النصّ المُناور يتطلَّبُ قارئا مُناورًا



- "معجمُ بكِ" للشاعر حلمي الريشة نموذجا-

 

على عتبة عُنوان ٍ جماليّ مُربِك كهذا تضطر أن تتمهل كي تخلع عنك نظرياتك النقدية المُسبقة, مخزونك الأدبيّ , وتتأهب لعبور الضفة الآمنة لهذا البحر الشعريّ إلى العُمق، حيثُ اللآلئ اللغوية، الصور الشعرية المبتكرة والأمواج الشعريّة المتمايزة.

يعتقلك عُنوان الكتاب فتتورط به. تدركُ أنَّ هذا الأفق الشعريّ لن يمتدّ كالسهل أمام خطواتك، بل يتوجب عليك أن تجتهد، تطرح التساؤلات، تبحث، ترتقي سُلَّمَ الأفكار والصور، كي تقطف الدهشة الشعريّة.
هكذا، يفرضُ الشاعر شرطه الأول لاقتحام عالمه الشعريّ إلا وهو ضرورة أن تكون قارئا يقظا، يناور النص صعودا إلى الذروة، فإذا بك تدخل متاهة العنوان لتبدأ بالتمحيص كي تسلمك مفاتيح القراءة اليقظة، ولأن ّ الشاعر قد أطّر هذه التجربة الشعرية بعنوان: " معجمٌ بك"، تتساءل ما دلالة هذا العنوان..؟!
تحملُ كلمة "معجم" معناها المعجمي المتداول غير أنّها ترتبط بعلاقة غير متداولة مع الكلمة المجاورة لها: "بكِ"، ممّا يباغت الذاكرة بالتعبير المخزون:" معجبٌ بكِ"، مُوَلِّدًا " الصّدمة الجمالية" الأولى التي ستشحن القارئ اليقظ بالطاقة الضرورية للخطوة التالية إلى العُمق, وممّا يضفي مسحة جمالية على العنوان كون الشاعر قد
وضع الحرف الأول(م) من اسمه مكان الباء في معجب ، فبدا كأنّه يعترف على الملأ أنّه هو الشاعر( م..) معجبٌ بها ، والشاعر يُوقّع رسائله بالحرف الأول من اسمه
كعادة بعض الأدباء.

ترتبّ أوراقك، فتجد أنّ الشاعر قد شهر في وجهك بطاقة العبور الأولى فقد أدركتَ انّه يمتلك معجمٌ لغويّ متفرد، في محاولة يقظة للخروج عن المكرور المتداول، وهذا المعجم الذي يمثل مشروعه الشعريّ الجديد ، المطروح في هذا الكتاب، يرتبط بالذات الأنثوية ثلاثية الأقانيم: الأنثى ، القصيدة والذات الأنثوية الرقيقة القابعة في صدر الشاعر.
وإذ تخطو الخطوة التالية تتورط ثانية بفصول الكتاب فتقرأها بمسار أفقيّ:
" ما قبل، ما بعد، جويس"، فتهرع إلى المخزون المعرفيّ لتتعرف على "جويس منصور" التي كرّس الفصل الثالث لها ، بل وضمّن النص بمقاطع من مجموعتها
"صرخات". تكتشف أنّها شاعرة وُلدت في بريطانيا من عائلة مصرية سنة 1928، وانضمت إلى الحركة السريالية وبقيت وفيّة للمشروع السريالي كتابة وسلوكا حتى وافاها الأجل في باريس في 28 أغسطس 1986.
هذه المعلومات تطرح جانبا إمكانية أن تكون جويس هي إحدى إقانيم الذات الأنثوية المرتبطة بهذا المعجم الشعريّ فالفارق العمري بين كونها من مواليد 1928 وكون الشاعر من مواليد 1958 يطرح جانبا إمكانية كونها الحبيبة، ويضيء أمامك احتمال استعمالها كرمز للحركة السريالية ، فتعيدُ قراءة فصول الكتاب على هذا النحو" ما بعد، ما قبل ، الحركة السريالية " وتتملكك الدهشة . تعودُ لتربط ما بين العنوان وفصول الكتاب فتجد أنه يتماشي مع ما توصلت إليه من إدراك . فالحركة السريالية تعتمد على الأشياء الواقعية فتستخدمها كرموز للتعبير عن الحلم والارتقاء بالأشكال الطبيعية إلى ما فوق الواقع المرئي.
وصفَ النقاد اللوحات السريالية بأنها تلقائية، فنية ونفسية تعتمد على التعبير بالألوان عن الأفكار اللاشعورية والإيمان بالقدرة الهائلة للأحلام. وتخلصت السريالية من مبادىء الرسم التقليدية في التركيبات الغريبة لأجسام غير مرتبطة ببعضها البعض .
هنا تتساءل: أهي إشارة من الشاعر أنّ نصوصه غير تقليدية وأنك ستصادف تركيبات لغوية غريبة بدأ ً ب: ( معجمٌ بكِ) وأنّ عليكَ أن تجتهد لتفكك مدلولاتها؟
لقد تخلص الشاعر من الارتباطات المتداولة بين الكلمات ففجرّ طاقاتها وأتى بتركيبات ٍ مبتكرة، غريبة ، غير تقليدية ، تماما كما السرياليّ لكنه مضى ما قبلَ وما بعد السريالية التي تهتم بالمضمون لا بالشكل فتبدو لوحاتها غامضة معقدة ، فاهتم بالمضمون كما بالشكل ، وأتت نصوصه طازجة شهيّة ، تحتاج إلى قارئ مُتذوّق ٍ يقظ كي يسبر جمالياتها.


تعدّت القصائد مرحلة الإعجاب إلى الهوس إلى الحلول روحين في جسد واحد:
وهل أجمل من نصّ يوشوش في المقطع الخامس من قصيدة " نشيش"- (ص30 ):


بِصَلِيبِكِ وَدُعَائِي ؛
أَقْلَعَتْ عَنْقَاءُ الشَّوْقِ بِرَفِيفِ أَجْنِحَتِنَا /
نَحْوَ مَحْمِيَّةِ
الوَجْد!

أليس النشيش هو صوت الماء اذا غلى؟!
ألا تسمعُ صوت الحبّ وهو يغلي على نار الشوق إذ اتحدت المعشوقة المسيحية
(صليبك) مع العاشق المسلم (ودعائي) ،فأدّى هذا الاتحاد داخل القصيدة وخارجها إلى انتفاض عنقاء( الشوق) من رمادها ، فكأنّ الشوق انتفض من مواته ليحمل الحبيبين الطائرين (رفيف أجنحتنا) لينقلهما إلى محمية الوجد ، هذا المكان الذي يكفل البقاء للأجناس التي قد تؤول إلى زوال. هنا في هذه المحمية أو الفردوس الأول تعود الطبيعة إلى سيرتها الأولى فيعود العاشقان إلى طفولة ما قبل الخطيئة، ما قبل السقوط أو الهبوط كما جاء في النصّ الشعريّ :


كَأَنَّكِ طِفْلَةٌ تَعِدِّينَ بَاقِي المَسَافَةِ ..
كَأَنِّي طِفْلٌ أُعِدُّكِ شَهْدًا لِشَفَا شَفَتَي ..
كَأَنَّا طِفْلاَنِ كَبِيرَانِ يَهْبِطَانِ العُمْرَ إِلَى
أَوَّلِه!

(قصيدة نشيش- المقطع الثالث ص 29)

 

محمية كهذه تكفل للعاشقـَيْن عدم زوال الوجد واتحاد الذاتين المنفصلتين ، فينصهر الجسدان العاشقان روحان في بوتقة جسد واحد، ممّا يستدعي سقوط الحركات اللغوية عن( أحبّكَ- أحبّكِ) إذ سيحيا الاثنان ككيان واحد:
:

كتابان نحن
بورقة واحدة
لموضوع واحد
أحبك..
بكاف مفتوحة هي افقنا

ص 47( قصيدة جنوح)


أو :

واشتعلنا شمعتين
بذبالة واحدة


( قصيدة حواس, ص23)

هذا الانصهار الحسيّ الروحي يستدعي تبادل الأدوار النفسية فيحلّ (هو) في الذات الأنثوية كي يستميل في المعشوقة الذات الأنثوية ،وتحلّ (هي) في الذات الذكورية كي تستميل فيه الذات الذكورية فيكتمل الكيان العاشق:

أنا واحدتــُكِ هنا
إذ ًا ..
أنتِ واحدي !

(ص23)

هذا هو الشاعر محمد حلمي الريشة المتورط الأبديّ بالأنثى/ القصيدة التي يعشقها لذا يشتهيها الأجمل بين النساء، بينَ القصائد.

الناصرة

ريتا عودة
الجمعة 25/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع