأمور في نصابها ، فالأقلية العربية ليست أخرى "مجموعة مضطهدة" وإنما صاحبة ارض وصاحبة قضية ، ونقطة وسطر جديد خاصة أن مؤتمر الحزب وبعده مؤتمر الجبهة قد أقرا سطرا ثوريا على كل شيوعي وجبهوي الالتزام به .

بقلم : عبد اللطيف حصري
الأثنين 5/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع