مسرحية «فاوست» بعد 200 سنة على صدورها



مازالت مسرحية "فاوست" بجزئيها الأول والثاني تعتبر من إحدى التحديات الكبيرة للمسرح في عصرنا الراهن، وذلك بسبب صعوبة تحقيقها تقنيا من جهة، ولعمقها الفكري والشعري من جهة أخرى، كونها تعالج بقدرة شعرية نادرة جملة من القضايا الكونية ذات الطابع الشمولي العميق من منطلق يمكن إعتباره وجوديا- بمنظور عصرنا الراهن-، ولا تتوقف عند هذه القضايا، بل تتجاوزها- بشكل خاص في الجزء الثاني- الى معالجة موضوعات تتعلق بالعلوم الطبيعية، لا تقتصر أهميتها على تطور العلوم في عهد غوته، بل تمس الكثير من القضايا المطروحة للنقاش العلمي في عصرنا الراهن (الإستنساخ متمثلة في "الهومونكولوس" الذي هو عبارة عن كائن شبيه بالبشر يخلق في المختبرات مما يعيدنا الى خضم الخطاب العلمي الراهن)، وفوق هذا وذاك يعالج الشاعر في مسرحيته مواضيع التحول والخلق الفني إضافة الى ما تقدم في الجزء الأول الذي أستغرق العمل عليه 60 عاما (1749-1832) من تساؤلات مصيرية تتعلق بالمعرفة الإنسانية وقصورها عن الغور في أعماق الوجود الإنساني و بما تحيطه من إلتباسات الكينونة، العشق، الشيخوخة والموت. ورغم أن غوته ينفي القصدية الفكرية لنصه، إلا أن الباب يبقى مفتوحا أمام المخرجين والنقاد لإستشفاف ما يتناسب مع منطلقاتهم الفكرية. يقول غوته: "يسألونني أية فكرة أردت أن تنقل من خلال "فاوست"؟ وهم يعتقدون أني أعرف ذلك ويمكن أن أتحدث عنه. وفي الحقيقة فأن العمل الشعري كلما كان خارج المقاييس العقلية، كلما كان أفضل."
مع هذا يبقى هذا النص الذي بني على أساس حكاية شعبية ألمانية عن عالم يبيع روحه للشيطان مقابل وعد الحصول على الشباب الأزلي والخلود مرجعا أساسيا في إستيعاب الضمير الأوربي "الفاوستي" في إتجاه البحث عن المعرفة المطلقة، مما دفع الفيلسوف الألماني أيزفالد شبنغلر (1880-1936) لان يقول عنه: "بهذا (العمل) يكون غوته قد وضع المسيرة العامة لمستقبل أوربا الغربية"، في إشارة الى الصيغة الأخيرة لهذا العمل الكبير التي تقع في ما يقارب 428 صفحة من القطع المتوسط، غير أن أغلب العروض تقتصر على الجزء الأول من العمل الذي يفتتحه بحالة اليأس التي يعيشها البروفيسور "فاوست"، بعد أن يعي لا جدوى جهوده المعرفية بمواجهة الموت والشيخوخة، مما يدفعه للتعاقد مع الشيطان "مفستو" على أن يمنحه الأخير فرصة إستعادة الشباب لكي يتمكن من البحث عن أجوبة للأسئلة التي مازالت تشغل ذهنه، غير أنه، حال ما يستعيد شبابه، يقع في حب الصبية "غريتشن" أو مارغاريتا ويغرر بها.
لقد وجد هذا العمل، رغم إقرار غوته بصعوبة تحقيقه على خشبة المسرح، عبر التاريخ العديد من المخرجين والممثلين الكبار الذين تصدوا له في محاولة منهم لسبر أغواره بحثا عن أجوبة تقربه للجمهور، ومنهم المخرج والممثل المعروف غوستاف غروندغنس (1899-1963) الذي مثل دور مفيستو في العام 1932، ليخرج هذا العمل فيما بعد أثناء الحرب العالمية الثانية، ثم عاد ليمثل الدور نفسه في سنة 1960 في عرض أخرجه بنفسه- من الجدير بالذكر الإشارة الى رواية كلاوس مان التي تحمل عنوان "مفيستو" وتدور حول الدور الذي لعبه غروندغنس في ظل النظام النازي في المانيا، حيث نصب رغم إعترافه بميوله المثلية عميدا لـ "مسرح الدولة الألماني"، وكان مقربا من غورنغ وغوبلز-، كما أقدم العديد من المخرجين المعاصرين على إخراج هذا العمل ومن ضمنهم ديتر دورن، كلاوس بايمان و بيتر شتاين الذي أخرج الجزء الأول من المسرحية في سنة 2000 دون أن يختزل النص – أستغرق العرض أكثر من 21 ساعة، بالإعتماد على فرقة خاصة أسست لهذا الغرض يبلغ قوامها 80 شخصا إضافة الى الطاقم التقني وقد مثل دور فاوست الممثل المعروف برونو غانس. ورغم تقادم الدهر على هذا العمل الجبار، إلا أنه مازال يشد اليه الكثير من المخرجين في ألمانيا وغيرها. ومن هنا وبمناسبة مرور 200 عام على صدوره يجري تقديمه حاليا في عدد كبير من المسارح الألمانية ومن بينها "المسرح الوطني في فايمار"، حيث يجري تقديم العمل بجزئيه الأول والثاني وذلك تحت إشراف المخرجين الشابين تلمان كويلر "فاوست 1"، ولورنت شيتون "فاوست 2 "، كما يقوم الممثل المعروف مارتين فوتكه بإخراج وتمثيل العمل كـ "مونودراما" مع كورس على خشبة "برلينر إينسامبل"، أما كريستوف شروت فإنه سيقدم العمل بمنظور جديد من خلال تحويل شخصية الفتاة التي يغرر بها فاوست الى "مسلمة". أما مسرح بوتسدام فأنه سيقدم المسرحية في إطار البحث عن أطر مسرحية لمعالجة "الخطاب الديني"، تقع ضمنه أيضا معالجة مسرحية لرواية سلمان رشدي "الآيات الشيطانية".
ومع إختلاف الآراء حول هذا العمل، حيث يذهب البعض الى إعتباره عملا "ألمانيا بحتا" بإعتبار أن السعي للحصول على "مساعدة الشيطان" لغرض إغواء "صبية قروية" لا يمكن أن يأتي إلا من مخيلة "بروفيسور ألماني"، إلا أنه سيبقى من الأعمال الخالدة في الأدب العالمي الكلاسيكي الى جانب "هاملت" و"موبي دك" و"دون كيخوته" وغيرها من الأعمال التي تركت بصماتها في تاريخ الأدب العالمي.

صالح كاظم
السبت 12/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع