النقد الطبقي للاستشراق الامبريالي



ان العلاقة التسلطية بين الاستشراق والشرق (المتروبول والمستعمرة) على امتداد حقبة مديدة مستمرة بفضل المنحى الاستزلامي للاول والضراعة الاستسلامية للثاني، بحيث تكيف الوعي الشرقي للمهام التقبلية التي فرضتها عليه سلطة الغرب المتفوق سياسيا واقتصاديا وتبعا لذلك عقليا وحضاريا. وعلى الرغم من انحسار الاستعمار المباشر واستقلال شعوب الشرق في كيانات (دول) ذات سيادة قانونية فان التفوق الغربي بقي يمارس ايجابياته من خلال الاستعمار الجديد، الذي استبدل بالاحتلال مؤسسات سياسية مستقلة ولكن مرهونة بمصالحه العليا المتراوحة بين يوميات التبادل التجاري الشائك وبين السر الخفي الكامن في الحاق امبراطورية من طراز جديد، ترث وتستحضر كل ما خلفته امبراطوريات الماضي القريب والبعيد وتضيف اليه تعزيزات مستحدثة تستقيها من جموح الذهن التقنوي المنفلت لانسان اليوم، أي الادوات والتقنيات العسكرية وهذا ينطبق تماما على منطقة الخليج العربي وعلى اغلب الدول العربية، ونرى استعمالا حديثا لهذه التقنيات في الاحتلال الامريكي للعراق أي العودة للاستعمار الكلاسيكي منذ منتصف القرن الماضي.
ان احدث كتاب استشراقي يصدر عن مؤرخ بريطاني من الجيل الحاضر يقول مثلا في حديثه عن البحرين، ان تاريخها المكتوب لا يمتد الى اكثر من خمسمائة عام، أي الى وصول اول اوروبي الى تلك الجزر حيث بدأ تاريخ البحرين المكتوب اما مئات المصادر المدونة في العصور السابقة عن البحرين، واما دولة الفقراء العلمانية التي اقامها القرامطة في البحرين وما جاورها واستمرت مائتي عام حين كانت اوروبا تحكم بالاعدام حرقا كل من يجتهد في تأويل الكتاب المقدس فهذا كله ليس من التاريخ ما دام لم يصنع بأيد اوروبية.
ولدى البحث عن معيار للاشياء فان الادب الغربي يزودنا بالمفاتيح المطلوبة، هكذا علّمنا الاساتذة الغربيون ان نقارن مستخدمين تزمينا مقلوبا حتى فيما يقول المستشرقون انه من اخص خصوصياتنا، الشعر مثلا، حيث يتعين علينا ان نستخدم شاعرا غربيا (بصرف النظر عن زمانه لأن الزمان محذوف من ذاكرة المؤرخ الامبريالي) اذا اردنا ان ننقد شاعرا عربيا. وقبل ان تظهر مؤلفات عبد المعين الملوحي من ادب الصين وفيتنام لم نكن نملك أي رصيد من ادب الشرق يصلح للمقارنة او الاستيحاء. اما تاريخ الشرق فيمكن مقايضته لحساب التاريخ الغربي بأيسر السبل، وقبل اعوام احتفلت اوروبا بمرور خمسمئة عام على اختراع الطباعة دون ان يسأل احد عن مصير سبعمئة سنة اخرى من تاريخ الطباعة في الصين وكوريا. وليس امام الشرقي، لكي يثبت حضوره في التاريخ. طه حسين احد مؤسسي الفكر الحديث في العالم العربي، ان الثقافة العربية هي غربية لا شرقية فانه يكرس رغبة دونية الدارجة في الحضور التاريخي من خلال الغرب او لعله اراد ان ينقذ هذا الوضع المأساوي واراد ان يغير ما استطاع. ان المثقف الشرقي يشعر بالضيق من انتمائه الجغرافي، فلتحديث الصين لا بد من الارتماء في الاحضان الدافئة المتروبول ولا بد من ايصال اللغة الانجليزية الى اعماق الريف الصيني الذي جعلته الثورة الاشتراكية ينتج من المحاصيل ما يغني اكثر من مليار نسمة من استيراد غذائها دون ان يعرف أي شيء عن "بجاحة" الامريكان.
ولكي تنهض مصر فعلى المثقف المصري ترحيلها من خارطة افريقيا الى اوروبا ولكي تتمدن وتتطور الجمهورية اللبنانية لا بد لها ان تتحول الى مقاطعة فرنسية. وعلى الشرقي لكي يعرف نفسه ان يستشير مؤلفا غربيا، ولقد لقي الكتاب الخرافي الهزيل لرفائيل باتاي "الذهن العربي" من الرواج بين العرب القارئين للانجليزية ما لم يلقه بين القراء الانجليز انفسهم.
الشرق الحديث كما يقول ادوارد سعيد يشارك في شرقنة نفسه، وألمع الباحثين والاكاديميين العرب لا يزيدون على هذا الدور الا قليلا فهم تلامذة جامعيون للسيد هاملتون جيب وبرنارد لويس ولويس ماسينيون وزملائهم. ففي واحد من ابرز الكتب في تاريخ الاسلام الاقتصادي يردد عبد العزيز الدوري نظرية فلهوزين عن الضريبة في الاسلام ومفادها ان العرب في العصور الاسلامية لم يعرفوا الضريبة وانما عرفوا الاتاوة حتى اتصلوا بالبيزنطيين فتعلموا منهم مفهوم الضريبة وقسموها الى جزية وخراج وبعد صدور كتاب دانيا دينين (الجزية والاسلام) والذي دحض فيه نظرية فلهوزين، ردد عبد العزيز الدوري نظرية المستشرق الامريكي وقال ان العرب عرفوا الضريبة قبل ان يعرفوا البيزنطيين!!
لوقف هذا الانحدار الاستشراقي الخطير في الفكر والتاريخ والحضارة والفن العربي وضع ادوارد سعيد كتابه الاستشراق ومع ان كتابا لا يمكنه، مهما بلغ من اتقان، ان يهدم كل عروش الحديد والنار التي اقامها الاستعمار الثقافي في رؤوس العرب ولكن لكتاب الاستشراق تأثيرا عظيما في وقف هذا الانحدار. ان عمق التحليل، المستند الى كمية هائلة من المواد ولغة حيّة متدفقة وبالارتهان الى تطلع موثق الى استخراج مدلولات خطيرة مخفاة في اغوار البحث المبرمج بالمهارة العالية للاستذهان الغربي يعطي هذا العمل الفذ قوة تأثيرية ظاهرة. كتاب الاستشراق يكشف براعاته العديدة عن الوان التحايل المعرفي التي ابتدعت لتسهيل استعمار الشرق ويمتلك ادوارد سعيد تماسكا منهجيا تلائمه فيه براعة التحليل النفسي التي طغت على استبطانه للنصوص مع الربط المحكم لظاهرة الاستشراق بميدانه الاصلي: الاستعمار يفتش ادوارد سعيد عن الجذور فيذهب الى دانتي وعصره حيث البحث عن الشرق ملزوم بنزعة الامتلاك المتأصلة في الوعي الاوروبي. يأخذ البحث عن الشرق امتداداته المحمومة مع اولى الغزوات الاستعمارية وخلافا لمثقفي العصور الوسطى وعصر النهضة الذين تقبلوا التلمذة للشرق دونما عقد مسبق يتحدث ادوارد سعيد عن سلفستر دي ساسي، ابو الاستشراق الفرنسي، فيبرزه رمزا مبكرا للتعاون بين المستشرق وجيوش الغزو. وتستمر الثوابت نفسها مع آخر مستشرق فرنسي عظيم، لويس ماسينيون، الذي امضى شطرا من حياته موظفا في الوزارة نفسها. ولم يكن ادوارد سعيد ليغفل عن مواهب ماسينيون الذي تحدث عنه دون ان يخفي اندهاشه بروعة الاعمال التي انجزها، لكن هذه المواهب العالية لم تكتب للشرق اكثر مما كتبت لفرنسا والمتروبول الغربي وهي تنتهي الى جعل الشرق العربي روحانيا، ساميا، قبليا ووحدانيا بصورة جذرية ولا آريا، ويشكل هذا الوصف لمقررات ماسينيون العربية اساسا لتلك الدعوة التي وجهها موظف الخارجية الفرنسي الى دولته لكي تقف في وجه الانجليز وتمنعهم من الانفراد "بخدمة" العرب والدفاع عن ثقافتهم التقليدية وقاعدتهم الانتروبولوجية الراسخة. مستندا الى فهم اوعى للأهمية البالغة للعوامل الاقتصادية يلفت ادوارد سعيد انتباهنا الى ما يسميه "صدمة ايقاظية" تتمثل في وجود عشرات المؤسسات في الولايات المتحدة الامريكية لدراسة الشرق العربي متزامنة مع تركز قاعدة عائدات النفط العربي، ناهيك عن التسويق والبحث والادارة الصناعية في المتروبول الامريكي ضمن علاقة تبعاتية وتعبوية يصبح فيها الاخير زبونا مختارا لعدد ضئيل جدا من المنتجات (النفط واليد العاملة الرخيصة) بينما يصبح العرب مستهلكين شديدي التنوع لمقادير هائلة من المنتجات الامريكية المادية والايديولوجية، وهنا بالضبط يبلغ الاستشراق ذروة الازمة الى الحد الذي يمنعه ان يكون شيئا آخر غير ما عليه منذ الولادة ومن هنا فالحرب على الاستشراق هي جزء من المعركة الجارية ضد آخر الامبراطوريات في التاريخ، الولايات المتحدة الامريكية ونحن ندمر الاستشراق بقدر ما ندمر علاقاتنا بتلك الامبراطورية وحرب العراق الاولى والثانية هي خير مثال على ذلك فكل ما طلبه صدام حسين والعراق في الحرب الاولى هي ان تقلل الكويت انتاجها للنفط وتجعله مرتهنا بقرار عربي لانتاج تصدير النفط، وكان هذا سببا كافيا للحرب على العراق وتدميره بعد ذلك في الحرب الاخيرة.
الى هنا يكون قد اوصلنا معلمنا ادوارد سعيد الى فهم حقيقي للاستشراق الامبريالي واعطانا آليات تحليل دقيقة جدا ندر ان وجدت من قبل حيث يمكننا ان نستشف مستقبل الدول العربية في ذروة الاستشراق بدقة متناهية حيث ان أي دولة عربية تكون بمثابة حجر عثرة للامبراطورية الجديدة وفق التصور الاقتصادي ستجابه مصير العراق ويمكننا ان نلاحظ هنا انه يمكن لسوريا ان تتخطى هذا المصير لا لشيء سوى انها لا تتعدى ولا تؤذي المصالح الاقتصادية الامريكية في الخليج العربي وبالذات عدم قدرة سوريا او ارادة سوريا ان تتحكم في مصير النفط العربي.. ولكن وبالرغم من هذا فان نقدنا الطبقي للاستشراق يتأتى في الجوانب الآتية:
لم يستطع ادوارد سعيد تخطي القيود المنهجية للوسط الاكاديمي الذي ينتمي اليه ويبدو ذلك واضحا عندما يحصر ازمة المنهج الاستشراقي في دائرة العلاقة الاستعمارية المتعالية مع الشرق دون ان يعطي اهتماما لعوامل الخطأ المشترك حين المستشرق والمؤرخ الغربي بوصفها نتاجا للوسط الثقافي نفسه. ومع انه لا يلبث ان يضع يده على جرح نازف حين يصف علم التاريخ الغربي كمنهج للعموميات المضخمة المأخوذة من وقائع جزئية محدودة جدا فهو لا يشعر بحاجة ملحة الى نقد الاتجاه المثالي البالغ التسطيح الذي تخضع له دراسة كل التاريخ في الغرب، الامر الذي يؤدي بالبعض ان لا يفرق بين تأميم البلاشفة للارض وبين الاصلاح الزراعي الذي يطبقه الضباط والبلطجية في بعض الدول العربية.
وقع ادوارد سعيد في العمومية المضخمة حين سحب تقريراته عن الاستشراق على الفيلسوف والمفكر العالمي كارل ماركس. ومع ان هذا متوقع من مفكر لا يشاطر ماركس همومه الطبقية ولكنه لا يعفينا من مناقشته. قراءة صحيحة لماركس فيما كتبه عن الشرق تكشف الفاصل الكبير الذي يساعد بينه وبين مواطنيه الخاضعين بحكم العادة لمنشئهم الانتروبولوجي الخاص بهم. والاساس هو بلسان من يتكلم كارل ماركس.
ان فيلسوفا عظيما مثل هيجل ما ان يتحدث عن الشرق حتى تراه بمنزلة الصحفي او اقل، هكذا كان هيجل في حديثه عن الفلسفة العربية الاسلامية، كما في اشارته العنصرية الى اللغة الصينية. ومما يتميز به كارل ماركس انه يتكلم بلسان البروليتاريا العالمية، نازعا من قاموسه اللغوي مفرداته الغربية لحساب منطق عالمي شامل، وهو يتمثله لمنطق البروليتاريا العالمية لم يعد قادرا على التكلم بلسان اوروبي ويصعب علينا، في الواقع، ان نعثر على مكانة مصممة للغرب كمفهوم مركز – ذاتي – في كتابات ماركس وانما نجد اهتماما بمشكلات تطور الشرق المرتهن عنده بمسألتين: الثورة البروليتارية العالمية وامتدادها المحتوم خارج اوروبا ومسألة توفر الشروط اللازمة لذلك في الشرق انطلاقا من ظروفه الخاصة وهذا هو مربط الجمل كما يقال عندنا في العامية، ولكن بالاستناد الى المبدأ العام نفسه للثورة العالمية. وهذا المبدأ كان يمكن ان يقنّنه فيلسوف شرقي لو توفرت البيئة الاجتماعية الاقتصادية والفكرية التي انجبت كارل ماركس كما يقول ماركس نفسه.
ولكن هذه البيئة لم تتوفر الا في اوروبا ولو قُدر لثورة رأسمالية ان تحدث في العالم العربي نتيجة لتطور الحضارة العربية او في الشرق الآخر نتيجة لتطور الحضارة الصينية والهندية لكان من المنتظر ان لم يكن محتوما ان يظهر ماركس شرقي يتكلم العربية او الصينية او احدى لغات الهند ليؤدي الدور ذاته الذي يؤديه ماركس الغربي في آسيا.
كما هو معروف فان الاستشراق الامبريالي زائل مع الاستعمار، زائل كمنظومة عقائدية احتاجها الغرب الاستعماري في سيرورته المديدة لاستعباد الشرق ولكن الغرب قد يتحول. وهو مثلما تمخض عن فيلسوف غير غربي (أي غير امبريالي) في شخص كارل ماركس يمكن ان يتمخض عن علم تاريخ جديد اممي الآفاق. يصدق هذا الحكم مع ظهور مستشرق عملاق هو كراتشكوفسكي بعد الثورة البلشفية، وقد اظهر تحت تأثير هذه الثورة قدرة خارقة على التحرر من موروث الاستشراق الامبريالي فكتب بروح اممية عالية من خلال منهج اكاديمي صارم يضعه في عداد العلماء والافذاذ، فكراتشكوفسكي لم يرث الا القليل من تقاليد عصر الاستشراق الامبريالي وانما تطور ضمن خط الثقافة البروليتارية وهي ثقافة ناشئة لم تناهز المئة عام (الثقافة البرجوازية عمرها يزيد على الخمسة قرون). الموجه لماركس بخلاف الاستشراق الامبريالي هو النزعة الاممية وبسبب المستوى الراهن للثقافة البروليتارية يعجز الكثير من المؤرخين الماركسيين، لا سيما في الشرق، عن استيعاب الطريقة التي عالج بها ماركس وانجلز ومن بعدهما يليخانوف ولينين، القضايا المتعلقة بالتاريخ وكيفية تحليلهم للمدلولات والمواقف المختلفة التي تتشكل منها أي ظاهرة تاريخية بسبب البيئة الثقافية الاجتماعية التي اوجدت هؤلاء المفكرين.
كما هو معلوم فان اتجاه العمالة أي العمال هو من الشرق الى الغرب وليس العكس، مداخلات ادوارد سعيد الاستشراقية في هذه المسألة تبقى في حاجة الى شيء من التخصيص الطبقي، لأنه تحدث عن الشرقي فأوحى بشمولية الشرقي بعيدا عن الاختلافات الطبقية والحقيقة انه لو امعنا النظر في الفئات الاشد اندماجا بالغرب لوجدناها في تلك الطبقات التابعة التي لم تلدها ام شرقية، ان عميل الغرب هو البرجوازية بلواحقها المتنوعة والعديدة، الغرب لم يجد عاملا شرقيا او فلاحا شرقيا مستعدا لخدمته وانما وجد التجار و"المثقفين" وعامة الاغنياء الذين اعتدنا ان نسميهم برجوازيين او ارستقراطيين فهؤلاء وحدهم الذين عرفوا الغرب، درسوه واستمتعوا بخيراته، قلدوه وادخلوه في رؤوسهم وبيوتهم ولفوه على اجسادهم. اما العامل الشرقي والفلاح الشرقي فقد بقي لا يعرف من الغرب شيئا ولا يتمتع بشيء من فضلات حضارته وهو بالتالي لم يحصل على المؤهل اللازم للاقتران به. وللايضاح اكثر فان البرجوازية الشرقية ليست في الواقع شرقية لأنها، عدا اليابان حصرا، لم تتكون نتيجة تطور محلي. فهي برجوازية تجارية في الاساس بينما البرجوازية الاوروبية هي صناعية أي منتجة والمنتج هو الاصل والوسيط تابع، وتصح هذه العلاقة على كل بلد شرقي لم يشهد ثورة صناعية وهذه الفوارق الطبقية، لم يحسن الاستشراق السعيدي فصلها وتوظيفها او انه كان يغفلها سهوا او عن قصد لغاية في نفس يعقوب.

(كابول)

محمد جمل
السبت 12/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع