سقوط حيفا.. وما بعد



بعد ان اتمت الهاجاناه احتلال حيفا، وتنفيذ اوامر بن غوريون بتشريد سكانها العرب، الذين لم يبق منهم سوى حوالي الثلاثة آلاف انسان، دعا القائد العسكري (من الهاجاناه) لمدينة حيفا وفدا من الشخصيات العربية لمقابلته. وشمل الوفد السادة: فكتور خياط، نور الدين العباسي، توفيق طوبي، شحادة شلح وبولس فرح، وحضر الاجتماع عدد من القادة العسكريين، وابلغوا الوفد ان قيادة الهاجاناه قررت تجميع من بقي من العرب في حيفا في حي وادي النسناس وعباس، على ان يتم تنفيذ ذلك خلال اربعة ايام من 1 – 5 تموز 1948. وكان اول المتحدثين من اعضاء الوفد، توفيق طوبي الذي قال ان هذا القرار معناه اقامة غيتو للعرب. وتلاه بقية اعضاء الوفد الذين رفضوا القرار. ويذكر الصحفي توم سيجف في كتابه (1949 – الاسرائيليون الاوائل) هذا الحادث بالتفصيل، وقيل ان جرأة هذا الشاب (توفيق طوبي) اثارت الدهشة والاعجاب.
ونفذت الهاجاناه القرار وجمعت العرب في حي وادي النسناس وعباس، واصدرت تصاريح شخصية (لونها اصفر) يسمح بموجبه لحامله بالتجول في البلدة السفلى، ويمنع من الوصول الى الهدار والكرمل.. ووضع حاجز في شارع الخوري زاوية شارع صهيون يقفل الشارع امام المارة والسيارات على السواء. ولكن جاء رفاق شيوعيون يهود وازالوا هذا الحاجز. وقام باسكان من جرى نقلهم لجنة تألفت من الشيوعيين وغيرهم.

 

ومن الواجب ان نذكر انه بعد سقوط حيفا قام الرفيق توفيق طوبي والرفيق عصام العباسي بكتابة منشور باسم عصبة التحرر الوطني دعوا فيه من بقي في المدينة بعدم الرحيل. وتم توزيع المنشور في حيفا ووصل الى الناصرة وعكا وعدد من القرى.
كان من الضروري تأمين احتياجات السكان الضرورية من الطعام والشراب. فلم يكن هناك حوانيت فيها المواد الغذائية الضرورية، فقام الشيوعيون بتأسيس جمعية قوت الكادحين التعاونية، ومن المؤسسين: نور الدين العباسي (ابو عصام)، توفيق طوبي، يوسف عبدو، سركيس ابريان، عصام العباسي. وافتتحت الجمعية حانوتا في شارع الخوري، وآخر في حي الالمانية – شارع ماير زاوية شارع همغينيم، كما افتتحت فرنا في شارع الخوري زاوية شارع الوادي، وسلمت ادارته للسيد يزنيك الارمني. وعندما طبق نظام النقط لتوزيع المؤن على السكان، كانت قوت الكادحين المكان الذي يستطيع كل انسان الحصول فيه على حصته من المؤن.. الطحين والسكر والزيت.. بامانة واخلاص. وكان هذا العمل – تأسيس قوت الكادحين وافتتاح حانوتين وفرن، عظيم الاهمية، لأنه لو استمر الوضع في عدم وجود حوانيت يحصل منها السكان على احتياجاتهم الضرورية، لبدؤوا بالهجرة من المدينة.
ولكن كان هناك من لم يرض ببقاء عرب في حيفا، فجرت عام 49 محاولة لاحتلال بيوت السكان العرب في وادي النسناس وعباس وطرد ساكنيها، وما حدث هو ان فرقة من الجنود المسرحين قام افرادها بالهجوم على الحيين، فكانوا يدخلون البيوت، يعتدون على ساكنيها بالضرب ويطردونهم، ويسكنون فيها، وكان المقصود من هذا الاعتداء تنظيف حيفا من العرب.

 

وتصدى الشيوعيون العرب واليهود لهذه المحاولة الاجرامية، فأصدروا وبمشاركة شخصيات عربية، منشورا دعوا فيه السكان العرب الى الاضراب العام، وبالفعل كان الاضراب عاما شاملا. ووصل الى بناية البلدية وفد لمقابلة رئيس البلدية آنذاك شبتاي ليفي. وتشكل الوفد من المحامي حنا نقارة والمحامي الياس كوسى وآخرين.
واذكر مجيء شبتاي ليفي الى وادي النسناس، حيث اعلن انه اصدر امرا باخراج الجنود المعتدين من البيوت العربية. ولا بد ان اذكر ان شيوعيين يهود قاموا باخراج المحتلين من بعض البيوت، بعد اصطدامات معهم، وبالفعل تم اخراج الاكثرية الساحقة من المحتلين، ولم يبق سوى افراد قلائل في بعض البيوت الواسعة التي كان يسكنها واحد او اثنان من السكان العرب.
وعلى ذكر شبتاي ليفي لا بد من ذكر موقفه ورفضه تشريد العرب من حيفا. كما انه رفض طلب بن غوريون هدم البلدة القديمة، فقام بن غوريون باصدار اوامره الى الجيش القيام بذلك، وهذا ما حدث.

 

* صدور "الاتحاد"


من الامور الهامة الواجب ذكرها، عودة صحيفة "الاتحاد" الى الصدور في حيفا، بعد ان حصل الرفيق توفيق طوبي على رخصة باصدار الصحيفة باسمه. وصدر العدد الاول في 18/10/48. وطُبعت "الاتحاد" في نفس المطبعة التي كانت تطبع فيها قبل منعها من الصدور بأمر من حكومة الانتداب، مطبعة منير حداد في شارع الخوري.
وكان لصدور "الاتحاد" اهمية كبرى في تعريف السكان بحقيقة ما يجري في البلاد والمنطقة والعالم، وتوعيتهم ورفع معنوياتهم، واعادة الثقة بالمستقبل الى قلوبهم، وقد لعبت "الاتحاد" ولاحقا "مجلة الجديد" ومجلة الشبيبة "الغد" دورا حاسما في المحافظة على الهوية العربية والثقافة واللغة العربية، حيال محاولات السلطة الحاكمة القضاء على ذلك.

 

* الشيوعيون العرب في حيفا


لا بد من الحديث عن الشيوعيين اعضاء عصبة التحرر الوطني وعن دورهم الحاسم بعد احتلال حيفا في تنظيم السكان في المدينة، وتأمين احتياجاتهم الضرورية، والدفاع عنهم، واعادة الثقة الى نفوسهم والعيش رافعين رؤوسهم. ولم يتجاوز عدد الشيوعيين العرب عدد اصابع اليد وهم توفيق طوبي، يوسف عبدو، عصام العباسي، سركيس ابريان، بولس فرح، زاهي كركبي، متيا نصار. ورحل اثنان منهم هما سليم شامي وفرحات بدين.
وتدريجيا ازداد عدد السكان العرب في المدينة، بانتقال الكثيرين من القرى في الجليل والناصرة ومنطقتها الى حيفا للعيش فيها. وازداد عدد الشيوعيين المنظمين.

 

* اعادة وحدة الشيوعيين العرب واليهود


كان الشيوعيون العرب اعضاء في عصبة التحرر الوطني. واستمر هذا الوضع الى ان تم توحيد الشيوعيين اليهود اعضاء الحزب الشيوعي الفلسطيني والشيوعيين العرب اعضاء عصبة التحرر الوطني في حيفا. وتمت الوحدة في مؤتمر الوحدة في 23/10/48 في اجتماع ضخم في قاعة سينما ماي في حيفا، ضم اليهود والعرب. وسمي الحزب بعد الوحدة "الحزب الشيوعي الاسرائيلي". وشملت هذه الوحدة فرع عصبة التحرر الوطني في حيفا فقط. اما الفروع الاخرى في الناصرة وعكا وغيرها فتم انضمامها بعد عدة اشهر. وتكلم في مؤتمر الوحدة ميكونس وماير فلنر وتوفيق طوبي، وقدم اميل حبيبي تحية عصبة التحرر الوطني في المناطق الفلسطينية، وافتتح الاجتماع إستر فلنسكا.
ان قيام وحدة الشيوعيين العرب واليهود زاد من قوة المناضلين ضد سياسة الترحيل والحكم العسكري ومصادرة الاراضي العربية التي اتبعتها حكومة بن غوريون، وزادت من امكانيات تجنيد قوى دمقراطية يهودية ضد هذه السياسة.

 

* احتلال الجليل


في اجتماع لقيادة الهاجاناه قال بن غوريون للقادة العسكريين الحاضرين، اريد الجليل ولكن بدون سكانه العرب. وبالفعل عملت قوات الهاجاناه عند احتلالها الجليل على طرد السكان العرب، وارتكبت العديد من المجازر في القرى العربية لارهاب السكان وحملهم على الهرب او تسهيل طردهم. ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل. فالسكان تعلموا مما حدث للذين شردوا من حيفا وعكا ويافا وغيرها واصبحوا لاجئين في المخيمات. ولعب الشيوعيون دورا هاما في توعية السكان ودعوتهم للصمود في قراهم وبيوتهم، وفي حالات عديدة لجأ السكان الى الوعور حوالي قراهم لأيام قليلة بعد الاحتلال تسللوا بعدها الى قراهم وبيوتهم.
وهكذا بقيت الناصرة عامرة بسكانها، وبقي الجليل عامرا بأكثرية قراه، مع ان العديد من القرى هدمت وشرد سكانها إما الى القرى المجاورة او الى الخارج. وحتى اليوم يطالب المهجرون بالعودة الى قراهم في كفر برعم واقرث وسحماتا والغابسية والقائمة طويلة.

 

* التطويق في وادي النسناس


كان الجيش الاسرائيلي يقوم بين حين وآخر بتطويق وادي النسناس وعباس بحثا عن "متسللين"، أي اشخاص وصلوا الى حيفا وسكنوا فيها، بدون تصريح وكانوا يقدمون من يعتقلونه الى المحاكمة، وبعدها يعاد الى بلده او قريته.

 

* انتخابات بلدية حيفا


جرت الانتخابات الاولى لبلدية حيفا عام 1950. كان عدد السكان العرب في حيفا قد ازداد، كما ازداد عدد اعضاء الحزب الشيوعي من اليهود والعرب. وكان مرشح الحزب للبلدية الرفيقة تسيلا عيرم. وبذل حزب مباي الحاكم بقيادة ابا حوشي جهودا جبارة لمنع مرشح حزبنا من دخول البلدية، وجند اعوانه الكثيرين من العرب لتحقيق هذا الهدف – وحضر الى حيفا يوم الانتخابات العديد من الرفاق، من الجليل والناصرة للمساعدة.. كانت اصوات الناخبين العرب هي المقررة بالنسبة لقائمة الحزب، وقام اعوان المباي بعد ظهر يوم الانتخابات بالاعتداء على رفاقنا امام بناية اتحاد عمال اسرائيل في بداية شارع الجبل التي كان فيها عدد من صناديق الاقتراع. وقاموا باطلاق النار من مسدساتهم وجرحوا عددا من الرفاق، منهم توفيق خوري عامل مطبعة الاتحاد، وخليل خوري من ابو سنان وجورج طوبي من حيفا. وقام رفاقنا بالهجوم على الاعوان المعتدين وسلاحهم الحجارة وهم يهتفون "ستالين ستالين". وفر المعتدون ورفاقنا يطاردونهم حتى اوصلوهم الى سينما عين دور. ووصلت الشرطة وكالعادة بدل اعتقال المعتدين الذين اطلقوا النار، اعتقلت حوالي 15 من رفاقنا وانا واحد منهم. وبتنا تلك الليلة في السجن الصغير الذي كان قائما قبالة مدخل الميناء الشرقي (يقف اليوم في نفس المكان بناية بنك اسرائيل)، وفي الصباح جاء رجل بوليس، ولم نكن نعرف نتائج الانتخابات،  وقال "لماذا انتم زعلانين، فرفيقتكم تسيلا عيرم انتخبت عضوا في المجلس البلدي". كان هذا نجاحا كبيرا لحزبنا، واصبح للجماهير ولا سيما العربية من يدافع عنها ويعرض قضاياها ومطالبها.
ومن الامور المسلية التي حدثت ان امرأة اخذت من عملاء المباي خمس ليرات للتصويت لهم، ولكنها ولجهلها عملية الاقتراع، وضعت في ظرف الاقتراع هويتها والخمس ليرات وحرف المباي وبالطبع الغي الصوت. واصبح حزبنا في الناحية العربية وعلى امتداد عشرات السنين القوة السياسية الاولى بين الجماهير العربية في المدينة.

زاهي كركبي *
الأربعاء 23/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع