قصة قصيرة
أمنية



إفتقدتها...
وافتقدت ذلك البريق الذي كان يلمع في عينيها اللتين كانتا تلامسان أطياف الأفق البعيد...
افتقدت كيانها وتحسست فراغها وصمتها اللانهائي الإيقاع في غرفة الصّف. فجأة تّمر الصور في خيالاتي، تومض في فكري، تعصف في ذهني لتهطل كلماتي على السطور بحرارة وغزارة...
 لا سبيل للنكران أنها كانت طالبة لامعة في الدراسة.  وكنت أرى طفولتي في شخصيتها التي تتوأمت مع شخصيتي،مما حفّز قدراتي المهنية الجديدة بان أطالع صورها في مخيلتي. كانت تحسسني تعطشها للعلم الأمر الذي آل إلى كياني المهني بان يسمو بالعطاء...
من خلال تواجدي في المدرسة لمست أنها تملك عقلا وأفكارا متّقدة، بالإضافة إلى تفوقها بالملامح الأنثوية البارزة الصارخة التي تستوقف العيون عند محطات كيانها..
تتتبعت آثار صمتها الذي فتّت أفكاري، وحاولت أن استرق أخبارها، ونظرات عينيها تجرني إلى بحرٍ من الغموض لأعرف سبب اختفائها..
وما أن انجلى الأمر إذ بالحقيقة تختزل المسافات بين التساؤلات والاعتقادات. وقع الخبر على مسامعي وقع الألم على صدور الأوراق.. لم أتمالك نفسي وتبعثرت لأشلاءٍ تتطاير، وحاولت أن الملم جراحاتي النازفة لكن شيئا من العبث حال بيني وبين كياني..
غادرت أمنية المدرسة بعد خمسة عشر عاما ونصف العامقضتها بين براءة الطفولة تستنشق عبير الحرية والعفوية. بين زملائها وأقلامها وحقيبتها ودفاترها وفرشاة ألوانها ومعلميها وامتحاناتها ورحلتها المدرسية وأحلام مراهقتها وأمانيها وتطلعاتها المستقبلية. غابت بعدما جاءتني يوما تهمس في أذني أنها نجحت في امتحان قبولها للمدرسة الأرثوذكسية في حيفا، ولربما ستأخذ العلامة الأعلى. كم فرحت لفرحها وأحسست بأني أنا التي قُبِلتُ للتعلم.
لكن مدة الغياب طالت...
ترددت في الاتصال للسؤال عنها، لربما هي مريضة؟ لربما هي مسافرة؟ لربما هي...
وحينما كنت في غرفة المعلمين إذ بإحدى زميلاتها تستدعيني لحديثٍ بيني وبينها، حملت نفسي ومشيت متوجهة إليها باضطراب، استمعت إليها بكل جوارحي وإذ هي تفاجئني لمرافقتها إلى بيت أمنية علّها تعدل عن قرارها... أي قرارٍ ذلك الذي تحدثت عنه الزميلات؟
 وانطلقت الفتاة ورجعت أنا إلى مكاني أتمتم ببقايا كلمات هذه الطالبة "أرجوك يا معلمتي، أن نذهب إلى بيتها...".
لا اعرف لماذا أنا بالذات؟ لماذا لم يطلب من معلمة أخرى أن تقوم بهذه المهمة؟ فعلمت أن المدير أوكل إلي المهّمة لأني مقربة من طلاب وطالبات الصف واقضي معهم ست ساعات أسبوعية.
كيف سأستمر في كياني كمعلمة ومربية أجيال ما لم أحرك ساكنا؟ كيف سأثبت وجودي وشخصيتي ما لم افعل شيئا يستحق التقدير؟ ببساطة علي أن احترم طلب المدير لأني جديدة في المدرسة.
فكّرت مليا، وقرّرت أخيرا أن افعل شيئا ما يحرك الصامتين.. لأن الجميع أبدوا تنكرهم، بادعائهم بأن هذه مسائل شخصية ولا يمكن التدخل بها.. بدأت أتحين ساعة اللقاء وأتخيل تفاصيله بدقة.. وذهبنا.
فُتِحَ الباب إذ بأمنية تنهال على جسدي لتعانقني بحرارة، ودمعات من براءتها تنهال على وجهي، حرقت مشاعري وهزت وجودي.. لم افهم سبب دموعها. أدموع فرحتها بلقاء معلمتها أم دموع حزن؟ أم..
دَخلتُ، وتحدثت مع أمها بان تغيبها عن المدرسة أمرٌ في الغرابة ليس في صالحها لأنها طالبة متميزة في الدراسة.
 وفهمت بكلمات واضحة وغير مترددة أنها ستتزوج ...لتجرَ في ثوب الزفاف براءة الطفولة وملامحها التي لم تنضج بعد... وسيتحول الثوب الأبيض من ثوبِ زفاف مليء بالرغبة إلى كفنٍ لأحلامها وأمانيها فوق جسدها البريء..
أعربت عن استيائي، فهاجمتني أمها وقالت لي: "أولا هذه ابنتي وأنا المسؤولة عنها بعد وفاة والدها. وثانيا العريس المتقدم ميسور الحال ويستطيع أن يعوضها عن المدرسة. أصلا المدرسة لا تفيد ابنتي في شيء. تستطيع أن تتعلم وتقرأ بمفردها..".
وفهمت أن هذا العريس هو فارس أحلام أمها وليس فارس أمنية الذي حدثتني عنه يوما في الرحلة المدرسية في الفصل الأول.
في الحقيقة، وقعَ هذا الخبر على مسامعي ومّزق نسيج أفكاري الذي ظننته يوما متكاملا، والأنكى أن أحدا في المدرسة لم يفتعل شيئا ليحرك شيئا.. تساءلت في نفسي آلاف التساؤلات..
كيف لطفلة في عمر الزهور نيسانية التبرعم أن تغادر المدرسة لتتزوج؟  كيف تَصِفُ هذا التصرف مع هذه الفتاة؟ ماذا تعتقد سيحل بها؟
تصرف، بحق طفلة لم تكمل عامها السادس عشر بعد.. هل هذا الزواج وسيلة أم هدف سعت إليه أمنية؟..
قطّعت أمها كل المساعدة ومزقت كلماتي حروفا تتناثر في الهواء ورمتها في وجهي دون أن تذعن إلى اعترافٍ أن هذا القرار سيكون قتلا لأماني الأمنية.. غادَرتُ أمنية تستنجد بي وبأحاسيسي وتركتها وأنا أفكر... لأن زيارتي لم تفعل شيئا بل على العكس زادت إصرار والدتها على تنفيذ قرارها...
رجعت إلى بيتي متأسفة وفي قلبي دمعات تترقرق بحزن.. وطول الطريق أفكر ماذا سأقول لطلابي غدا بعدما عرفوا أني ذهبت إلى بيت أمنية؟ هزئت من نفسي وكرهت أن أكون في هذا الصف، بعدما رحلت أنا بكيان أمنية..
ياآااااااه!  
كم تمنيت أن تبقى أمنية في غرفة الصف، لتختزل كل التوتر والانفعال الذي في قلبي..
كم تمنيت أن ترجع أمنية إلى أحضان المدرسة لأعانقها بعيوني فتشحن طاقاتي بالعمل والإبداع..
كم تمنيت أن أكون مكان أمنية لأضرب عرض الحائط برفضي واستنكاري..
كم تمنيت أن أكون أمنية.. لأحقق أماني زماني ومكاني وعمري وأحلامي..
يا الله!!
أمنية تلك الطالبة اللطيفة، المواظبة، الهادئة، ستنتقل إلى مقبرة الأماني لتزرع نفسها وتدا يحج إليه البائسون الصامتون العابثون في حياتها..
 لم استطع الذهاب إلى المدرسة فتغيبت عن الدراسة لمدة يومين، قضيتهما في بيتي، في مساراتٍ جنائزية..
وعندما عدتُ، أسرعت زميلاتها بقولهن.. "معلمتي.. أمنية زُفَّت ليلة أمس.."
تجاهلت تلك الأسهم الممرغة بالسم، علما أنها لم تضفِ على قتلي قتلا سوى أنني انغمست في تيهي..
وعندما نظرت إلى مقعد أمنية في وسط الصف تخّيلته قبرا وحشيا كتب عليه:
أمنية... 
رحم الله أمنية..
رحم الله أمنية التي أنارت بتواجدها سراديب العتمة..
رحم الله أمنية.. التي كانت يوما غذاء لامانيّ، لتصبح وبكل برودة صنما جاثما لعبودية الجهل....


(باقة الغربية)

* حازت هذه القصة على جائزة القصة القصيرة في قسم تأهيل المعلمين الجدد في وزارة التربية والتعليم

عناق مواسي
السبت 26/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع