قصائد يواخيم سارتوريوس ... كجدول ماء تحت الأرض



«جاريا من عدم الى عدم/ مدفونا في الأعماق/ كجدول ماء تحت الأرض» بهذه الكلمات يختزل الشاعر الألماني يواخيم سارتوريوس رؤيته للشعر في مجموعته الشعرية «ما الذي يرى المرء حين يرى؟» الصادرة عن دار توبقال والتي نقلها الى العربية مصطفى السليمان. ذلك أن الشعر وفق سارتوريوس هو لغة الاعماق لا السطوح وهو لغة الحياة السائلة التي تحاول الافلات من الموت لا من طريق مجانبته والفرار منه، بل من طريق استنطاقه وسبر أغواره وقراءة وجوهه الملغزة. وقد تكون الأبيات التي سلفت خير معبّر عن حقيقة الشعر ومعناه بالنسبة الى سارتوريوس، ليس فقط لأن الشعر ينبت كالبذرة في الظلام التام، بل لأنه يتحرك كبندول الساعة بين حدّي العدم والماء بصفتهما رمزين للموت والحياة في شكل أو في آخر.

 

*الاسكندرية وتونس وقبرص*

ولأن جدول الماء الذي يجري تحت الأرض لا يعترف بالحواجز والأسلاك المنصوبة فوقه على شكل أوطان وإثنيات وكيانات سياسية، بل هو يوحد في مساره الجوفي سائر المناطق والأقاليم، فإن الشاعر اتخذه رمزا اضافيا لاعتقاده بالتواصل الحضاري ولدعوته الى الحوار الدائم بين الثقافات بدلا من الصراع المحموم والتنابذ الحاد الذي بدأ يأخذ أشكالا دموية مروعة في مطالع الألفية الثالثة. لذلك لم يكن بالأمر الباعث على الاستغراب أن يترجم سارتوريوس قناعاته المتسامحة والمنفتحة عبر ديوانه الأخير الذي تدور معظم قصائده حول العالم العربي بالذات وتحاور في هذا الاطار مكتبات وقبورا وحدائق ومقاهي ونساء وأرصفة تتوزع بين المدن والأقطار، كما هو الحال في قصائد «الاسكندرية» و «الحجرة فوق المقهى» و «خلف مكتبة الاسكندرية» و «ألديك شي آخر يا مدينة الرباط؟» و «في تونس يكذب النخيل»، اضافة الى قصائد أخرى تستلهم أماكن أخرى مثل قبرص ولاغوس.
والحقيقة أن هذه اللمسة الانسانية اللافتة التي تدمغ شعر سارتوريوس لم تكن وليدة الصدفة، بل هي ناجمة عن طبيعة حياته بالذات. فكونه ابنا لديبلوماسي ألماني جعله يتنقل مع أبيه وعائلته بين عدد من البلدان مثل تونس والكونغو والكاميرون وفرنسا ولندن قبل أن ينخرط هو شخصيا في العمل الديبلوماسي متنقلا بدوره بين نيويورك وأنقرة وعدد من البلدان العربية التي أحب لغتها وأعجب أيما إعجاب بتاريخها الحافل بالشعر كما بإيقاعها المتفرد.
لا يبذل قارئ يواخيم سارتوريوس كبير جهد لكي يربط بين أسلوبه الشعري وبعض أسلافه من الشعراء الألمان الذين يبتعدون ما أمكن من السيولة الكلامية والإنشاء الوصفي والعواطف الفائضة. وعلى رغم بعض الخيوط الواضحة التي تربط بين شعره وشعر ريلكه أو هلدرلن، الا انه في تقشفه العاطفي ودقته التعبيرية يبدو أقرب الى غوتفريد بن منه الى الشاعرين السابقين. لكن تفحصا دقيقا لقصائده يجعلنا نكتشف بملموسية أكبر اقترابه اللافت من تجربة الشاعر اليوناني قسطنطين كافافي، وبخاصة من خلال استنطاقه للماضي وبعثه من خرائب النسيان وهدم المسافة الزمنية التي تفصلنا عنه ليبدو طازجا ونابضا بالحياة حيث «لا تقيس المدينة الوقت/ بل تتصوره» كما يعبر في القصيدة التي تحمل عنوان «قسطنطين كافافي». ولا يكتفي سارتوريوس بقصيدة واحدة يهديها الى شاعره الأثير، بل يعود ليحاوره مرة جديدة في قصيدة «كافافي يناقض سينيكا». وفي قصائد أخرى بعنوان «أربع قصائد لم تنشر قبل الآن من تراث قسطنطين كافافي». وهو بذلك يحاول أن يقيم نوعا من المماهاة بين رؤيته الى العالم وبين رؤية الشاعر اليوناني تماما كما فعل أكثر من شاعر عربي في تماهيهم الرؤيوي مع أبي الطيب المتنبي.
يبدو الزمن والحب العنصرين الأكثر الحاحا في بناء القصيدة عند سارتوريوس. فهو يصغي بانتباه الى خشخشة القرون التي انصرمت ويسمع أنين المدن التي زالت منذ زمن بعيد وتلك المشرفة على الزوال أو تلك التي تهدمت وأعيد بناؤها غير مرة.
وهو إذ يرى الى المدينة – الاسكندرية – بصفتها محلا لتعاقب الموت والحياة «معارفها تتفتت جيلا بعد جيل في القبور» لا يلبث أن يرى فيها رمزا للشهوة المتلألئة فوق الخرائب. انها وفق قوله «حب يبوح في اشتعال النظرة»، سوى انه الحب الخاطف والآيل أبدا الى زوال. وإذ يبدو سارتوريوس في قصائده عن الاسكندرية أسيرا لرؤية كافافي وواقعا في شركه التاريخي و «الأثري» الى حد بعيد يجنح في قصيدته عن الرباط باتجاه آخر يتبدى فيه الحاضر أكثر سطوعا من الماضي وينتزع الشاعر قصيدته من المشهد المباشر والمحسوس، الامر الذي يشيع دفئا أكبر بين السطور: «ألديكِ شيء آخر يا مدينة الرباط؟ / غير هذه الحلوى الباهتة / وغير باعة الماء القدامى / وغير هذه الفتاة على جانب الطريق / تنادي المارة بلغة الصوفي / «هل تريد ان تتصفح قلبي العاشق؟».
يبدو الحب من جهة أخرى قاهر الزمن وألهيته في الآن ذاته. فهو اذ يحضر في اللحظة يحاول ان يؤبدها ما أمكن. لكنه اذ يعلق بها، فإنه يجازف بأن يتحول مثلها الى أطلال. ولا ينفعه اذ ذاك اللمعان الأخاذ لوجوده المتوهج لأنه لن يزيد عن لمعان النقوش فوق فخار الحياة البائدة.
هكذا يمكننا ان نقرأ قول الشاعر بلسان عشتار التي تحولت الى مجرد تمثال باهر في متحف برلين «زرقة الطلاء صماء / مكان منهك / مكان خاطئ / متعبة تقول عشتار / لأنهم أغرقوني في الحب.../ عشقت الحارس سرا / وقلت مرة واحدة كلمتين: حب ونسيان». ومع ذلك فثمة حاجة ملحة عند الانسان كي يبحث في هذا العالم الموحش عن فكرة أو حلم أو «عاصمة» للجمال تحميه من التلف والتآكل. وقد يكون الجمال نابعا من الاشتهاء نفسه لأنه، وفق سارتوريوس، «لا توجد امرأة أجمل من شدة شهوتنا لها».

شوقي بزيع
السبت 12/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع