عالم دوستويفسكي



«حلم رجل مضحك» لدوستويفسكي كان العرض التحيّة من طلال درجاني لكلّ من يحبّ في يوم المسرح العالمي. العروض ستتوالى على مسرح المركز الثقافي الروسي، إعداد وإخراج طال درجاني، تمثيل حسام الصبّاح، كميل يوسف وساندرا ملحم.
لا يضرّ أن نضيف شرّا فوق الشرور المستطيرة المحدّقة بنا. لا يضرّنا اشتراكنا في عمليّات انتحار دوستويفسكي بعد موت زهوتنا منذ زمن. ولا يضرّ أن نعيش أجواء الكآبة على المسرح مع الكاتب المبدع دوستويفسكي. قد يكون أجدر من يخاطبنا في هذه الآونة هو هذا الكاتب الكبير. وطلال درجاني اختار الصّعب في عرضه. الصعب لأنّ الكاتب وعرٌ جدّا. وعرٌ حين تكون كلماته مصبوغة بألف صورة ومعنى فإمّا يحالفك الحظ و ترتقي معه الى جنونه وإمّا تبقى محصورا داخل شخصه.
العرض دار عند أقدام عملاق واقف خلف الخشبة. في كل لهثات ولفتات الممثلين كان ظاهر الوجود. والمخرج من شدّة عشقه لشخص وتركيبة دوستويفسكي اختبر حالة بالغة الصعوبة ما بين الذوبان لحد امتصاص كلمات النص لإخراجها برؤية دوستويفسكيّة، وما بين خلق مساحة لإظهار الكاتب من رؤية شخصية. بالحديث عن النصّ لا يسعنا سوى التوقف والتفكّر بمئات الرموز والصور التي تتبادر سريعا الى ذهنك، حتّى عندما تسترق غمضة عين وتستمع فقط الى النص تدرك أنّك أمام كاتب معجون بشياطين برّاقة. ثم تنتقل الى المرحلة الثانية وتدقق في ما ترى سائلا نفسك هل هو كاتب بحاجة لمسرحة نصوصه واذا كان بحاجة لمسرحة، ما الذي سيناسبه؟ فمن بين آلاف الأعمال العالمية لكبار الكتّاب، قد لا نستخرج سوى قلّة مِمن أتقن خاصّيّتها. ودوستويفسكي التحدّي معه كبير وكيف لا وهو المقامر الذي لا «يرسيك على برّ». في السينوغرافيا (تصميم طلال درجاني)، وضع المخرج ورق اللعب على الارضيّة دلالة على الجانب المقامر للكاتب، ووضع اخشابا تحولت الى عدة استعمالات، قبور ونعوش وطاولات و«الطّالعة والنّازلة» كتلك التي نراها في ملاعب الأطفال، تصعد بك لتعود وتخبطك على الأرض، كأنّ المخرج أراد تسجيل الجانب الطفولي البتول لدوستويفسكي، أوالجانب الرقيق بالرغم من كمية الشر التي تسكنه.
السينوغرافيا استسقاها من الاجواء الادبية الروسية وبالفعل شعرنا بجو القوقعة ذلك الموجود دائما في وصف دوستويفسكي مع ابتداع فكرة القبور التي كانت جماليّتها تستهوي الكاتب للتنزّه بينها، التي أوجد من خلالها عدّة استعمالات اعطت للممثلين مجالات للتحرك لا سيما الممثلين الصامتين نوعا ما الأبله والمرأة الروح أو الحياة الذي اجتهد المخرج في خلق رابط بينهم طوال مدّة العرض. لا نخفي إعجابنا بحسام الصباح لوقوفه ما يقارب الساعة والنصف دون توقف وإلقاء دور صعب جدا، هو مزيج من التركيبات والعقد الانسانيّة. صوته الرخيم وطريقة إلقائه كانتا آسرتين، وبالفعل بدا قادما من عالم دستويفسكي، لكن ثمة ما بقي ناقصا. فالمخرج أعطانا سلّة متكاملة على صعيد تقليد أجواء دوستويفسكي انّما في غياب عنصر غفل عنه المخرج، وهو كيفيّة ان يكون الكاتب شعبيّا بقدر ما هو شعبي في الحقيقة وقريب من طبقات البؤساء. وهنا تكمن عبقريّة هذا الرجل المتسلّل من عالم القصور وصولا للحواري، ولدى طلال درجاني فقد دوستويفسكي هذا الجانب بالرغم من الأجواء والثياب المهلهلة، بقي مثالا براقا، بقي بعيدا عن التعرّق الذي كان ينتاب الكاتب في حالات الحمّى، بعيدا عن الوحول والطين، حيث لم تنفذ الكلمات الى آذان الكثيرين، وأعني هنا هؤلاء الذين لم يجدوا الوقت لقراءته عن كثب وجاؤوا إمّا للتعرف عليه، وإمّا لرؤية عمل طلال درجاني، وفي كلتا الحالتين ثمة نقص. الرؤية الاخراجيّة سعت لتقديس الفكرة بشكل زايد على المضمون الأصلي، لترتبك الواقعيّة في حضرة واقعيّة أشدّ منها. من شدة تجسيد واقعية دوستويفسكي ثمّة ما يرهقك على مدار العرض، نظرا لاضطرارنا لتحمّل هذا الكمّ مما يعانيه الممثل مع الشر وموبقاته، فكأنّنا في حفلة تطهّر جماعيّ حاملين ما لا طاقة لنا على حمله. وهذا ولو كان متعمّدا لم يجد على مدار العرض كاملا، نظرا للمناخ الثقيل الذي خيّم على العرض دون هدنة لنلتقط كل ما أرادنا المخرج استيعابه.
حسام الصبّاح قدير دون شك، خضع لشحن داخليّ لمدرسة أداء ليست بالسهلة ابدا، على طريقة ستانسلافسكي، وترك المخرج الجانب الحركي للشخصيتين المتخيلتين، التي لم تأت على نفس مستوى أداء حسام الصبّاح. فالحركة كانت إمّا موجودة بشكل فني خجول، أوعابثة بطريقة تشتّت لك أنظارك عن العالم الداخلي للممثل، وهنا كانت نقطة الضعف، عندما شعرنا أننا نريد النظر الى باقي رموز الكاتب الموجودة على الخشبة، بالتزامن مع النصّ، لندرك أنّها كثيرة التشعب وتتطلّب تدقيقا بالغ العناية، لنعود وندقّق في نص حسام الصبّاح ونكون قد أغفلنا بعضه عندما انتقلنا في التركيز بين ما يقول وما نرى في العمل الجسماني. ولعل اللحظات الأضعف كانت في الضحك الثلاثي الذي لم يكن مدويّا كما كان مقدرا له أن يكون. في بعض اللحظات توحد الثلاثة كوجه واحد للكاتب، وكانت لحظات جيدة.
حسام الصباح حافظ على المستوى نفسه منذ البداية حتى النهاية، علم جيّدا كيفيّة تقطيع الجمل ومتى يجب شحنها من خلال طاقته، ومتى يلقيها على عاتقنا، كان مؤديّا جيدا، معبرا في نظراته، باختصار كان الصورة الواضحة لدوستويفسكي، أمّا المخرج فغابت صورته، لأنّ كل ما كنا نراه كان عبارة عن محاولته اتّباع خطى الكاتب. قد يكون الأمر مقصودا، فكان التلميذ المجتهد الذي يريد رفع الستار عن افكار الكاتب المعاصرة، ليخبرنا كم أنّ دوستويفسكي يشبهنا، فانزوى في ركن من شخصية هذا العبقري المجنون، وعمل حسب المطلوب، بحذر شديد، ماشيا على حبل رفيع بخطوات ثابتة، خائفا من بعض الجنون لكيلا يحيد عن درب دوستويفسكي ويتعثّر، لكن العرض كان بحاجة لشعلة اضافيّة لإشعال الحبل وإضفاء اللمسة المفقودة.

 

*نسخة معتدلة*

ورق اللعب على الارضية لم يكن كافيا للمقامرة، والقبور لم تكن كافية لاحتواء أشكال الموت، والمؤثرات الصوتية كانت تدوي بشكل فجائي، مخترقة الفضاء المسرحي كعامل لم يفد العرض بشكل صحيح، بل جاءت متقطّعة، متشرذمة، ومثيرة للضحك أحيانا من شدّة «النقزة» التي كانت تنتابنا لسماعها. بقي النص على صيغته واحتفظ المخرج بالجمل كما هي، لم يتخلّ عنها، حتى ولو كان الايقاع بطيئا ولم يناسب شريحة كبيرة من الجمهور الكثير التململ. كانت لعبة استمتاع قام بها المخرج مع المجموعة، حبذا لو راعى فيها انتظارنا لحدوث الانفجار الكبير، وصبرنا السريع النفاد. النص كان محبوكا بدقة لأذن وعين القارئ، قبل عين المشاهد، ومن هنا اتى التحدي الاكبر في تطويره على الخشبة، في لعبة القط والفأر، من يلتقط الآخر، دوستويفسكي أو الممثل أو المخرج والمشاهد. النص في تركيبته وتطويره للحلم وما ورائيّة الحلم، تصاعد بشكل هذيان جميل، زادت حدته في الرقص او الروح المرأة التي كانت تارة تمسك بجسد الممثل أو تطلقه لمصيره، فكانت فكرة مقبولة نوعا ما، لكنّ بشكل محدود، وقالب جامد لم يعبّر عن مكنونات الشخصيّة، كدور الأبله وهو الأضعف، ولم يخترقنا أو يصفعنا كما تصفع عادة كلمات دوستويفسكي قارئها.
عرض «حلم رجل مضحك» نسخة طبق الأصل، منمقة ومعتدلة، ابتعد المخرج فيها عن زيادة الإضافات خوفا من تمرّد الكاتب، فذهبت عناصر المفاجأة، بعد ان انتظرناها طويلا، وعندما فرّط في عنصر المفاجأة لم تعد للحروب معنى، حروب دوستويفسكي العجيبة، التي كنّا نامل بخوضها معه، فمنعنا تحت قوّة سلاح الإلقاء، والإلقاء فقط، بغياب سلاح الجنون خوفا علينا من اصابات محتملة، كانت لتكون اجمل الإصابات التي كنّا سنخرج منها منتصرين.

 

اروى عيتاني
السبت 12/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع