ثلاث قصص قصيرة جدًا



 

 

 

 

 

 

 

// قدم ملساء

أدخل المقهى الوديع مع الأصيل.
سور المدينة أمامي، والسوق أمامي، ومدخل الجامع على يساري والطريق الصاعد إلى الحي القريب على يميني.
عند مدخل الجامع جنود يرقبون حركة السوق. وفي السوق نداءات ممطوطة وسلع رخيصة، ونساء يساومن الباعة على السلع حتى اللحظة الأخيرة.
وفي المقهى سائحة تمد ساقها (كما لو أنها في البيت) من تحت الطاولة إلى حيث يجلس قبالتها صديقها السائح. تريح قدمها الملساء في حضنه، وهو يمرر يده على القدم كما لو أنها قطة أليفة، والنادل يقترب منهما، يضع فنجانين من القهوة فوق طاولتهما ثم يغيب.
والجنود لا يغيبون. يدخل المصلون إلى الجامع ثم يخرجون. والسائحة لا تستعيد قدمها من حضن صديقها إلا عند الغروب. وأنا أتأمل كل شيء حولي كما لو أنني هنا للمرة الأولى، والمقهى حائر في أمره لا يدري ماذا يقول.
 

// مساء آخر


ها هو ذا مساء آخر يأتي، والمدينة تنتبه في اللحظة الأخيرة إلى موعد الإغلاق. بائع الأسماك، يخبئ في ثلاجة لها باب سميك، ما تبقى لديه من صيد البحر الذي لم تصده يداه. يشطف بلاط الحانوت بالماء والصابون، والماء الذي يحمل معه أخلاطًا وروائح، يسيل في مجرى خاص.
والمدينة تخلو مع مرور الوقت من الناس. تجارها يغلقون أبواب حوانيتهم ويهرعون إلى بيوتهم، ولا يتلفتون إلى الوراء، كي لا تصدمهم مفاجأة ما.
والمدينة من باب العامود حتى باب الأسباط، ومن باب الساهرة حتى الباب الجديد، تنام  ليلها المحفوف بالقلق، وفي أسواقها ليس ثمة إلا هواء مشرد، وصدى خطوات الجنود.
 

// امرأة من القطمون


اسمها هالة.
رأيتها تمشي في السوق بخطوات واهنة، سلمت عليها فسألتني: من أنت؟ أخبرتها من أنا، ومشينا معًا، وكان بلاط السوق مبتلاً من زخة مطر هطلت قبل قليل.
حدثتني عن حي القطمون، عن أيام شبابها هناك، عن البيوت المنهوبة. ثم حدقت في وجهي وقالت: ولكن من أنت؟ أخبرتها من أنا، ثم أبديت إعجابي بما كتبه أبوها طوال سنوات، عن جمال زوجته الأخاذ! عن تفجعه على أم الأولاد حينما اختطفها الموت! عن اعتنائه بالبنتين وبالولد!
اطمأنت إلي  وواصلنا المشي، وكان بلاط السوق لا يوحي باطمئنان. قلت لها: احذري الانزلاق! قالت إنها تشعر بالتعب. قلت: نشرب عصير البرتقال في الكافتيريا القريبة.
جلسنا في الكافتيريا مثل صديقين قديمين. أنا أصغي لها، وهي تروي نتفًا من حكايتها. وفي الخارج، مطر خفيف يهطل على مبنى الكافتيريا، على طريق أفتيموس، وعلى كنيسة الفادي الشهيد.
وهي تصمت، ثم تقول إن هذا المطر الخفيف يذكرها بذاك الخريف البعيد.


* كاتب فلسطيني مقيم في القدس المحتلة

محمود شقير
السبت 3/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع