* أذكر جيدًا أنهم أرادوا اعتقال القائد الراحل إميل حبيبي. وكنت قد تعلمت أن القانون يمنع اعتقال أعضاء كنيست، فصرخت في وجوههم "يا فاشست يا مجرمين ليش بتمسكوا الشيوعية"*
* حدّثنا الرفيق توفيق زيّاد عن أول أيار 58 قائلاً: "لقد وجدنا أنفسنا في سجن الجلمة حوالي 400 معتقل.. ماذا فعلنا؟ بحثنا عن كرتونة كتبنا عليها الحزب الشيوعي – فرع الجلمة" *
* دخل الشيوعيون بين الناس وأخذوا بتوضيح الصورة لهم، بأن هذه الاحتفالات ما هي إلا صك موافقة منا على كل أساليب القمع والسلب والنهب ومصادرة الأملاك والحكم العسكري *
* ما كان من رد على هراوات القمع البوليسي إلا حجارة أرض الناصرة. واستمرت الانتفاضة الأولى حتى ساعات المساء، وانتهت باعتقال أعداد كبيرة من الشيوعيين وأصدقائهم ومؤيديهم *
كنت طفلة في الثانية عشرة من عمرها تعيش في كنف والديها الشيوعييْن، الرفيقان لولو ويوسف صباغ. كان بيتنا بجانب مقر الحزب الشيوعي في الناصرة وكنت أذهب يوميا الى الحزب برفقة والدي أو وحدي. وكان كل الرفاق هناك بمثابة أهلي فكنت أجالسهم واستمع لأحاديثهم عن النكبة والحكم العسكري ونظام التصاريح وحق العودة والصهيونية والانتماء القومي والوطني والحرية والسلام وغيرها. لم أدرك يومها أن كل هذا سيسكن كل مشاعري وأحاسيسي لأصبح عندما أكبر رافضة لكل أشكال الظلم والقمع والاستغلال والاحتلال وكل أشكال العبودية والظلم وأدركت أنني لا يمكن أن أكون إلا جزءًا من هذا الشعب الذي شرد قسرا عن وطنه وأرضه وأنني قطعة من هذه ألأرض.
واليوم، أدرك أنني وكثيرين غيري من أبناء جيلي ومن هم أصغر أو أكبر مني سنًا قد تربّينا على محبة الشعوب وعلى رأسهم شعبنا العربي الفلسطيني، وتعلمنا كيفية احترام الناس واحترام معتقداتهم وأضفنا لها محبة الوطن والدفاع عنه من أجل حياة أفضل، فالتفّ الناس حول الحزب القائد منذ نكبة شعبنا وحتى يومنا هذا.
*وكأنّ شعبنا لم يهجّر!*
في نهاية شهر نيسان من عام 1958 وعندما كنت أتردّد على مقر الحزب، كنت اسمع الرفاق يتحدثون عن احتفالات "العاشور" التي ستقيمها الحكومة في الناصرة. وعندما استفسرت من والديّ أفهماني أن المقصود إقامة احتفالات بمناسبة عشر سنوات على قيام دولة إسرائيل وأنهم اختاروا الناصرة بالذات كأكبر مدينة للمواطنين العرب الفلسطينيين وتقديمهم للعالم بأنهم فرحون يغنون ويرقصون بوجود دولة إسرائيل على أرضهم وفي بلادهم وكأنّ الشعب الفلسطيني لم يهجّر ولم يرحّل إنما هاجر بمحض إرادته. فهمت أن هذا القرار بإقامة الاحتفالات أمر مرفوض على الشيوعيين والوطنيين.
قرَّرت الحكومة أن تكون الاحتفالات في الناصرة وأن يكون ألاحتفال في حارة الروم بالقرب من المسكوبية (حيث يقع مقر الشرطة من يومها وحتى يومنا هذا)، وقرّر الحزب عرقلة هذه الاحتفالات بالطرق ألتي رآها مناسبة..
ما أذكره من تلك الليلة أنهم أحضروا مغنية كان اسمها فايزة رشدي وأخرى اسمها ليلى نجار ومغنيًا اسمه موشيه الياهو وراقصة لا أذكر اسمها. كما أحضروا المفرقعات النارية والتي لم نكن نعرفها في تلك الأيام. وقبل بدء الحفل الغنائي وقد بدأت الناس بالتجمع في المكان لتشاهد حفلا ساهرًا بعد انقطاع عن العالم لحوالي العشر سنوات والعيش في ظل حكم عسكري بغيض ونظام تصاريح فيه كل محاولات الإذلال والقمع، فجاءت الناس لرؤية هذا الجديد. ودخل رفاقنا الشيوعيون بين الناس وأخذوا بتوضيح الصورة لهم، بأن هذه الاحتفالات ما هي إلا صك موافقة منا نحن العرب على كل أساليب القمع والسلب والنهب ومصادرة الأملاك والحكم العسكري وغيره لإظهارنا للعالم كأننا موافقون وفرحون بهذه السياسة. وبدأ قسم من الناس بالانسحاب وبقي من بقي.
*الشرطة تدهم مقرّ الحزب*
في هذه الأثناء، وصل الخبر إلى الشرطة بأن الشيوعيين يعرقلون الحفل، فدهمت فرقة من الشرطة مقر الحزب قريب بيتنا وركض الجميع باتجاه الحزب وكنت معهم. وأذكر جيدا أنهم أرادوا اعتقال القائد الراحل إميل حبيبي وكان يومها عضو كنيست. وكنت قد تعلمت أن القانون يمنع اعتقال أعضاء كنيست، فصرخت في وجوههم "يا فاشست يا مجرمين ليش بتمسكوا الشيوعية". ولما رأيت الرفيق إميل حبيبي نازلا برفقة شرطيين صرخت "ممنوع اعتقال عضو كنيست"، فلحق بي أحد الشرطيين ونظر إليّ نظرة اعتقد أنها ستخيفني ولم أتحرك من مكاني وربما قال في نفسه "كمان الصغار بعرفوا يحكوا ويصيحوا"، فتركني وعاد إلى عمله.
وبعد أن اعتقلت الشرطة الرفاق الموجودين في تلك اللحظة داخل مقر الحزب أخذتهم في جيبات الشرطة الى المسكوبية وعندما مرّت الجيبات من منطقة ساحة الاحتفال في طريقها إلى المسكوبية بداء الرفاق يصرخون من سيارات الشرطة "أيها الناس الشرطة تعتقل الشيوعيين وأنتم تحتفلون". وهكذا فُضّ الاحتفال لأن معظم أهل الناصرة كانوا يعرفون كل شيوعي ويحترمونه ويدعمونه عندما تقتضي الضرورة.
وفي نفس الليلة اتخذ الحزب قرارًا بالخروج بمظاهرة الى المسكوبية حيث مقر الشرطة، من نساء وأبناء المعتقلين وغيرهم من الرفاق الذين لم تتمكن الشرطة من اعتقالهم. خرجنا في مظاهرة نطالب فيها بإطلاق سراح المعتقلين وعلى ما أذكر لم يطلِقوا سراحهم.
كان قد بقي لمظاهرة الأول من أيار بضعة أيام وكان على المظاهرة أن تنطلق كما قرِّر لها. بدأ الجميع بالعمل ليل نهار: تحضير الشعارات واستكمال اللوحات الكاركاتيرية ومسار المظاهرة وكل الترتيبات كما كان مقررا لها رغم أن عددا لا بأس به من الرفاق القيادين كانوا في السجن.
*حضور غفير رغم الحواجز*
صبيحة الأول من أيار بدا الجو متوترًا وملأت الشرطة الشوارع وكان واضحًا أنهم يحاولون منع المظاهرة. وعرفنا فيما بعد أن الشرطة تقف على مداخل الناصرة لمنع الوافدين إليها من الوصول لمكان المظاهرة واعتقال من يعارضها. وبالرغم من كل الحواجز استطاع الكثيرون الوصول عن طريق الجبال ومن بين البيوت من مختلف القرى إلى ساحة الأول من أيار.
بيتنا كان بالقرب من مقر الحزب وكذلك من ساحة العين مكان التجمهر لانطلاق المظاهرة. وكان والدي قد اعتقل مع من اعتقل من الرفاق، ووالدتي كانت حامل. ومنذ ساعات الصباح امتلأت ساحة البيت بالوافدين من النساء والأطفال من كل الأرجاء والأحياء. وفي لحظة معينة شعرت والدتي أن هناك محاولة لمنع المظاهرة، وبمسؤولية حزبية شيوعية خرجت إلى الشارع وخرجتُ وراءها وإذ بسيارة شرطة تقف أمام البيت وينزل منها ضابط كان اسمه "وندرمان" مدير مركز الناصرة آنذاك. ولم يكن "وندرمان" يتقن العربية فصاح بلغة مكسّرة "أنت مش لازم بوقف خون إنت لازم بفوت بيت". فسألته والدتي بلهجة الواثق من نفسه هل أعلنتم عن منع تجول لتمنعوا الناس من الوقوف في الشارع والتجول في البلد؟ لم يعرف بم يجيب وبدأ يصرخ "كلكو بفوت ع البيت". نظرت إليه والدتي بنظرة ازدراء قوية ما زلت أذكرها في عينيها، وقالت "لن تستطيع أنت وغيرك أن تمنعني لا أنا ولا غيري من التجول". وجلست على رصيف الشارع مما شجع الآخرين على اتخاذ نفس الخطوة. وعاد الى الصراخ مرة أخرى وصرخ بكلمات لم أفهمها. في هذه الأثناء وصلت قوة إضافية من الشرطة محاولة إخافة المتواجدين من نساء وأطفال إلا أن كل المتواجدين لم ترعبهم لا هراوات البوليس ولا صرخات قائدهم. وكان واضحا أنهم يريدون اقتحام المنزل ظناً منهم أن بعض الرفاق القياديين الذين لم يتمكنوا ممن القبض عليهم يتواجدون داخل المنزل. وفي لحظة معيّنة، صدر أمر باقتحام البيت وإذ بحجر يقذف من داخل سور البيت ويكسر زجاج سيارة البوليس.
وكان من قذف الحجر يومها الرفيقة الراحلة آرنا خميس زوجة الرفيق الراحل صليبا خميس، ومباشرة اقتحم البوليس البيت على من فيه من نساء وأطفال يتساءلون ويهددون ويتوعدون من الذي رمى الحجر فلم يجبهم أحد وخرجوا دون معرفة من رمى الحجر.. ولا أذكر إذا كانت اعتقالات أم لا.
**كرٍّ وفرّ بين الهراوات والحجارة*
في هذه الأثناء كان قد بدأ صدام بين المتظاهرين والبوليس الذي كان يحاول منع المظاهرة من الانطلاق. شرعت الشرطة تهوي على المتظاهرين بالهراوات وما كان من رد على هراواتهم إلا حجارة أرض الناصرة. واستمرت الانتفاضة الأولى الذي صنعها الشيوعيون والوطنيون الصادقون بين كرٍّ وفرّ بين هراوات البوليس والحجارة حتى ساعات المساء، وانتهى اليوم باعتقال أعداد كبيرة من الشيوعيين وأصدقائهم ومؤيديهم.
في الأول من أيار عام 1994، أي قبل رحيله بشهرين، حدّثنا الرفيق توفيق زيّاد عن أول أيار 58 قائلاً: "لقد وجدنا أنفسنا في سجن الجلمة حوالي 400 معتقل.. ماذا فعلنا؟ بحثنا عن كرتونة كتبنا عليها الحزب الشيوعي – فرع الجلمة".
وأخيرًا، ألتمس عذر من يعرف ويذكر هذه المرحلة التاريخية وأطلب من الجميع الإضافة إذا فاتني ذكر بعض الأحداث نظرًا لصغر سني آنذاك.
الصورة: الشرطة تطوّق بيت عائلة صباغ في الناصرة، 1 أيّار 1958 (تصوير: الصحافي عطا الله منصور)
بقلم: نائلة صباغ زيّاد
الجمعة 2/5/2008