الفلسفة المثالية الألمانية



لا شك بأن الفلسفة المادية الفرنسية تعتبر قفزة في تطور الفكر الفلسفي العالمي ولكن هذه الفلسفة، أي الفلسفة المادية الفرنسية، كشفت ضعفا مذهلا في كل ما تعرضت له بالنسبة لمسائل التطور سواء في الطبيعة او التاريخ.
فحسب رأيهم "فالإنسان لا يمكن أن يعرف كل شيء، وهو لا يستطيع ان يعرف أصله". هذا كل ما يقوله في النهاية مؤلفو "systeme de la nature" حول هذه المسألة الهامة. ولكن أحدهم وهو هلفسيوس  كان أكثر ميلا الى فكرة التطور التدريجي للإنسان فهو يقول: "المادة أبدية، لكن أشكالها متغيرة". ويذكر أن السلالات البشرية تتنوع حتى في أيامنا هذه تحت تأثير المناخ، بل انه يعتبر ان كل الأنواع الحيوانية متغيرة. لكنه صاغ هذه الفكرة السليمة بطريقة غريبة جدا. فأسباب "التباين" بين مختلف أنواع الحيوانات والنبات تكمن – من وجهة نظره – إما في خصائص أجنتها ذاتها أو في الاختلافات بين بيئاتها أو الاختلافات في "تربيتها". وهكذا نرى بأن الوراثة تستبعد التغيير والعكس بالعكس، ولم يعد هلفسيوس الى نظرية أصل الأنواع لداروين. وبنفس الدرجة لم يستطع الماديون الفرنسيون أن يفسروا ظاهرة التطور الاجتماعي، وهذا أدى الى عجز المادية الفرنسية في شرح او مواجهة مسائل التطور في الطبيعة وفي التاريخ،وهذا أدى  الى ان يصبح مضمونها الفلسفي فقيرا للغاية، ولم ينجح الماديون الفرنسيون في تطبيق مفهومهم على تفسير التطور الروحي للبشرية. واتخذ هؤلاء في فكرتهم عن التاريخ، وجهة نظر مثالية خالصة، هي ان الآراء تحكم العالم. ومثل هذه المادية في جوهرها جبرية. ولا تترك مكانا للتنبؤ بالأحداث، أي بتعبير آخر للنشاط التاريخي الواعي للأفراد والمفكرين. وكما قال "غوتة" عن هؤلاء بأن مذهبهم "جاف، كئيب وموحش". لأنها ابتعدت عن محاولة تفسير الحياة الواقعية. وكان حل هذه المشكلة الكبيرة من نصيب الفلسفة المثالية الألمانية وعلى رأسها هيغل، لأنه كان الحلقة الأساسية في تطور الفلسفة المثالية الألمانية.
وصف هيغل بالميتافيزيقية وجهة نظر أولئك المفكرين الذين يعجزون بغض النظر عما اذا كانوا مثاليين او ماديين، عن فهم عملية تطور الظواهر فيعرضونها – شاؤوا أم أبوا- أمام أنفسهم وأمام الآخرين، كأشياء منجزة، غير مترابطة، لا تستطيع ان تتحول من الواحدة الى الأخرى. وعارض هيغل وجهة النظر هذه بالجدل والذي يدرس الظواهر بالتحديد في تطورها وبالتالي في علاقاتها المتبادلة. ووفقا لهيغل الجدل مبدأ الحياة. فنحن نقول أن الإنسان فانٍ. ونعتبر أن الموت شيء يضرب بجذوره في الظروف الخارجية، وغريب تماما عن طبيعة الإنسان الحي. وينتج عن ذلك ان للإنسان صفتين الأولى انه حي ، والثانية انه ايضا فانٍ.
ولكن عند التمحيص الدقيق نجد أن الحياة، ذاتها تحمل في طياتها جرثومة الموت، وان كل ظاهرة هي بشكل عام متناقضة، بمعنى أنها تطور من داخلها العناصر التي ستضع نهاية لوجودها، إن عاجلا او آجلا وتحولها الى نقيضها.
"ان كل شيء يجري كل شيء يتغير" وليس من قوة قادرة على الحد من هذا التيار المتصل او إيقاف هذه الحركة الجدلية، ليس من قوة قادرة على مقاومة جدلية الظواهر، في الطبيعة او في المجتمع. وهنا علينا ان نتفق مع هيغل، (مع رفضنا لكل مثاليته الفلسفية وتأييده للحكم الاستبدادي لبيسمارك ، فنحن نقبل فلسفته الجدلية لا غير) الذي قال " أن الجدل هو روح أي معرفة علمية" ولا ينطبق هذا فقط على الطبيعة بل ايضا على المجتمع الإنساني. فمثلا ما هو معنى الحكمة القديمة " sum manjus summa InjriA" أقصى عدالة هي أقصى ظلم" ويعني هذا القول بأن كل عدالة مجردة حين تصل الى نتيجتها المنطقية تتحول الى ظلم أي الى نقيضها.
ولنلق نظرة الآن على الظواهر الاقتصادية في مجتمعنا المعاصر. ما هي النتيجة المنطقية "للمنافسة الحرة"؟ حيث يسعى كل رجل أعمال لسحق خصومه، ولأن يظل هو السيد الوحيد للسوق. وهناك بالطبع حالات كثيرة ينجح فيها أمثال روتشلد سابقا، والشركات العابرة للقارات في زماننا، من تحقيق هذا التطلع بسعادة. لكن هذا يوضح ان المنافسة الحرة تؤدي الى الاحتكار، أي الى نفي المنافسة، أي الى نقيضها. وهكذا كل ظاهرة- بفعل نفس القوى التي تحدد وجودها- تتحول بعد وقت او آخر، ولكن حتما- الى نقيضها.
فالفلسفة الألمانية المثالية تنظر الى كل الظواهر في الطبيعة وفي المجتمع من حيث تطورها، وهذا ما تعنيه بالنظر إليها جدليا.
كتب هيغل يقول " ان التغيرات في الوجود لا تقتصر على ان كمية ما تتحول الى كمية أخرى، وإنما تنسحب كذلك على ان الكيف يتحول الى كم. والعكس بالعكس. وكل انتقال من هذا النوع الأخير يمثل انقطاعا في التدرج ويعطي للظاهرة مظهرا جديدا يتميز كيفيا عن مظهرها السابق".
فهيغل في كل مؤلفاته ابرز على الدوام وبلا كلل، ان الفلسفة تتطابق مع مجموع التجارب، وأن الفلسفة لا تتطلب شيئا بإلحاح قدر ما تتطلب النفاذ بعمق في العلوم التجريبية.... ، فالوقائع المادية بدون الفكر ليست سوى أهمية نسبية، والفكر بدون الوقائع المادية هو مجرد خرافة.... فالفلسفة هي ذلك الوعي الذي تصل اليه العلوم التجريبية بالنسبة لنفسها وهي لا يمكن ان تكون على خلاف ذلك". من هنا علينا ان نعترف بأن هيغل كان في الواقع، وخاصة في فلسفته الجدلية (مع رفضنا لمثاليتها، كما فعل ماركس، حيث وضع هذه الفلسفة على قاعدة مادية جدلية) أقرب إلى الواقع والحقيقة وان هذا الفكر قد كشف عن بعض جوانب الحقيقة بقوة مذهلة. ويرجع الفضل في اكتشاف هذه الحقائق الى هيغل شخصيا. وبعضها الآخر لا ينتمي الى مذهبه وحده وإنما الى الفلسفة الألمانية ككل منذ عصر كانط وفلسفته العقلانية وفيخته. فعرض الجدل وسمته المميزة تؤكد "التغيير الأبدي في الأشكال، والنبذ الأبدي لشكل أوجده مضمون أو سعي معين، نتيجة لتضاعف هذا السعي والتطور الأرقى لذات المضمون...." فالأشكال تتغير على الدوام  نتيجة "للتطور الأرقى لمضمونها".
وميزة هيغل، على حد تعبير انجلز تنحصر في أنه كان اول من نظر الى جميع الظواهر، من زاوية تطورها من زاوية نشأتها وانحلالها.
وهنا يجب ان نذكر الفيلسوف الفرنسي روسو، الذي كان يفكر جدليا، وفقا لهيغل بدون ان يعرف هيغل. وروسو مشوق وهام أولا وقبل كل شيء لأنه أول من أوضح بحدة كافيه الطابع ألتناقضي للمدنية، والتناقض هو الشرط الأساسي والجوهري للعملية الجدلية.
وروسو يبرز بحدة بين كل معاصريه لأنه كان يفكر بشكل جدلي في حين كان معاصروه بلا استثناء تقريبا ميتا فيريقيين وخاصة فكرته عن عدم المساواة، هي بالتحديد فكرة جدلية. فروسو يقول بأن المجتمع المدني قام على أنقاض العلاقات البدائية التي أوضحت انها غير قادرة على الاستمرار في الوجود. فهذه العلاقات كانت تحوي داخلها جنين نفيها، وكأنما روسو وهو يعرض هذه القضية يوضح مقدما فكرة هيغل ان كل ظاهرة تدمر ذاتها وتتحول الى نقيضها.
والآن المجتمع البرجوازي وخاصة أعلى مراحل تطوره أي الامبريالية، يحمل بذور وجنين نفي هذه المجتمع، وضرورة وموضوعية تحوله وتطوره إلى مرحلة وتشكيله اجتماعية أكثر تطور، ألا وهي مجتمع العدالة الاجتماعية، والمساواة المجتمع الاشتراكي. ومن مفاهيم الفكر الجدلي الألماني لهيغل بأن نشاط الإنسان الإنساني يخضع لقوانين الضرورة المادية. فالحرية تفترض الضرورة والضرورة تتحول كلية إلى حرية. فإمكانية النشاط التاريخي الحر (الواعي) لأي شخص معين تنتهي الى الصفر اذا لم تكمن في أساس تصرفات الناس الحرة ضرورة يمكن للفاعل ان يفهمها. فالضرورة هي ضمان الحرية الأكيد الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه "ففي الحرية لا بد ان تكون ثمة ضرورة".
ولكن مع أهمية الفلسفة الجدلية لهيغل، إلا أن مثالية هذه الفلسفة جعلتها كهرم يقف على رأسه، وهكذا بقيت الى ان ظهرت الفلسفة المادية الجدلية الماركسية والتي وضعت الأساس المادي للجدل، ووضعت الهرم على قاعدته المادية، ونقلت الفلسفة من وضع تفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية الى وضع تحولت الفلسفة فيه الى نظرية علمية متكاملة، موضحة ضرورة وحتمية التغيير الجذري الثوري للمجتمع الإنساني.

 

د. خليل اندراوس
السبت 12/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع