قصة:
"أبو كرش"



ما صدق أخونا "أبو كرش" على الله أن ينهي ذلك  المذيع  الأخبار الصباحية الأولى المعتادة لينتقل مباشرة إلى نشرة الوفيات  أيضا التي من المحتمل بل من المؤكد أن تكون تحمل له بشرى مفرحة وسارة في طياتها هذا الصباح نبأ وفاة أي واحد على الأقل من أولئك الشيوخ المسنين المقعدين يكون قد جاءته ... المنية ليرتاح من عذابه ومعاناته الشيخوخية المذلة ليريح أيضًا من يعاني معه من بعض ذويه وأقاربه وتوفي... أو يكون واحد من أولئك المرضى الميؤوس من حالته المرضية المزمنة قد توفي أيضا ليرتاح هو الآخر من عذابه ومعاناته وليريح أيضا من يعاني معه من بعض أفراد ذويه وأقاربه ... أو يكون واحد قد قتل  في حادث  سير مروع أو أي حادث آخر كذلك الحادث المأساوي الذي وقع قبل حوالي الشهر من الآن وذهب ضحيته يا حرام رجل .. وزوجته معا على "الدخانة" كما يقولون بسبب السرعة المتهورة المفرطة وليس غيرها.. أو يكون واحد قد قتل في طوشة من الطوش التي صارت تقع بين الحين والآخر على  اتفه سبب مثل تلك  الطوشة الكبيرة التي وقعت في حارة الفاخورة  قبل  أسبوع من الآن  وذهب أيضا يا حرام الشوم شاب في عمر الورود  ليس له لا ناقة ولا بعير ولا في تلك الطوشة .. ليواصل أخونا "أبو كرش" وأبو بطن وأبو" بنص" كما يطلق عليه بعض الأولاد الصغار خطته الثعلبية الحصينة النواسية التي فكر فيها ورسمها وقرر السير فيها بكل حذر ودراية لكي لا يجعل احدا يكشف نواياه.. لم يعد يهم أبو كرش وأبو بطن وأبو بنص في الحياة سوى نشرة الوفيات هذه .. ليعرف ما إذا كان عزرائيل قد فتح "بالمندل" وعرف بهدفه وأخذ بروح أي واحد من اولئك المسنين في البلدة التي يعيش فيها او يكون حتى قد أخذ بروح أي واحد آخر من اية بلده أخرى تكون قريبة من البلدة التي يقطن فيها تكون أيضا سهلة للوصول اليها بسرعة "بالرجل" كما يقولون دون أن تكلفه درهما واحد ليشارك في جنازته ومن ثم ليفرض نفسه وحضوره وكرشه الكبيرة التي لا تعرف الشبع ولا تعرف القناعة على الاطلاق.. ليفرض  نفسه وحضوره وكرشه على أهل المتوفى طيلة أيام فتح بيت العزاء والاخذ بالخاطر التي تمتد أحيانا مدة اسبوع وكأنه واحد من أهل وذوي واقارب ونسب المتوفى بل اكثر.. حيث تراه الملعون يقلب "خلقته" حالا ويقطب جبينه ويزم شلاطيفه ويتصنع الحزن والاسى على المتوفى بشكل كبير واكثر من بعض افراد أهله وذويه واقاربه وأنسبائه.. حيث تراه يجلس في الصدارة ويضع يديه على كرشه مع أهل المتوفى ويتقبل العزاء والاخذ بالخاطر مثل كل واحد من افراد أهل المتوفى.. لا لشيء الا من أجل خطة جهنمية ثعلبية حصينيه نواسيه ذكيه لا تخطر على بال سوى من يستطيع ان يكون مثل الحرباء ويغير جلده ويتقن دوره المرسوم الثعلبي الحصيني النواسي ليملأ كرشه الكبيرة بالاطعمة الدسمة التي تكون في مثل هذه الحالات الحزينة بدون شك دسمة وغنية باللحوم والدجاج "الفروج" والبهارات الشهية التي تفتح النفس والشهية ومن ثم ليملأ.. جيوبه ببعض علب السجائر الفاخرة المتنوعة التي تكون متناثرة بكثرة وفوضى أمام المعزين بدون   رقيب لتكفيه لعدة أيام.. تراه كلما تناول علبة سجائر ليأخذ سيجارة منها ويعيدها الى مكانها امام المعزين تراه يضعها في احدى جيوبه و"لا مين شاف ولا مين دري".. فهو بطايني  من الدرجة الاولى يضرب به المثل وكرشه والله العظيم مثل "قفة القش" يقدر المقدر بأنها تتسع لأكثر من كمية "صاع وثمنيه" لا يوجد مثله في البلدة التي يعيش فيها على الاطلاق.. ضع امامه طنجرة مجدره تشبع وتدنق ثلاثة رجال مثلك تراه يراهنك عليها ويقول لك لم اشبع هات غيرها.. ضع امامه صينية هريسة تحتوي على ثلاثة كيلوات بالكمال والتمام تراه.. راهنك عليها ايضا ويقحفها عن بكرة ابيها ويلحوس آخر قطرة حلو منها ويقول لك لم أشبع هات غيرها.. فهو من فصيلة الذين يأكلون ويأكلون ولا يشبعون على الاطلاق اذا اردت ان تضعه على "قبان" لتعرف وزنه يخطلط عليك رقم الوزن.. كل من يراه بمثل هذه الكرش يقدر وزنه بمئه رطل تقريبا.. مثل.. عالول البقر أربطه بشجرة سنديان عميقة بقلعها لك من شروشها.. حمله شوالين طحين يزن كل.. شوال خمسين كيلو يحملها على ظهره وكأنه يحمل شوالا واحدا فقط.. شعاره الحياة الاستغلال والمكسب أجل الاستغلال والمكسب.. ولا شيء غير الاستغلال والمكسب.. فهو حين تراه يأكل على حساب غيره.. يشعر بنشوة عارمة.. شعاره في الحياة يضرني ولا يفوتني.. الويل ثم الويل اذا غلط واحد مرة ودعاه الى وجبة طعام تراه يهجم على الأكل بشكل لا مثيل له كما لو يكون "فيلا" لا يتناول اللقمة بالملعقة كما يتناول كل واحد.. ولا يتناول اللقمة ايضا بيد واحدة كما يتناولها بعض الناس الذين يفضلون الاكل بايديهم عن المعلقة بل تراه يتناول الطعام بيديه الاثنتين.. حيث تراه يبلع اللقمة بلعا من يده اليمنى ويزردها ويتلقف اللقمه الاخرى من يده اليسرى.. وأكثر من هذا وذاك تراه اذا تبقى في بعض الأطباق بعض.. الأطعمة تراه يلملمها ويقحفها عن آخرها ويحملها معه الى منزله دون اي خوف ودون اي حياء او خجل.. لقد باتت هذه النشرة نشرة الوفيات بالذات شغله الشاغل.. باتت هاجسه الأول والاخير.. صرت تراه كلما يفرغ من جنازة وينتهي الاخذ بالخاطر من ذلك المتوفى.. صرت تراه في صباح اليوم التالي ينهض باكرا ويتسمر أمام المذياع كما لو يكون "لاطة" خشب او صنما لا يتحرك على الاطلاق لو دبيت الصوت  فوق رأسه ينتظر هذه النشرة بفارغ من الصبر وبكثير من اللهفة.. وحين تراه يسمع بنبأ وفاة أي واحد يكون يعرفه او حتى لا يعرفه على الاطلاق تراه يقفز عن مقعده ويأخذ في الرقص ويرفع يديه ويأخذ في الشكر والامتنان ليس لله بل لعزرائيل حيث تراه يقول شكرا لك عزرائيل.. شكرا لك عزرائيل ..ثم تراه.. ينهض حالا ويقطب جبينه ويرخي شلاطيفه ويتصنع الحزن والاسى ويضع يديه على كرشه الكبيرة ويحني رأسه ليدل على حزنه وتأثره البالغ على المتوفى ويسير خلف نفس الراحل بتثاقل مرير ليعطي لأهل الفقيد وجميع المعزين إنطباعا حسنا عنه ويجعل كل واحد يراه في مثل هذه الحالة الحزينة يحترمه ويقدره ويجله ويتعاطف معه.. ومن ثم ليفرض نفسه وحضوره وكرشه الكبيرة على أهل وذوي واقارب المتوفى وكأنه واحد منهم واكثر.. في نظره من يتظاهر ويتصنع ويبالغ في التصنع يجلب لنفسه الاحترام والتقدير.. فكلما فرغ اخونا أبو كرش  من جنازة متوفى واحد واقفل بيت العزاء والاخذ بالخاطر وملأ كرشه بالاطعمة الدسمة وملأ جيوبه ببعض علب السجائر الفاخرة تراه ينهض في صباح اليوم التالي باكرا ويتسمر أمام المذياع مرة أخرى ويتمتم ويتضرع ليس لله بل لعزرائيل ليستجيب له ليأخذ بروح اي واحد آخر ليعود ويملأ بطنه بالاطعمة الدسمة ويملأ جيوبه بالسجائر الفاخرة.. وحين تراه يسمع المذيع يذيع عن وفاة أي واحد آخر تراه ينهض عن مقعده ويرقص ويردد شكرا لك عزرائيل شكرا لك عزائيل.. ثم تراه يقطب جبينه ويرخى شلاطيفه ويحني رأسه ويضع يديه على كرشه ويتصنع الحزن والاسى.. ويسير خلف نعش المتوفى بكل تثاقل ويفرض نفسه وحضوره على اهل وذوي واقارب ذلك المتوفى الآخر وكأنه واحد منهم واكثر ايضا ليعود ويملأ كرشه بالاطعمة الدسمة ومن ثم ليعود ويملأ جيوبه بالسجائر الفاخرة لتكفيه لعدة ايام.. ملعون حرصه أبو كرش.. مخبأ في قشوره كما يقولون.. لا احد يصدق انه يملك مثل هذه المزايا الثعلبية الحصينية النواسية.. سبق الملعون ابو النواس في حذاقته.. وسبق ابو الحصيني في دهائه .. خطط الملعون وعرف كيف ينجح.. عرف كيف يحترف وسيلة ليملأ كرشه الكبيرة بالاطعمة الدسمة ببلاش على مدى ايام كل اسبوع.. عرف كيف يملأ جيوبه بالسجائر الفاخرة لتكفيه كل ايام الاسبوع.. كم وكم وفر عليه من النقود.. ؟ كم وكم.. ؟ منذ ان قرر السير في هذه الخطة المراوغة وفر عليه الكثير الكثير من النقود.. وفر عليه حتى الآن اكثر من الف ورقة.. اجل اكثر من الف ورقة.. زنديق ابن زنديق الملعون.. ممثل ناجح.. سبق غوار في ادواره.. وسبق ابو كلبشة ايضا في ادواره.. كل من يراه بمثل هذه الحالة لا يشك به على الاطلاق.. إنه حتى الآن في نظر الجميع إنسان صالح أجل صالح .. عمله هذا عمل خير محض لاغبار عليه.. عمله هذا عمل انساني يجب ان يشكر عليه.. كل من يراه يجلس مع اهل المتوفى بهذا الشكل يحترمه ويقدره ويجله.. كل من يراه يقف مع افراد اهل المتوفى بمثل هذا الخشوع يحترمه ويقدره ويجله.. كل من يراه ينهض ويقدم للمعزين السجائر والقهوة يكبر بنظرهم.. فرض الملعون نفسه وحضوره واحترامه بهذه المزايا على الجميع اجل على الجميع.. من مثله الآن؟.. اجل من مثله؟.. أضحى اسمه على كل لسان ولسان.. أضاف اليه لقبا جديدا اضاف اليه لقبا رفيعا وساميا.. صار البعض يطلق عليه بالحاج أبو كرش ماذا يريد أكثر من هذه الصفات النبيلة الرفيعة السامية..؟ أجل ماذا يريد..؟ أطعمه دسمة كثيرة وكل يا حاج ابو كرش وحط على عينيك ايضا.. وسجائر فاخرة كثيرة ومتعددة ودخن واستمتع يا حاج ابو كرش واكرم وقدم لغيرك وتباهى بكرمك "الطائي" وتعالى ايضا.. من كيس غيرك يا مذري ذري.. من كيس غيرك يا حاج ابو كرش إكرم وتباهى بكرمك.. إرتفع الملعون ابو كرش في اعين الكثيرين بعد ان كان مهزلة على ألسنتهم.. إرتفع في عيون اهل جميع الذين شارك في الوقوف الى جانبهم ومواساتهم في رحيل متوفيهم.. صار البعض منهم يدعونه بين الحين والآخر لتناول الاطعمة معهم.. "مزراب" أطعمه دسمة نازل عليه.. مزراب سجائر فاخرة ايضا نازل عليه.. أمن الملعون له الاطعمة الدسمة على مدار ايام الاسبوع ببلاش.. وأمن له ايضا السجائر الفاخرة على مدار ساعات كل ايام الاسبوع.. ما في بيت عزاء واحد يفرض نفسه وحضوره وكرشه عليه الا وتراه يلملم عشرات علب السجائر ويدسها في جيوبه على السكت.. لم يعد أخونا الحاج ابو كرش يحمل هما.. فهذه مهنة خفيفة ونظيفة وميسورة ومؤمنة ايضا.. دخلها متوفر ومؤمن ايضا.. ما عليه سوى ان يستمر في دوره.. ما عليه سوى ان يبالغ في تصنعه في التظاهر في الحزن والاسى على المتوفى أمام اهله وذويه واقاربه.. ما عليه سوى ان يقطب جبينه اكثر واكثر ويحني رأسه ويرخي شلاطيفه ويضع يديه على كرشه في كل بيت عزاء يفرض نفسه وحضوره فيه ليظل يعطيه إنطباعا حسنا عنه.. كل اسبوع لا بد ان يكون جنازة واكثر.. وكل اسبوع لا بد ان يفتح بيت عزاء للاخذ بالخاطر لبضعة ايام.. مسنون كثيرون.. ومرضى ميؤوس من حالاتهم المرضية المزمنة ايضا كثيرون.. وحوادث سير مروعة كثيرة ايضا.. وطوش كثيرة ايضا.. لا يكاد ينتهي اخونا ابو كرش من جنازة حتى تراه يشارك في جنازة أخرى.. كل اسبوع يتوفى واحد وتراه  يقوم بدوره على افضل وجه يفرض نفسه وحضوره وكرشه على اهل المتوفى ويعوض في الاطعمة الدسمة منذ أول يوم من فتح بيت العزاء للأخذ بالخاطر الى آخر يوم.. كل مرة يفتح بيت عزاء تراه يملأ جيوبه بالسجائر الفاخرة.. لا بد ان يكون الآن في هذه النشرة اليومية قد توفي واحد على الاقل.. لا بد ان يكون واحد من اولئك الشيوخ المسنين قد توفي في هذه الليلة.. لا بد ان يكون واحد من اولئك المرضى الميؤوس من حالته المرضية المزمنة قد توفي هذه الليلة.. لا بد ان يكون واحد قد قتل هذه الليلة في حادث سير مروع.. لا بد ايضا ان يكون واحد قد قتل في طوشة من الطوش.. لا بد ولا بد..ما اكثر الشيوخ المسنين في هذه البلدة وما اكثر المرضى الميؤوس من حالاتهم المرضية.. وما اكثر حوادث السير.. وما أكثر الطوش في هذه الأيام.. مش ممكن أن يمر أسبوع واحد دون ان يتوفى اي واحد باي شكل من الاشكال ... مش ممكن..يا ساتر يا رب أستر.. يا فتاح يا عليم.. شكرا لك يا عزرائيل الف شكر وشكر.. ها هو المذيع الآن يذيع عن حادث سير مروع قرب زاوية الشاطئ.. قرب زاوية "الموت" كما يطلقون عليها.. قتل يا حرام الشوم شاب في مقتبل العمر نتيجة طبعا للسرعة المفرطة.. يا لها من مصيبة كبيرة.. يا لها من فاجعة كبرى.. الله يساعد اهله واقاربه.. الله يساعد والديه.. الله يساعد امه ويصبرها.. ما عند والديه سواه.. اجل ما عند والديه سواه.. لا حول ولا قوة الا بالله.. هذا مصيره..هكذا هكذا مكتوب له ان يموت مثل هذه الموتة.. المكتوب على الجبين لا بد أن تراه العين كما يقولون.. تنوعت الاسباب والرحيل واحد.. إنا لله وإنا اليه راجعون.. يا لله أغرش يا ابو كرش بكفي توتوت بكفي هيلمات .. على هامان يا فرعون .. هذا ما كنت تتمناه وتصلي من أجله ... إستعد الآن يا ابو كرش إستعد .. وحضر كرشك وجيوبك.. سوف تطول فترة فتح بيت العزاء هذا اكثر من اسبوع.. ربما تطول الى اكثر من أسبوعين.. تمتع الآن بالاطعمة الدسمة وانعم واحش كرشك وإملأ جيوبك بالسجائر الفاخرة.. سوف تكون الاطعمة هذه المرة دسمة جدا وأدسم من كل مرة سابقة.. وسوف تكون علب السجائر الفاخرة.. أفخر من العلب السابقة واكثر ايضا.. وسوف وسوف.. وكتم أخونا "ابو كرش" فرحته بين ضلوعه وقطب جبينه وارخى رأسه وزم شلاطيفه ورفع يديه على كرشه وتصنع الحزن والاسى وما صدق على الله ان جلس على الطاولة قرب اكبر "جاط" كان معرّما بالاطعمة الدسمة..

(حيفا)

نجيب سوسان*
الأربعاء 30/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع