أوراق لم تعد شخصية
البصاق على النفس



اضطررت أن أنتظر زوجتي في أحد مقاهي الناصرة، بعد أن أوصلتها في سيارتنا التي تلفظ أنفاسها الأخيرة، إلى مقر الأخذ بالخاطر بصحبة أختها وصديقتها، الأخذ بخاطر صديقة، صديقة جدا وصدوقة، فقدت زوجا، لم يكرهه أحد في هذه المدينة، وأعني مدينة الناصرة، التي احتضنتني، أنا الفلاح ابن الفلاح الذي فقد كل أراضيه، عندما خذلته الجيوش العربية سنة 1948، وها أنا أعيش في ظرف ألعن من تلك السنة، سنة النكبة، وقد فقدت الطيبة التي كان يتمتع بها أبي، ذلك الإنسان الساذج، الطيب، وطيبته هي التي أوصلتني إلى هذا البؤس السياسي والاجتماعي، ولكنني لا أغضب عليه، لأنه، وأعي ذلك، أراد أن يقي ابنه الذي هو أنا، وأبناءه الآخرين من الهلاك...وها أنا رياض مصاروة، الفنان، الإنسان العادي في مجتمعه، الذي لا يسعى إلى الخلود، ولا أسعى إلى أن أخلد، لأنني أعرف وأعي الحقيقة المطلقة، ألا وهي حقيقة الموت، لا شيء مطلق في هذا العالم غير الموت، لهذا السبب اخترت أن أنتظر زوجتي وصديقتها وأختها، عندما قررن أن يأخذن بخاطر تلك الصديقة الصدوقة، في مقهى وأطلب كأسا من العرق، كنت أنتظر الهاتف ليعلن لي أنه علي أن أنهض وأعيدهن إلى البيت، الهاتف لم يعلن أي شيء، وطلبت الكأس الثاني، وكانت جلستي في المقهى على طاولة على الرصيف، شربت، وفكرت بنفسي، وبولدي، وشكرت نفسي قبل أن أشكر الله أنني أديت كل واجباتي الأبوية والاجتماعية ، والوطنية. عندما أموت سيكتبون ذلك في مذكرة موتي وإعلان موتي للناس، الذين أحبوني، وسيحضرون جنازتي غير متأسفين على موتي، بعد حياة كلها عطاء وإنتاج، والذين يحضرون جنازتي بعد أن كرهوا صفات بي لم تعجبهم، وسيقولون كاذبين أن هذا الإنسان، الذي اسمه رياض مصاروة، كان إنسانا رائعا.
نعم...كنت إنسانا رائعا بما يخص الصدق، ذلك الصدق الذي يستطيع أن يكتشفه فقط ذلك الإنسان الذي يستطيع أن يكون صادقا في البدء مع نفسه، كنت إنسانا رائعا، وها أنا أعلن عن موت هذا الإنسان الرائع، في هذه اللحظة بالذات، في لحظة الوعي، وسأتخلى عن صفة الطيبة والروعة، وأعدكم بأنني سأصل إلى درجات لم أصلها حتى الآن، ربما سأحصل على جوائز لم أحلم بها في حياتي...وأسأل نفسي في هذه اللحظة، لحظة كتابة هذه التوافه التي تقرؤونها:" هل علي أن أتخلى عن الصدق في داخلي لكي أصل؟"
أعرف أن كتابتي هي كتابة تناصية...وإذا أراد أحد منكم أن يعرف ماهو التناص عليه أن يلجأ إلى أنطوان شلحت ليعرفه ما هو التناص...وأستطيع أن أحكي بكلمات بسيطة عن ذلك، أن النص يولد نصا آخر، لا علاقة له بالتسلسل المنطقي للأحداث...
أعود الآن إلى جلستي في المقهى، حاملا كأس العرق الثاني، وكانت الساعة تشير إلى السابعة مساء بعد أن تقدمت الساعة الصيفية، وضوء النهار ما زال في أفوله، والناس لم تستوعب معنى وصول الليل، وتأخروا قليلا، والجالسون الذين أردت أن يرافقهم كاسي، قرروا أن يجدوا لنفسيتهم جوا آخر، وكلما تنقلت بين الطاولات وجدتهم يدفعون مقابل ما شربوا، تاركين المقهى لانشغالات لم أسأل عنها، حتى وجدت نفسي وحيدا، على الطاولة مع كأس العرق الثاني...وقلت لنفسي:أنت تطلب الوحدة، فلماذا تبحث عن الناس الذين يشاركون وحدتك؟
 وجدت نفسي وحيدا، انفض الكل إلى مشاغله، وهذا لا يعني أنني في وحدتي هذه لا مشاغل عندي... فالذي يشغلني الآن ما لم أستطع أن أكتشفه في نفسي، وفي الذين يحيطونني من أناس، أنا الذي يدعي أنه باستطاعته أن يدخل إلى العالم النفسي لأناس من حولي...وضحكت من نفسي، وضحكت من معرفتي بالناس، ومن مقدرتي أن أصل إلى عوالمهم، أنا الكاتب المدعي أنه يعرف كل شيء.
جلست وحيدا مع كأس العرق الثانية، وتنبهت أنني لست وحيدا، اذ بالكأس الثانية توقظني أنني معها، وتقول لي: إياك والتمادي بالشرب، كأسك الثالثة ستودي بك إلى عوالم أخرى، ليست واقعية، ابق معي ولا تثلثني!
نظرت الى الشارع للحظة وكان خاليا من السيارات ومن أشباح أناس كنت أتمنى أن أشاهدهم، وعدت إلى كأسي الثانية وقلت له: آمل أن أجد ما تخيلته في لحظة وعيي للحياة!
ضحكت مني كأسي الثانية وقالت: لا تبحث عما تتخيله! ابحث عن الواقعي في حياتك!
وقلت لنفسي: خرا على كل الواقع الذي أعيشه... أريد ما أتخيله...
وفي هذه اللحظة، لحظة التخيل والتخييل الأدبي الخرائي في ذهني، وفي لحظة التمايز الذهني، بين السكر وبين الوعي الذي يسعى إلى توضيح التناقضات الإنسانية التاريخية، التي لم تجد أي حل لها حتى الآن، وحسب اعتقادي أن الإنسانية إذا وجدت من يعترف بها، ستجد حلا لهذه التناقضات.
الآن عند كتابة هذه السطور أجد نفسي في حالة عبثية، وأقول لنفسي: لمن تكتب؟ هل تكتب للنخبة التي توافقك الرأي؟ أم هل تكتب للذين يدعون أنهم يملكون الحقيقة المطلقة، وهم أيضا نخبة.. وكم عدد هؤلاء الذين يقرأون ما تكتب...
أسأل إذن لمن نكتب؟ للمثقفين الذين يشكون بأنفسهم وبثقافة الآخر؟ لمن نكتب إذن ؟
هذه هواجز وتوافه دارت في ذهني أنا الكاتب المتواضع، الذي يحاول أن يبحث عن الصدق أولا في داخله....وأنا أقول الصدق أولا، والتواضع المبدع هو أولا وثانيا، فأنا أبحث عن ذلك التواضع الثوري لدى ايلوار، الشاعر الفرنسي الذي شارك فعلا في النضال، وليس على الورق فقط، فليعذرني إذن شعراء فلسطين الكبار كلهم بدءا من.... واستمرارا ب.....! الذين يملكون كل شروط الرفاهية، والحصانة.
أنطوان شلحت! ساعدني أن أصل الى ما أريد أن أصل إليه بأسلوب التناص.. أن النص يولد النص النص الآخر دون أن يعمل حسابا للتسلسل المنطقي للأحداث أو السرد....
وها أنا أعود الى طاولتي مع كأس العرق الثانية.
فرغت علبة سجائري، وطلبت من النادلة لفافة، وولعة، أعطتني ما أريد، لأنها مقتنعة أنني سأعود ثانية الى هذه البقعة الفريدة التي تطل على الآخذين بخاطر من فقدوا...هل تعرف تلك النادلة أنني أنتظر أشباحا في هذه البقعة التي تمكنني من شرب كأس عرق في وحدتي الاختيارية؟

 

وهاهم ينزلون درجات ساحة ما بعد الأخذ بالخاطر... ثوريون يؤمنون بالثورة، يؤمنون بالعالم الوردي الآتي، هم يعرفون أنهم لن يعايشوا هذا العالم، ولكنهم يعملون من أجله، ينزلون الدرجات مبتسمين، بعد الأخذ بالخاطر، على ما يبدو أنهم تذكروا نكتة مصدرها مشهد من بيت العزاء، أو مصدرها من ميت قريب كان يؤمن بالموت، كإيمانه بالحياة كحقيقة مطلقة.... عرفتهم وعرفوني، وسألوني هل هذه هي  زاويتك؟ ابتسمت وقلت: "أنا أنتظر زوجتي التي تأخذ بالخاطر، بخاطر صديقة صدوقة..."
ابتسموا ولم يفهموا ما قلت، لأنهم أخذوا بالخاطر كواجب، واجب لن يكلفهم أكثر من ألم  لن يدوم على الأكثر نصف ساعة في أثناء أداء الواجب في بيت العزاء....وكل منهم تبعثر في أجواء مدينة الناصرة، وفي مطاعمها، وشربوا، وتحدثوا عن الفقيد الثوري، الذي أمضى حياته في العطاء لشعبه.
وذهبوا بعد كل ذلك كل لفرشته مع زوجته أو مع كأسه المنتظرة في البيت, أدوا الواجب الثوري...وزوجة الفقيد تبكي زوجها لوحدها....ماذا تبقى لها غير الذكريات، ذكريات الجمال والبؤس في حياتها؟
ها هي غزة تعيش حالة الحصار، شهداء بالعشرات، جرحى بالمئات، جوعى بالآلاف، عراة، نساء تبحث عن مأوى، أطفال يبحثون عن آباء، معاقوا حرب يبحثون عن شفاء لعاهاتهم، عالم عربي صامت، يحاصر الفلسطيني،من يأخذ بخاطرك يا غزة، وهل ينفع أن يأخذ الفاقد بخاطر نفسه؟ ويقول: عظم الله أجري...يرحم موتاي...سلامة راسي...
يا اله الشياطين...! انه مشهد عبثي أن تأخذ بخاطر نفسك...وأفكر أحيانا أن العبث سيولد من رحمه ما ينفيه...لا يمكن أن يستمر العبث، وإذا استمر سيقتل الغارق فيه...
أحاول أن أتخلص من حالة التناص هذه، وأتخلص من حالتي العبثية، وأفكر في الرفاهية الكتابية التي أنا فيها، وأقول لنفسي: عيب عليك أن تفكر بهذه الأمور وقد أفرغت كأسين من العرق، تفكر بالأموات البررة، وفي الشهداء وبيدك الكأس...قم وأعلن عن موت طيبتك، وخذ بخاطر نفسك. ابتسمت للفكرة، علت ضحكة خفيفة، وبدأت أحرك رأسي يمينا وشمالا، إلى الأعلى، إلى الأسفل، وخيل إلي أنني أبدو درويشا في حلقة ذكر، وأنا أردد الجمل بإيقاع درويشي: عظم الله أجرك...سلامة رأسك، الله يرحمها. وبلا وعي نهضت، وصوتي يعلو، مشيت في الشارع بإيقاع الدروشة، وصوتي يعلو أكثر وأكثر...سمعت أصواتا تأتيني من أشباح تمشي في الشارع: لقد جن هذا الكاتب! لقد فقد عقله...
هل فعلا فقدت عقلي وأنا آخذ بخاطر نفسي؟ وهل العبث يفقد العقل؟ العبث الذي نخلقه بأنفسنا لأنفسنا؟
توقفت فجأة على رصيف خال من الأشباح،عندما رن الهاتف لأسمع صوت زوجتي يقول لي تعال خذنا...وسألتها: هل انتهى الأخذ بالخاطر؟ وكيف كان؟
سألتني قلقة: ما بك؟
- لقد قتلتها!
- قتلت من؟
- طيبتي!
- هل جننت؟
- على ما يبدو!
- تعال وخذنا!
- علي في البدء أن آخذ بخاطر نفسي!
- رجاء كف عن الهذيان !
- سأكف إذا هم كفوا!
- من؟
- المجرمون، اللصوص، القتلة...لا أريد لطيبتي أن تكون يتيمة!
- الطيبون كثر، ابحث عنهم تجدهم!
- أين؟
- في عالم طيب تبنيه أنت لنفسك وللذين تحبهم...لا تسمح للمجرمين أن يهدموا عالمك!
- أنت ساذجة، وطيبة، وطيبتك هذه ستقتلك، سيستغلونها لكي يوقعوا بك.
- لن أسمح لهم.
- اعفيني من مهمة إيصالكن كل واحدة إلى بيتها!خذن سيارة أجرة...أريد وحدتي الآن!
- ولكن لا تتمادى في جنونك!

 

لم ترق لي ملاحظتها الأخيرة، أطفأت الهاتف بغضب، وقررت أن أتوحد في مكان هاديء يتيح لي أن آخذ بخاطر نفسي.

 

هناك رأي أن الإبداع يحتاج إلى جنون، إلى انفلات حسي وعاطفي، الى تحطيم القيود والمسلمات، وأن المبدع في فراش الموت يسمح لنفسه قول كل شيء، ويصل إلى حالة الجنون القصوى...لماذا لا يسمح لنا الذين ما زالوا في قواهم الجسدية والعقلية أن يمارسوا هذا الجنون، هل تخاف زوجتي من جنوني؟ هل أنتظر فراش الموت لأطلق العنان والرسن لخيالي وتخييلي؟ مشكلة الكاتب والمبدع ، هنا، بشكل عام، في ضيق حيز الشك،أبحث عن إمكانية التعبير عن كل شكوكي، لا أريد أن أكون مبتذلا، لا أريد أن أهادن حتى نفسي،وها أنا في خضم تكوين هذيان خاص بي، أمتنع عن ذكر أسماء، وذكر ظواهر إبداعية وصولية في مشهدنا الأدبي والثقافي، كتب علينا أن نمارس طقوس التقديس....علي الآن أن أصمت لئلا أنزلق...ها أنا أمارس الخذلان الذاتي، لكي لا أقع تحت طائلة المدافعين عن المطلق في مشهدنا الثقافي. هل علي أن أنتظر فراش الموت لكي أفصح عما يدور في داخلي؟

 

كانت الساعة تشير إلى الثامنة مساء عندما أقفلت الهاتف في وجه زوجتي. وأتخيل أنها أطلقت ضحكة خفيفة، لكي تخفي غضبها وامتعاضها، لأن أختها وصديقتها كانتا الى جانبها...وأنا بدوري أبدعت طريقة خاصة بي، تمتص غضبها. أعود الى البيت وأقول لها: أنا إنسان مقرف، أعذريني، كل الحق معك، ما كان علي أن أتصرف بهذا الشكل...ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: إلى متى ستنفع هذه الطريقة؟
فليكن...!ماذا علي أن أفعل الآن؟ أين أمارس وحدتي وأعزي نفسي بفقدان طيبتي؟ أين  آخذ بخاطري أنا؟ وفكرت: جبل الطور؟ لا ! ستنضم إلي كل آلهة الحب والجمال... ولن يكون بامكاني أن أفقد الطيبة.
جبل القفزة؟ لا! هناك وطئت أرجل المسيح عندما قفز إلي جبل الطور، وسيظهر لي ويقول: أعط وجهك الثاني للضربة.
ولا وجه عندي لأعطيه، لأن الضربات كانت على الأيسر والأيمن، اللذان احمرا من كثرة الضرب والإهانة.

 

أسأل نفسي الآن:إذا قرأ شاب فلسطيني من غزة، أو من رام الله كلماتي هذه هل سيفهمني؟

 

لم أرد أن أذهب بعيدا وقررت أن أمارس الجنون، ولن يهمني ماذا ستقوله الناس عني...قررت أن أشتري زجاجة عرق صغيرة، لأنني عددت ما تبقى لي من النقود في جيبي، وكانت 15  شاقلا، اشتريتها من بقالة قريبة، وضعتها بكيس نايلون أسود، مشيت في الشارع الرئيسي، مارا بمطعم الصداقة في بيت الصداقة، فيه يلتقي أناس أحبهم، يشربون العرق، ويأكلون بأسعار زهيدة، لأن صاحب المطعم لا يستطيع أن يستغني عن طيبتهم، وهم بدورهم مصرون أن يحتفظوا بطيبتهم.مشيت مسرعا لكي لا تلتقي نظراتي بنظرات أحدهم، ويقنعني أن أستعيد طيبتي، التي قررت أن أرميها الى الجحيم.
ما هو المكان المناسب لكي آخذ بخاطر نفسي في هذه المدينة المكتظة بأناس يعرفون بعضهم البعض، كيف لي أن أتوحد مع نفسي، ووجهي مألوف، مخرج مسرحي، أدار المركز الثقافي 26 سنة متوالية، وقرر أن يترك بيته الثاني، لأنه لم يرد أن يخرج منه على عكازتين، ولأنه أراد أن يتفرغ للحظات الكتابة هذه، فقط لمتعته الشخصية، ويحق له...ولكن لماذا قرر هذا القرار، أن يغتال طيبته، يقتلها ويأخذ بخاطر نفسه؟

 

أسئلة..أسئلة...يقولون: مرحلة طرح الأسئلة الصحيحة تدل على وعي.
وأنا أقول: خرا على هذا الوعي الذي أوصلني الى اغتيال طيبتي.
أنا أغتال طيبتي وبذلك أغتال داخلي..هذا هو الوعي الذي توصلت إليه بعد كل هذه السنين....
أعرف أن التفلسف يعيق اتخاذ القرار، وعلي أن أكون عمليا، علي أن أترك مهاترات التفلسف، وإقناع قارئي، أنني مثقف، وأستشهد بما قال هذا الفيلسوف، وذاك المفكر...مهمتي هي باكتشاف ما أستطيع أنا أن أقوله دون الاستشهاد بأي نظرية سلوكية.

 

مشيت مسرعا، وسرعتي بالمشي أتاحت لي أن أتذكر مشهدا من قبل عشرين سنة...طيبتي حينها، طيبتي الثورية لم تتح لي أن أقتني سيارة، وكان علي أن أمارس رياضة المشي مرغما.
أنهيت نشاطا في محيط بيت الصداقة، وكانت الساعة تشير إلى التاسعة مساء، والخريف تقدم دون أن أعي في تلك اللحظات ما الفرق بين الخريف وبين الشتاء، الريح كانت خفيفة، والبرد ناعم، ورذاذ مطر يسقط، يلامس الوجه، وكأن يد أفروديت تلامس وجهي، شعرت برعشة ايروطية، ولم أكن مغرما حينها بمشروب العرق...إنها أورغاسما، أشتاق إليها الآن، أورغاسما السعادة، السعادة بالطيبة في داخلك...
أسرعت لأنني أردت أن أتذكر ذلك المتوحد مع نفسه على محطة الباص، قرب بنك مركنتيل، في الشارع الرئيسي، كان جالسا لوحده، متقوقعا على نفسه، يزم شفتيه والسيجارة تتفكك، بينهما، مررت عليه، وإذ به يبصق، وكادت بصقته تلامس حذائي...
لم أرد حينها أن أنظر إلى الخلف...لأنني أردت أن أركز كل وعيي المتراكم، وكل تخييلي الأدبي بماذا كان يفكر هذا المخلوق عندما بصق على الأرض، وحيدا؟
والآن أستطيع أن أحلل ما دار في ذهنه، وماذا كان يفعل في تلك اللحظة...لقد أخذ بخاطر نفسه...! لقد قتل شيئا ما في داخله، وبصقته العفوية كانت موجهة الى طيبة مأساوية...
لحسن حظي أن الشارع كان خاليا من الأشباح، وصلت إلى المحطة، جلست، وفتحت زجاجة العرق الصغيرة، وارتشفت منها، ولم يهمني ما سيقوله الناس عني، المهم أن أمارس طقسي، وأن أمارس نشوة القساوة مع واقع أرفضه.
انتظرت، شربت، ولم يمر أي شبح إنساني لكي أبصق على الأرض، لكي تلامس بصقتي حذاءه....
جلست على مقعد المحطة، منتظرا أن أبصق.
بصقتي تخنقني...أريد أن أحررها.
أنتظر شخصا ما أبصق إلى جانب حذائه... لا أريد أن أبصق على أحد...أريد لبصقتي أن تتحرر.
من السهل علي أن أحرر بصقتي على مستوطن، أو على يهودي أهانني، وأهان شعبي، أنا مستعد أن أحرر بصقتي دون استئذان من أحد...
ولكن كيف أحرر بصقتي على نفسي أنا؟
الآن أعرف...علي أن أبصق إلى الأعلى، إلى ذلك الشك الذي في داخلي، وستعود البصقة إلى وجهي... علي أن أوجه البصقة إلى الشك.
جلست على مقعد ذلك الباصق على الأرض، وبعد رشفتين من زجاجة العرق الصغيرة، ظهرت لي أفروديت، الهة الحب، وعلى ما يبدو أنها أفرغت الشارع الرئيسي في الناصرة، من مريديه، وأغلقت كل الحوانيت، وكل كيوسكات الأكل، لتتفرغ لإنسان قرر أن يغتال الطيبة، وقالت:
- أنا أظهر لك أنت بالذات من بين كل البشر الفانين، لأنك آمنت بي، بالحب الذي أورثته لأمثالك...اغتيال الطيبة، يعني اغتيال الحب، ولن أسمح لك أن تمارس جنونك!
ضحكت، وأجهشت بالبكاء، وضحكت... نظرت إلى قامتها، وأفرغت النصف المتبقي من زجاجة العرق على جسدها، وصرخت بوجهها:
- تعري الآن أمامي، ومارسي معي طقس حب يعيد إلي طيبتي! هل تقدرين على ذلك أيتها الالهة؟ هل تذهبين إلى غزة بعد ذلك، وتقنعي من فقد أباه، ومن فقد ذراعيه، وأرجله أن يعيد الطيبة التي اغتالها؟ لقد قررت أن أوسع حيز الشك يا أفروديت، أشك فيك، وأشك بمن أتى بعدك من آلهة... هل تسمعين؟ هل تعين ما أقوله؟ أتركيني لكي آخذ بخاطر نفسي، لكي أبدأ بخلق فعل جديد، طقس جديد يعيد إلي توازني.

 

أعترف الآن بخفة هذا الخيال، خفة غير محتملة، وأقول لنفسي: لماذا تلجأ إلى الاجترار الذي تحدثت عنه، اترك آلهات الحب للمراهقين، سكبت نصف زجاجة عرق على جسد وهمي، وليس بجيبك أي فلس لتشتري زجاجة أخرى.
قررت أن أحرر البصقة في تلك اللحظة، وجهت رأسي إلى السماء، إلى فوق، جمعت في فمي من مادة البصاق ليكفي لبصقة كبيرة،وهيأت نفسي لأتلقى بصاقي،لأبصق على وجهي الطيب، لأبصق على وجهي وأغتال طيبتي، لأغتال تاريخا ابغضه، وأتتني فكرة جنونية في لحظات الجنون هذه، أن أحتفظ بمادة البصاق، وأن أستلقي على ظهري، وأبول أيضا على جسدي، أبول على نفسي، لكي أغتال ما تبقى من طهارة بي، لأن هذا العصر لا تهمه الطيبة، ولا تهمه الطهارة...

 

ماذا تفعل الآن يا أبا الأطفال الأربعة، ويا زوج أم الأطفال، الذين قتلهم صاروخ إسرائيل،لقد كانوا يتناولون فطورهم مع أمهم. ماذا كان على" مائدتهم" ؟ فنجان شاي وكسرة خبز؟ من المؤكد أنهم لم يأكلوا الكافيار، ولا الزبدة، ولا الجبنة الصفراء، التي يأكلونها في المقاطعة. أين كان الرئيس؟ في شرم الشيخ؟ هل ستحتفظ بطيبتك وبسذاجتك؟ أجبني بالله عليك!

 

كفى!علي أن أوسع حيز الشك، لأجد ما أبصق عليه، علي أن أحتفظ ببصاقي ليوم البصق الكبير...وسيأتي ذلك اليوم. يوم البصق على الشيطان، الذي حاول أن يقتل الطهارة فينا.

 

يا أبا الأطفال الأربعة ويا زوج أمهم! احتفظ بطهارتك واقتل الطيبة في داخلك! هذه معادلة تصلح لهذه الأيام. نعم! اقتل الطيبة القاتلة...وارفع رأسك! هل تعرف لماذا؟ أنا أقول لك: كان عليهم أن يحتفظوا بطيبتهم بعد أن حصلوا على ما أرادوه، بعد أن قتل منهم الملايين، لقد اغتالوا الطيبة، واختاروا الشيطان الذي قتلهم. لقد قتلوا جمالية المأساة، وأسألك الآن: ماذا عليك أن تفعل؟ أن تحتفظ بطيبتك وبسذاجتك؟ هل تريد للأجيال القادمة أن تلعنك مثلما لعنت أبي؟

 

أنزلت مادة البصاق من فمي إلى معدتي، ونهضت، وقررت أن أذهب الى البيت لكي أعتذر لزوجتي على أنني أطفأت الهاتف في وجهها.نزلت من سيارتي وأنا أردد ما في رأسين ما خططت أن أقول لها عندما أفتح باب الدار، نزلت درجات الحديقة ببطء لكي لا أنسى أي كلمة. أعرف ما هو العبث في هذا المشهد...زوجتي حساسة، وغضبت على ما يبدو لأنني أطفأت الهاتف في وجهها، كان علي أن أكون هادئا، وأشرح لها وضعيتي ونفسيتي عندما هاتفتني لكي أوصلها مع أختها وصديقتها...

 

يا اله الشياطين! ماذا نقول لذلك الأب الذي فقد زوجته وأطفاله الأربعة، وعلى ما يبدو أنه لم يستطع أن يميز وجوههم عندما ودعهم؟

 

فتحت الباب، وفي تلك اللحظة، قلت لنفسي: كان عليك أن تشتري ولو وردة واحدة لكي تصالح زوجتك!
فتحت الباب ودخلت خجلا من نفسي لأنني أطفأت الهاتف في وجه زوجتي، أخذت نفسا عميقا، جدا، لكي أبدأ بطقس التأسف، وإذ بزوجتي تهمس حزينة:
- هل سمعت أخبار اليوم؟
- أي أخبار؟
- كل الناس سمعت، إلا أنت! بماذا مشغول ذهنك؟
- بالبصاق على نفسي!
- أعرف أنني تزوجت مجنونا!
- التي تتزوج مجنونا هي مجنونة، و...
- وفاقدة العقل أيضا!ماذا حصل؟ هل شربت؟

 

- نعم! شربت كأسا مع أفروديت.
- طوال حياتك وأنت تشرب مع الزانيات أمثال أفروديت.متى تصحو لنفسك أيها الكاتب المدعي... لقد قتلوا أربعة أطفال وهم يتناولون الفطور مع أمهم.

 

لقد أبدعوا وخلقوا آلهة لكل أنواع البشر، ولم يبدعوا ويخلقوا إلها للأطفال... وها أنا أنادي كل البشرية أن يخلقوا إلها جديدا. وعلى الفلسطيني أن يبدأ أولا في خلق هذا الإله.
وها أنا أنادي بخلق هذا الإله... اله أطفال العالم.

(للبصاق على النفس تتمة)

رياض مصاروة
الجمعة 2/5/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع