(بعض من التجربة) الشعر، الفلسفة والفن التشكيلي



أشرت في مقالة سابقة عن الفن إلى العلاقة التي تجمع بين الفنون الإنسانية المختلفة، كالفن التشكيلي، المسرح، الشعر، الموسيقى وغيرها.
وسبق أن أشار إلى هذه الحقيقة كثيرون من قبل، ممن اهتموا بهذه العلاقة.
وقد خلصتُ في تلك المقالة إلى كونها (هذه الفنون) تجليات متنوّعة للعقل الإنساني المتخيِّل.
والفنون التشكيلية في آخر كل مطاف هي وليد هذا العقل المُتخيِّل.
وهذا العقل، حين نتأمَّلُه جيِّدا، يكون في تجلِّياته المختلفة والمتعدِّدة أحد اثنيْن:
فإمّا أن يكونَ وليدُهُ المُتخيَّل فاِئقَ الجمال، باعثا على الدهشة، حتى العبادة،
أو أن يكونَ شديدَ القوة وخارِقَ البأس، مُخيفا في بأسه، كالغيبيات الماوراء أرضية.
والعنصر الجمالي بتجلياته المختلفة هو غالبا ما نشهده في الفن التشكيلي والشعر وغيره من الفنون.
ولا شكّ في أن علاقتي الحميمة والطويلة مع كوكبة من الفنانين التشكيليين أثرت في شعري وأغنت قدرتي على التخيّل والتأمل المُفكِّر.
وتعود بدايات هذه المعرفة إلى ما قبل أربعين عاما.
يومها التقيت وعايشت فترة طويلة الفنان التشكيلي، عبد عابدي. عرفته منذ نهاية الخمسينيات وقبل سفرنا إلى الدراسة الجامعية في ألمانيا الشرقية، حيث درس الفنون الجميلة في درسدن ودرست الإقتصاد في برلين.
ولا شكَّ في أن عبد عابدي يحظى بصفة الريادة بين فنانينا التشكيليين العرب في إسرائيل.

***

وقد لاحظت من يومها ميلا قويا لديَّ إلى الرياضيات والآداب والفلسفة.
وهو ما حفزني على التنويع في تثقيفي الذاتي وقراءاتي.

***

تعزَّزت علاقتي بالفنانين التشكيليين حين صادقتُ لاحقا عددا منهم:
عبد عابدي، جمال حسن، أحمد كنعان، رانية عقل، كمال ملحم، سلمان ملاّ وحاتم عويضة.
نشأت بيننا صداقات إنسانية، داخل رابطة "إبداع" للفنانين التشكيليين العرب في إسرائيل وخارج الرابطة.
وللحقيقة المفرحة كانت "إبداع" ولا تزال، رغم ضيق نظر وأفق بعض المسؤولين فيها، أشبه بالدفيئة لرعاية، وتشجيع وتنمية المواهب الفنية والقدرات الناضجة بين الفنانين العرب في البلاد.
وقد أكرمني الأصدقاء الفنانون التشكيليون حين عرضوا عليَّ أن أشاركهم في تأسيس الرابطة، فكنت أحد المبادرين معهم لتأسيسها وتنشيطها.
وأسهمتْ هذه العلاقة في بلورة ونموِّ قناعة مُتزايدة، قناعة فيَّ، قناعة وجوب التفاعل بين الشاعر والحركة الفنية التشكيلية، خاصة المحيطة به. وقد قويت هذه القناعة بعد قراءاتي الطويلة لمجلة "الفنون" الكويتية التي غالبا ما كانت صفحتها الأخيرة (صفحة الغلاف) تتضمن قصيدة ولوحة.
فكتبتُ، لاحقا، عددا من القصائد، ضمَّنتها مجموعتي الشعرية الرابعة (في"قصائد من برلين"- "مروان الدمشقي" و"الرسام تسلي").
ومُتأثرا باللوحات والمنحوتات الجميلة لعدد من الفنانين التشكيليين الزملاء كتبت عددا آخر من القصائد، أطلقت عليها اسم الشعر التشكيلي وضمنتها مجموعتي الخامسة (آمل أن ترى النور قريبا). وحاولت من خلالها أن أقدم إسهامي وتفاعلي مع اللوحات تلك.كأنَّني أحاول إضافة عالمي ورؤيتي لِلَّوْحة، إضافة شعرية، أرسمها حقا بالكلمات مستفيدا من فكرة اللوحة أو المنحوتة، لكن أحاول إعادة إنتاجها شعرا، فيكون لي فيها قسط، يبهجني إن وُفقت، وتصبح جزءا من نفسيَّتي الشاعرية الحالمة.   

***

اتفق مع كثيرين يعتقدون ويرون أن الشعر نشأ قبل الفلسفة بأزمان كثيرة. لكني لا أعتقد بتاتا ولا أقبل القول الساذج إن الشعر هو وليد القلب، فالقلب على أهميته البيولوجية والصحية، إلاّ أنه ليس أكثر من عضلة لها مهامها الحياتية والحيوية ولا علاقة له بنشأة أحاسيس الإنسان أو تفاعلاته مع ما حوله. فتلك نتاج ووليد العقل البشري، الذي ينمو ويتفتح بالعمل الإنساني وبالتجربة وتراكم المعرفة، يحسُّ ويتفاعل مع الموجودات، الأحداث والظواهر المحيطة به.
أحاسيس الإنسان، وجدانه وانفعالاته هي من نتاج العقل والبيئة الإنسانية المحيطة، القريبة والبعيدة. فهي من عمل الدماغ ونتاجاته.
وهذه كلها والعاطفة المشحونة بتلك الأحاسيس هي مفجِّر الشعر، ملهمه ومادته في آن.
فالعقل هو مبدع الشعر وليس مدركه.
فحين نقول، أي يقول البعض:
العقل يدركه، أي يدرك الشعر،
نعني في الواقع أنه شيء مستقل ويقيم خارج العقل، فهو يعيه، يعرفه، أو مجازا، يشعر به. وكأنه شيء مستقل.
وهو ما كانوا قديما يتصورونه ويعتقدون أن للشعر شيطانا أو ربة، يلهم وتلهم الشاعر، وكأن الشعر هو وحي خارجي، خارج البيئة والعقل الإنساني.

***

نشأ الشعر في زمن تميَّز بالبراءة والسذاجة المُفرِطَة، بما يُمْكِنُ أن نصفه بزمن عذرية الإنسان وطفولته وزمن الأسئلة البدئية عن الوجود:
كيف وُجِدَ هذا الوجود؟ الذي يبدو للكثيرين منا أشبه باللغز! ومن خلقه إن خُلِقَ؟ وما سيأتي بعده؟ (أي ماذا بعد الحياة على الأرض! وهل ثمَّةَ من حياة أخرى؟)وماذا عن الموجودات المختلفة في العالم المحيط بنا وما تكون؟
وفي مرحلة متأخرة كثيرا تحدّدَت أولى الأسئلة الأنسانية، أسئلة الوجود وتأملات الإنسان لما يحيط به، أسئلة عن الموت والولادة (الحياة ما منشأها، سرُّها ومآلها وما هو أصل الإنسان؟) وعن التقلبات الطبيعية، تداول الفصول، الخصب والجفاف وغير ذلك.
وهذه الأسئلة ومحاولات الإجابة عليها كانت بدايات الفلسفة، إرهاصاتها الأولى.
فالأسئلة الفلسفية البدئية جاءت ردا ورغبة إنسانية في الكشف عن تفسير منطقي، يرتضيه العقل المُدْرِك، لعالمنا وحياتنا ومحاولة تجاوز الغيبيات البدئية السائدة، خاصة السحر والخوارق وتقديم أجوبة عن واقعنا الحياتي، أجوبة من واقعنا الأرضي.
لكن تلك الغيبيات البدئية المستمرة ليومنا، بأشكال متعدِّدَة، وجدت في مصالح شرائح مجتمعية وفي وعي الناس (الأكثرية) المتدني سندا لها ومنطلقا لتوسعها، "فانتصرت" ظاهريا في صراعها مع الفلسفة الحقة.
فمصالح هذه الشرائح الاجتماعية على اختلاف أسمائها وماهياتها الاجتماعية والعرقية والزمن التاريخي الذي عاشت وعملت فيه هي التي كرَّسَتْ واقع الفهم الغيبي للأشياء المختلفة والوعي الإجتماعي المترتب عنها. وهو وعي غيبي كذلك.
والتجربة التاريخية دلَّتْ على أن مصالح تلك الشرائح المجتمعية المهيمنة أسهمت في الترويج للغيبيات على حساب المعرفة العلمية وبالتالي على حساب الحقيقة المكتسبة إنسانيا بالتجربة، والمعرفة وبالعمل الذهني والمادي. واستفادت هذه الشرائح في صراعها للهيمنة على وعي الناس، استفادت كثيرا من التحالف الذي نشأ منذ القديم بين كهنة المعبد والقصر، من جهة، وقادة العسكر (حماة المعبد والقصر) من جهة أخرى.
ووظفت هذه الشرائح أكثرية المثقفين ومبدعي الفنون المختلفة وكتبة القصر، المعبد والمؤسسة العسكرية، لصالح الغيبيات، وبالتالي لصالح القصر والشرائح المهيمنة.
فهذه الفئات (التي يفترض أن تكون مُتنوِّرة) كانت في غالبيتها مناصرة للقصر وللأفكار الغيبية المتمترسة في المعبد.
ونتيجة لكل ذلك يمكن القول:
"هُزِمَ" العقل و"هزمت" كذلك محاولات فهم عالمنا من خلال إعادته إلى عناصره الأولى (محاولات الفلاسفة الطبيعيين في اليونان القديمة مثل هيراقليط، ديموقريط، أبيقور وفيثاغورس). وانتصرت الغيبيات في بلاد سومر ومصر واليونان ذاتها وغيرهم، أو لنقل مجازا:
انتصر أفلاطون وهُزِمَ هيراقليط
وسرعان ما باتت هذه الغيبيات منطلقا لفكر فلسفي لاحق و"متنفسا" وهميا لسخط الفقراء والمغبونين.
وهو ما نلحظه اليوم.
إتسعت حقول المعرفة وتراكمت الخبرات الإنسانية، لكن إنساننا الحالي، بضغط من تلك الشرائح ذات المنافع المادية، ما زال محاصر العقل والمعرفة الحقيقية ومُتأثرا بتلك الغيبيات المتوارثة والمنقولة شفاها، لا المدروسة، من آلاف السنين.
وما زال هذا الإنسان، أحادي النظر وضيقه على الغالب، يستبدل فكرا غيبيا بآخرَ أشدَّ غيبية.

***

الشعر في حقيقته هو الوليد الحسي غير الواعي للعقل، وليد حالة اللاوعي منذ البدء ولا يزال.
أما الفلسفة فيفترض أن تكون وليد العقل ونتاجه، نتاج تجربته الحياتية الواعية وتراكم معارف، قد يكتسبها الإنسان بالعمل والعلم، بالتجربة الحياتية وبالتأمل.
الشعراء ليسوا فلاسفة في آخر كل مطاف، ينقصهم منهج التقصي وطرح الأسئلة الناشئة أو تلك التي في طور النشوء. وينقصهم المعرفة والعلم بالأشياء اللازمة لتكوين منهج وبالتالي فكر فلسفي. لكن تغلب على بعضهم نزعات فلسفية، أو لنقل شطحات فلسفية يمليها واقع التأمل المفكر والفاحص للإثنين.
وحين أؤكد ذلك، فليس بهدف الإنتقاص مما للشعراء من منزلة في الخلق الإبداعي، لكن لتوضيح التمايز والفرق بين الشاعر والفيلسوف.
وعليه أتفق مع من يقول إن الفلسفة تعتمد في تأملها على المنطق.
وغاية التقصي العلمي والمعرفي عندها نشد ان الحقيقة، فلا شيء يسمو على الحقيقة، كذلك الإسهام في تنمية وعي إنساني وقيم إنسانية نافعة، وتقديم أجوبة وتفاسير لما هو قائم، لما هو حاصِلٌ جارٍ أو مُستجدٌ في هذه الحياة.
أمّا الشعر فيعتمد في تشكله على التشابيه والإستعارة، وغايته التعبير عن الذات الإنسانية، وجدانها، مشاعرها، فرحها وحزنها، وتفاعلها مع عالمها المحيط بها، التعبير الحر والصادق عن جماليات كوننا وبعض قبح جوانب ومظاهر حياتية، نعيشها طوعا أو قصرا، ونشدان الأجمل في هذه الحياة.
وإن كنت أميل إلى القول إنه لا يجوز تحديد موضوعات الشعر، فالحياة معقدة بتجلياتها وتفاعلاتها المختلفة. وهذه التجليات والتفاعلات بلا حدود، منوَّعة ومتجدِّدة دائما "كما هي الحياة". وطالما كانت حياة إنسانية هنا على هذه الأرض، سيظل هناك شعراء يتحدثون ويغنون لها، معبرين (بطريقتهم) عن وجدانهم (الذي هو وجدان ذاتي خاص بكل فرد وإن يكن أحيانا جمعيّا)، وعن مشاعرهم وانفعالاتهم، أحلامهم وهمومهم.

***

ومن هنا أود أن أخلص إلى ما علمتنيه التجربة:
أن الشعر، وإن يجمعه الكثير مع الفلسفة، إلاّ أنه أقرب الى الفنون التشكيلية المختلفة.
فالقصيدة هي لوحة ولكن بالكلمات.
والنحات يتكلم في الواقع مع الصخر والمعدن والخشب وغيره من مواد النحت ويعيد تشكيل هذا المُنتَجِ ليصبح ناطقا للرائي ومعبرا عن تفاعلات ذلك النحات الحسية الواعية واللاواعية.
ويمكن القول ذاته عن الرسام والمصور الفنان.
 ما أرمي إليه في عدد من قصائدي التي أشرت إليها سابقا هو أن أتفاعل شعرا مع لوحة معينة "استفزتني" وأعيد انتاجها مضمونا وبعدا مُتَخَيَّلا، لأصبح، إن صحَّ هذا القول، "شريكا" لصديقي الفنان التشكيلي في القصيدة واللوحة، أو المنحوتة.
ما أريد أن أخلص إليه هو أنَّ الشاعر وكذلك الفنان التشكيلي يجمل بهما أن يطورا علاقة صداقة إنسانية متعالية عن كل ما يمكن أن يعكر صفو وجماليات هذه العلاقة والتحليق معا والتفاعل المنتِج، ففي ذلك منفعة وخير عميم لحركتينا الفنيتين: الشعر والفن التشكيلي.

ابراهيم مالك
السبت 26/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع