مفاجأة الأربعاء



مفاجأة غير متوقعة حصلت ظهر الأربعاء، حصلت أثناء مراجعتي لعدد من الأخبار لإعدادها للنشر في " حديث الناس"، حصلت المفاجأة حين وقعت عيني على نبأ رحيل الصديق المربي خالد علي زعبي، من مدينتي الناصرة.
قبل فترة التقيت به، قرب المركز الثقافي البلدي، لم يخطر على بالي، رغم الوهن البادي على وجهه، انه يمكن أن يغادرنا نحن أبناء الناصرة الذي اتخذها وطنا ثانيا، بعد قريته سولم، في ذلك اللقاء، تحدثنا في أمور ثقافية مختلفة، عن الانتخابات القريبة في مدينتنا المشتركة، عن ضرورة النشاطات والفعاليات الثقافية، وعن أهمية أن نشجع آخرين على حضورها والمشاركة فيها، تحدثنا عن أمور شتى، إلا عن وجع الرحيل، هل كنا نحن الاثنين، نتهرب، أم أننا كنا نواصل الحياة على اعتبار أن الرحيل الأخير، يبقى بعيدا مهما اقترب، بالضبط مثلما هي الإقامة على هذه الأرض.
المربي خالد الزعبي، ولد في قرية سولم الواقعة في مرج ابن عامر، قبل سبعة وسبعين عاما، عام 1931، وبقي وفيا لأصوله القروية حتى أيامه الأخيرة، فالابتسامة لا تفارق وجهه السمح، وهو لا يتردد في دعوتك للجلوس قريبا منه في هذه الفعالية الثقافية أو ذاك النشاط الثقافي في المركز الثقافي البلدي في بلدتك خاصة، ليتبادل معك أطراف الحديث، بصوته الشجي الحافل بمشاعر الأبوة الفياضة، العامر بالمعلومات منذ أيام عمله في التدريس، في مدرسة بلدتك الثانوية البلدية، وليستمع إليك وكأنما هو يتقن الدورين: دور المعلم ودور التلميذ، ولعلك لهذا رددت في أكثر من حديث معه، إن أفضل المعلمين هو ذاك الذي يتعلم من تلاميذه، ولا يتوقف عن التعلم.
علاقتك بالأستاذ خالد، ابتدأت منذ سنوات لا تكاد تتذكرها، لإيغالها في الزمن، زمنك، وفي المكان بلدتك، فأنت عرفته قبل أن تعرفه، وكان يكفي أن تراه رأي العين حتى تشعر بأنه واحد من أبناء بلدتك المحبين، الذين لا يترددون في العطاء للأهل والأحباء، زاد في احترامك وحبك له، انه لا يرفع صوته أثناء تحدثه إليك، لا يستعرض معارفه الثقافية ومعلوماته الغزيرة ليثبت لك انه يعرف، وإنما هو يدفعك لان تعيش معه والى جانبه عنفوان الثقافة في ذاتها وفيما تبعثه، فيمن يمتلك ناصيتها، من ثقة بالنفس، ممكنة ً إياه، دون أن يقصد، من أن يتحول هو ذاته إلى رسالة دافئة تثبت وجودها دون بذل أي مجهود.
كان الأستاذ خالد، ويعز عليك أن تقول كان، متحدثا عنه بصيغة الماضي، واحدا من الناس الذين يتميزون بصفة نادرة الوجود، هي انه لا يتظاهر ولا يتباهي، ما يميزه هو تواضع اعتقدت انه متوارث، وهو يعيش الحالة الثقافية التي توصل إليها، أولا بأول، ولحظة اثر لحظة، وربما كان هذا هو ما جعلك تكتشف فيه، في كل لقاء جديد، إنسانا جديدا غير ذاك الذي سبق وعرفته، حتى اللحظة، إنسانا يضيف إليك بتواضعه وعدم ادعائه، جديدا مميزا، هو ابن لحظته وحفيد حقبة حافلة بالأحداث، لا ينضب لها معين.
هذه المعايشة الحية للثقافة والمزج بينها على اعتبار أنها واحدة من الأبعاد الحياتية اليومية، كانت تشدك إليه أكثر، وكنت ما أن تراه قادما لحضور هذا النشاط الثقافي أو  ذاك، حتى تتوجه إليه مبتسما مرحبا، فأنت تحب أن تراه، وتـُسرُّ بالجلوس إليه، لتعيش الحالة الثقافية التي تريدها، وللتبادل معه الحديث في هموم ثقافية تهمك وتهمه على حد سواء.
أنت لا تتذكر انك التقيت به، إلا ودار بينكما حديث، يصلح لان يكون موضوعا تطرحه في هذه المقالة أو تلك القصة، ليقراه آخرون، وليتناقشوا فيه، أضف إلى هذا انه يتحدث عن السياسة في الندوات السياسية، وهو يتحدث عن الفن بعد هذا العرض السينمائي أو تلك المسرحية، أما الثقافة والإبداع الأدبي، فقد امتدا على المساحة الأكثر اتساعا من مساحات اهتمامه، وها هو يخبرك في احد اللقاءات الأخيرة، عن متابعته لكل ما ينشر في صحافتنا المحلية، ويؤكد لك انه يتابعك في كل ما تكتبه وتنشره، صحيح أنني تقاعدت، بعد العشرات من السنين، من ممارسة مهنة التعليم، إلا أن الإنسان لا يتقاعد عن الحياة، وعن الاستزادة من العلم، اللهم زدني علما.
لم يكن الأستاذ خالد بالنسبة لك، ولسواك من أبناء جيلك، إنسانا عابرا، إنما كان واحدا من معالم مدينتك الباقية، فأنت تعرف انه عمل جل عمره في سلك التعليم منذ عام 1961 حتى خروجه إلى التقاعد عام 1995، وانت تعرف انه واحد من مؤسسي كتلة الجبهة في نقابة المعلمين، عام 1975، كما انك تعرف انه مؤلف العديد من الكتب التدريسية في موضوع الجغرافية، وله كتاب في علم الاقتصاد، مقرر لدراسة البجروت، أنت تعرف هذا كله، يزيد في معرفتك له انك خبرته عن قرب، فعرفت فيه إنسانا ذا خلق عظيم، يمزج بين المعرفة والتواضع، وهي لعمرك واحدة من الصفات التي ميزت العلماء من أبناء جلدتك قديما وحديثا.
الأستاذ خالد كان واحدا من جيل أعطى الكثير ولم يأخذ سوى القليل، بل أعطى ولم يفكر كثيرا في الأخذ، لذاك وهذا، جاءت مفاجأة رحيله، يوم الأربعاء الماضي، الثالث والعشرين من نيسان الجاري، شديدة الوقع، حتى انك فزعت منها بآمالك إلى الكذب. 


 

بقلم: ناجي ظاهر
الأثنين 28/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع