تحتلّ قضايا البيئة في السنوات الأخيرة حيِّزًا لا يستهان به من جدول الأعمال الجماهيري العالمي. إذ صارت البيئة قضية القضايا في كثيرٍ من أصقاع كوكبنا الذي لا كوكب لنا سواه (ليس في مدى السنوات الضوئية المنظورة على الأقل) وأصبح لكل شيء في حياتنا بعدٌ بيئيٌّ ما. والقضية البيئيّة هي قضية حارقة حقًا. حارقة فعلا لا مجازًا فقط. ولكن، ورغم الاتساع المضطرد في ثقب الأوزون من جهة ومحيط الموجة البيئية من جهة أخرى، فما زالت معلومات ومعطيات كثيرة أسيرةَ أدراج قليلة، وما زال الغالب هو التسطيح الساذج والتعامي عن علاقة البيئة بالنظام العالمي الخاضع لمصلحة حفنة قليلة جدًا (وثرية جدًا) من الملوِّثين والملوَّثين بيئيًا وإنسانيًا. الولايات المتحدة الأمريكية، فضلا عن كونها المصدِّر الأكبر للإرهاب السياسي والعسكري والاقتصادي، هي المصدِّر الأكبر للإرهاب البيئي أيضًا؛ إذ تطلق بلاد العم بوش، التي بالكاد يساوي عدد سكانها 6% من البشرية، ما لا يقل عن 6 آلاف مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنويًا للفضاء. وبشكل عام، يبلغ معدّل نسبة إصدار العالم من الغاز 4,37 أطنان للفرد الواحد. الولايات المتحدة تصدر حوالي خمسة أضعاف هذا المعدّل (20,14 طنًا للفرد، مقابل 1,17 في أفريقيا و2,87 في آسيا). وإدارة بوش ترفض بكل وقاحة التوقيع على معاهدة كيوتو للحدّ من الاحتباس الحراري. وكما يحدث مع كل تناقض ينتجه النظام السائد، تقوم ماكينة غسل الدماغ الرأسمالية بعملها على أحسن وجه هنا أيضًا. فـ "الأخضر" – رمز الطبيعة والبيئة – أصبح "الجنس" الجديد. أي أنّ الأخضر "يبيع" هو الآخر. ولا غرابة في أن تكون أكثر المنظمات التجارية التي تجاهد في سبيل اخضرار صورتها الإعلامية (ما يُعرف بالـImage)، هي أكثرها تلويثًا للبيئة: صناعتا السيارات والطاقة - أي النفط، "بيئة" بوش وتشيني "الطبيعية"، إذا جازت الاستعارة. الكميات المهولة من الحبر الأخضر الذي يُراق في الإعلانات التجارية - والتي تعني، حسب الأبحاث، ربحًا إضافيًا مؤكدًا – لا تقول الكثير بالضرورة عن مدى التزام المعلن/ المُنتج البيئي، وهي غالبًا ما تكون شمّاعة لتعليق مشاعر الذنب التي تنتاب المجتمعات ما بعد الصناعية (وكأن مصير الدبب القطبية متعلق بنوعية ورق التواليت الذي تشتريه)، أو مجرّد موضة عابرة كغيرها من صرعات "الجيل الجديد" (New Age). والأنكى هو أنّ هذه الموجة الخضراء تجرّد الصراع البيئي من جوهره السياسي والاقتصادي، وتحوّل هذا التناقض إلى مجرّد سلعة تباع وتشترى على رفوف السوبرماكتات. والحقيقة هي أنّ الحفاظ على البيئة والحدّ من التلويث والاحتباس لهما ثمن وإسقاطات. ويرى بوش مثلا أنّه يتوجّب إرسال الفاتورة إلى الصين والهند، وليس لأصدقائه وشركائه وأسياده من كبار الملوِّثين الذين يكدِّسون المليارات على حساب صحة 6 مليار ونيّف من بني البشر. وفي إسرائيل يتشظى الموقف البيئي على راحته. فقط في إسرائيل يمكنك أن تكون مستوطنًا وبيئيًا في آن واحد.. لا يهمّ أنك تغتصب أرض غيرك وسماء غيرك وكل ما بينهما؛ ويمكنك أن تناضل ضد إجراء التجارب على الحيوانات الوديعة في معهد "وايزمان"، دون أن يزعجك تجريب أسلحة الفتك الجديدة على الأطفال والنساء في لبنان وغزة والعراق؛ يمكنك التألم لندبةٍ طفيفة على كتف تلة خضراء دون الاكتراث للجدار الرمادي البشع الذي يقضم الأخضر واليابس في الضفة؛ يمكنك أن تتظاهر ضد اقتلاع شجرة من أحد ميادين تل أبيب دون أن تنبس ببنت شفة احتجاج على رشّ عرب النقب ومحاصيلهم الزراعية بالمبيدات الكيماوية. يمكنك حتى أن تكون نجلَ أكثر حكّام إسرائيل دمويةً وأن تكون "أخضر" بكامل جوارحك. مثلما أنه لا يمكن عزل الاقتصاد والمجتمع عن السياسة، فلا بيئة أيضًا بلا سياسة. هُنا أيضًا، يجدر البحث عن "الأخضر" الآخر – الدولار.