المزايدون، حصان طروادة العربي!



المزايدة هي نسق من الأنساق المنهكة في الثقافة العربية حيث هي، ومهما يكن التيار المناوب فيها. والمزايدة تتجلّى في أبهى صورها فيما اصطلح على تسميته "العمل الوطني"، ومنها "التيار الوطني" و"الحركة الوطنية" والقوى الوطنية". فالمزايدة تحصل في العادة بين وطنيين مفترضين أو بين جهات تُحسب أو تصنّف نفسها على أنها وطنية. فهي في أساسها ديناميكا لفظية أساسا يتنافس فيها الوطنيون على بلوغ الذروة الوطنية. ومنهم من يأخذ المسألة حرفيا فيتوق إلى النشوة بعد الذروة! نسق خبره المواطن العربي في جميع مواقعه تقريبا وفي ظل كل الأنظمة والمشاريع. وهو يتجسّد في شكلين بارزين. الأول ـ أن كل إطار أو جهة تسعى إلى تجاوز خصومها السياسيين ومنافسيها الفكريين من خلال الذهاب بالموقف خطوة واحدة، على الأقل، أبعد مما وصله أو أعلنه الآخرون. والثاني ـ أن المزايدة تقتضي تفخيم اللغة الخطابية وتضخيم الإنشاءات بحيث تُفضي بالضرورة إلى خطاب أكبر من قدرات مُنشئيه ومردّديه وإلى لغة أكبر من أفعال أصحابها! ولا ينحصر الأمر في هذين الشكلين من نتاج المزايدة لأن لهما انعكاسات ومفاعيل في الثقافة العربية تتجاوز مساحتيهما كما سنرى لاحقا.

فديناميكا الذهاب خطوة واحدة أمام الجميع تُفضي إلى "وطنية" شكلانية فاقدة للمعنى وتجعل من السيرورة الأساس محصورة في تسجيل/خطف مواقف أو التعجيل في تسجيلها أو إعلانها. كما إنها تُفضي إلى "وطنجية" جوفاء ذات بُعد واحد مقياسها الواحد الوحيد القرب أو البُعد من الآخر أو من الشرّ المفترض. وهو في العادة عدوّ حقيقي أو متوهّم أو مسلك مُعيب كـ"الخيانة" أو "العمالة" أو ما يُفترض أنه كذلك. وهنا تنعدم الأسئلة عن وطنية جذرية أو صميمية أو عملية أو عاقلة. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ من ضحالة التعاطي مع الدنيا وشؤونها. فالمزايدون ينزلقون، في إطار التمايز عن غيرهم، إلى تخوين الوطنيين الآخرين ممن سبقوهم أو اختلفوا معهم في قراءة الأحداث أو التعاطي معها (كثيرون من التجمعيين يخونون الشيوعيين مثلا. وكثيرون من أبناء البلد وغيرهم يخزنزن التجمعيين). وكثيرا ما ينبري المزايدون إلى نعت خصومهم السياسيين بشتى النعوت لاسيما التخوينية منها أو التشطيبية او النفيية. وهو أمر طبيعي ما دام الهدف هو إبراز "وطنيتي" قياسا بالآخرين وإثبات تفوقّي أو سبقي الوطني عليهم! أما تفخيم اللغة المعمول به عربيا فله بدوره "إنجازاته" في مستوى الوعي والثقافة وعلاقة منشئي اللغة بسامعيها. فإذا استعنّا بالتحليل النفسي الجمعي لأمكننا أن نقدّر مثلا أن تفخيم اللغة والخطاب يأتي تعويضا عن العجز في مستوى الفعل. لأننا غير قادرين على الفعل والتغيير فإننا نلجأ على اللغة وألفاظها نمطها ونكبّر من حروفها وتراكيبها لعلها تستر عورتنا/عجزنا. وهو ما التقتطه الحكمة الشعبية التي جزمت أن "مَن كبّر دبشه (حجارته) ما ضرب"! لكن الأهم هو أثر اللغة الفضفاضة في خلق شعور طيّب عند القائل بأنه قام بأضعف الإيمان على أكمل وجه وبكلام يُعيد لنا الأندلس. وهو ما يُعفي القائلين في نظر أنفسهم من الفعل أو محاولة الإتيان بفعل. هذا في المستوى المباشر للعلاقة بين القائل ولغته المفخّمة بالتعابير الحماسية المجلجلة. لكن لمثل هذا الخطاب التفخيمي أثره التربوي أو التعبوي بلغة الأحزاب الثورية، إذ إن ثقافة لفظية كهذه ترتدّ بحركة لولبية على منتجيها فتكرّس الهوة بينهم وبين جماهير الهدف إلى حدود عزوف الأخيرة عن اللغة المدججة بالألفاظ الضاجة وعن مروّجيها. بمعنى أن ثقافة لفظية كهذه تحجب حقيقة عدم حصول تحرير أو حوار حقيقي مع الناس ولا يُفضي إلى عملية جَتمعة تنتج المجتمع من جديد إلا إذا اعتبرنا الشعبوية والتحشيد القسري للجماهير عملية جَتمعة! ولا نقصد بالجتمعة الهندسة البشرية وإنما تحويل شعب ما أو جماهير ما أو قبائل أو طوائف إلى مجتمع له مقوماته وقواسمه المشتركة ومشروعه الوطني والسياسي والاقتصادي والوجودي. وهو عكس ما هو حاصل الآن في غالبية الأقطار العربية نتفق معها أو نختلف، وعندنا هنا!


المزايدة نسق يفترض وجود قطبين اثنين على الوطني أن يكون في أقصى موقع في الطرف المستحبّ! فهناك الوطنية والبطولة وهناك العمالة والخنوع! فإذا لم تكن في معسكر الصامدين الأبطال لفظيا فإنك بالضرورة متخاذل أو عميل فعليا. أي أن المزايدين يعفون أنفسهم من سؤال ممارسة الموقف البطولي المدّعى. وباليُسر ذاته يُمكن اتهام إنسان بالعمالة والخيانة ـ خذ لبنان مثلا ـ لمجرّد أنه لا يتفق معنا أو لا يخضع لمشيئتنا على الأرض أو يحفظ لنفسه حرية التحرّك والاختيار! بمعنى أن السعي الدائم هو نحو إثبات التواجد في الموقع "الوطنيّ بامتياز". وفي مثل هذه الحالة يُعفي المعنيون أنفسهم من عناء الأسئلة الصعبة الطالعة إليهم من كون الحياة متعددة الأبعاد متحولة دائما وجدلية القيم والثوابت فيشطبونها بحركة من أيديهم ويتمترسون في أقصى موقف مزايد ويستنقعون هناك. فمنتهى الأرب لدى المزايدين هو أن يبدون أكثرنا عداء في الموقف من إسرائيل أو أمريكا، مثلا. ويحدث أن يغتاظ المزايدون فيرفضون أن يزايد عليهم أحد من كان! ولأن المزايدة تقوم على تسطيح للحياة فإنها تلجأ إلى أفعال القلوب تُعملها لأنها تتصل افتراضا بكل أفراد الجماعة العربية أو الإسلامية من المحيط إلى الخليج إلى جنوب شرق آسيا. فالمزايد لا يُتعب نفسه في الدراسة والتمحيص والقياس والتحليل والتفكيك، بل يستنكف عن مثل هذه الأفعال لأنها نقيض المزايدة. فهو يستنكر بشدة ويشجب ويستفظع ويُكثر من نعوت وتوصيفات لتوكيد موقفه المزايد. وتقوية المعاني لغويا تفترض الترادف والتكرار وحشد النعوت المتتابعة والذهاب من بسيط الألفاظ إلى مُجلجلها. فانتبهوا كيف نصف الرئيس الأمريكي بوش في خطابنا "الوطني"! وكيف يُمكننا أن نصف الاحتلال الإسرائيلي وسياساته في خطب الجمعة أو عبر الأثير وتحت الأثير! أو كيف تحوّل المزايدة الإنسان المنخرط فيها إلى مشروع غضب فحسب. غضب يصل النخاع يتفجّر في الغالب عنفا داخليا يوقع الضحايا في البيت! المزايدة تبلور إنسانا ذا بُعد واحد فقط يُستفزّ باتجاه واحد فقط، يغضب باتجاه واحد فقط. وهو غالبا ما يكون الآخر العدوّ أو النقيض! فكيف نفسّر خروج الحشود احتجاجا على نشر رسوم كاريكاتيرية موضوعها النبي محمد ولا يخرج أحد من المسحوقين المحرومين المنبوذين شاهرا سيفه مطالبا بلقمة العيش والسكن وبالحرية والكرامة وسائر الحقوق المنتهكة يوما يوما، وليس من الآخر والعدوّ!
المزايدة نسق طبع كل المشاريع العربية بميسمه. لم تخل منه مشاريع النهضة القومية ولا البناء الاشتراكي ولا الناصرية ولا البعثية ولا الإسلاموية. مشاريع كان كلامها المزايد كفنا لها لأنها في نهاية المطاف سطّحت الوجود العربي بدل أن تحرره، زجّت به بين الخنوع والذلّ، وبين البطولات اللفظية. أرادته بطلا في مواجهة الآخر وداست عليه في المواجهة الداخلية، ولما تكفّ عن المزايدة وادعاء "الصمود" و"التصدي" و"الممانعة" و"المقاومة". المزايدون عندنا هم أحصنة طروادة العرب يقوّضون البيت من داخله. يُمكن أن "ينتصروا" ويضيع الوطن ـ لبنان مثلا. فيسقط شهيد للغدر المزايد تلو الآخر. والمزايدون على عادتهم، يزايدون!

دالية الكرمل
marzuqh@gmail.cm

بقلم: مرزوق الحلبي
الأربعاء 23/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع