بين التهدئة والتصعيد



في البدء لا بد من التأكيد على أن مجمل الأحداث والتطورات والظواهر المختلفة  في العالم مترابطة، ولا يمكن فصل ما يجرى على الساحة الفلسطينية عن التطورات على الساحة العربية والإقليمية والدولية.
إنّ ابرز التحديات التي تواجه شعبنا الفلسطيني في هذه المرحلة، هي استمرار الاحتلال الاسرائيلي، والعدوان المتواصل، وبناء الجدار العنصري، وتهويد القدس، واستمرار نهب الاراضى والحصار على الشعب، واعتبار خطة الفصل الاحادي الأساس لعملية السلام، وحصار غزة، واعتبارها كيانا معاديا، وإعلان الحرب العدوانية على أهلها، ومحاولاتها المحمومة للتأثير على المجتمع الدولي في مواجهة الإرهاب هذا في الوقت الذي تزداد معها التحديات على المستوى الاقليمي في المنطقة والذي يتمثل بالعربدة الأمريكية وتزايد هيمنتها وعدوانيتها، وتعميق تحالفها الاستراتيجي مع إسرائيل، ومحاولاتها المحمومة لإعادة ترتيب أولويات المنطقة، بما ينسجم مع المصالح الأمريكية النفطية والعسكرية.
ورغم الهجمة الشرسة التي يتعرض لها شعبنا الفلسطيني، فإنّ كافة الممارسات الإسرائيلية على الأرض الفلسطينية قد فشلت في تغييب القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني وليست قضية إنسانية، ولا زالت القضية الفلسطينية تتصدر ابرز القضايا الحساسة في العالم وفي المنطقة بسبب تأثيرها المباشر وتأثرها في الوضع الاقليمي وحتى العالمي. وتسعى الإدارة الأمريكية لمعالجة القضية الفلسطينية بالتواطؤ مع السياسة الإسرائيلية التي تهدف لخفض سقف مرجعية القرارات الدولية، واستبدالها برؤية الرئيس بوش والضمانات التي قطعها على نفسه لشارون عام 2004، والتأكيد على يهودية إسرائيل.
إن حركة التحرر الوطني الفلسطيني بسبب طبيعتها التحررية والدمقراطية ونزعتها للاستقلال الوطني الحقيقي، لا يمكن أن تنفصل موضوعيا عن المحيط الواسع للقوى المناهضة للسياسة الأمريكية في العالم، وهي ترتبط موضوعيا بقوى مقاومة التطبيع والهيمنة الأمريكية الإسرائيلية على المنطقة.
ان حجم التحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني وقواه السياسية والمجتمعية كبيرة، وشعبنا الفلسطيني اليوم يعيش أحلك مراحل الكفاح الوطني بسبب التغيرات الكبيرة على الساحة الدولية والإقليمية والعربية التي أثرت بشكل مباشر أو غير مباشر على القضية الفلسطينية، وبسبب فقدان البوصلة الحقيقية للحركة الوطنية الفلسطينية، وافتقارها لبرنامج موحد، بإمكانه توحيد الشعب الفلسطيني، والاستفادة من إبداعاته وتضحياته، وفشلها في التعاطي مع المتغيرات في العالم بروح التمسك بالثوابت الوطنية، وتزايد حدة التناقضات الداخلية التي أفقدت القضية الفلسطينية بعدها الجماهيري والشعبي.
لم تشهد القضية الفلسطينية في تاريخها المعاصر والحديث هذا الانقسام العمودي والافقي، الذي طال كل بيت وحارة ومؤسسة وجامع، والتي تحتاج لمسؤولية عالية من أجل إعادة النسيج الاجتماعي والوطني إلى طبيعته، ووضع استراتيجية جديدة لمواجهة العدوان، وإنهاء حالة الانقسام والانفصال.
إن إحدى أولويات الإستراتيجية الوطنية في نقد التجربة التفاوضية وإعادة النظر في محتواها وشكلها بروح من المسؤولية والحرص على المشروع الوطني، ومعرفة لماذا لم تنجح المفاوضات طيلة السنوات الماضية في إجبار إسرائيل على التخلي عن برنامجها الاستيطاني؟ وربطها بما يجرى على الأرض من وقائع جديدة جوهرها الصهيوني العدواني ونهب الأرض، وتعزيز الاستيطان، وبناء جدار الفصل العنصري وتهويد القدس، والإمعان في محاولات إذلال الشعب الفلسطيني وفرض عزلة دولية عليه، وحصاره وكسر مقومات صموده هذه لا يمكن فصلها عن الواقع وتداعياته الخطيرة على الوجود الفلسطيني، ولقد بينت تجربة المفاوضات خلال الفترة السابقة التي فشلت في تحقيق أهداف شعبنا ولهذا فإننا ندعو مرة أخرى إلى تجميد المفاوضات مع الجانب الاسرائيلى وربط استئنافها بوقف الاستيطان وبناء الجدار والتوقف النهائي عن الاجتياح والاعتداءات اليومية التي تمارسها سلطات الاحتلال، ومطالبة المجتمع الدولي للتدخل من اجل إلزام إسرائيل بتطبيق  قرارات الشرعية الدولية، وان خارطة الطريق لا تشكل مدخلا حقيقيا لانجاز التقدم السياسي.
وعلى الجانب الأخر لا يمكن النظر إلى إطلاق الصواريخ كشكل مقاوم وحيد وبشكل منفصل عن الواقع المأساوي وتداعياته الحياتية على الشعب الفلسطيني خصوصا في غزة، وما تحدثه من تضحيات وخسائر فادحة جراء ردات الفعل الصهيوني على إطلاقها، والترويج وكأن العمل المقاوم في تعارض مع العمل الجماهيري والشعبي،  وإذا كنا نؤكد أن الظواهر والأحداث مترابطة وكل منها يؤثر في الآخر، فإننا نقول إذا كانت تجربة المفاوضات عبر الفترة السابقة لم تحقق أهداف شعبنا، وفشلت في إحداث تغيير جوهري بسبب عدم جدية الاحتلال الاسرائيلي، وتهربه من استحقاقات عملية السلام، وبسبب غياب الإستراتيجية الحقيقية للمفاوضات وعدم تطبيق قرارات الشرعية الدولية، فإن إطلاق الصواريخ أيضا لم يحقق الهدف على الرغم من  التهويل الاعلامي، وعملية الخداع والتزييف، وكأن ميزان الرعب قد تحقق، بل على العكس زادت معاناة الشعب الفلسطيني، ولم تقرب شعبنا من تحقيق أهدافه وأفقدته بعده العربي والدولي، ووصمت شعبنا بالإرهاب.
إن المخرج الحقيقي هو الجمع الناجح بين عملية التفاوض والفعل الشعبي، والانتفاضة الشعبية والجماهيرية التي فقدت قوتها ودافعتيها، وإن هناك حاجة  وضرورة موضوعية ومهمة وطنية لنعيد للانتفاضة الشعبية دورها الحقيقي، ووأن نتوقف عن العمل الانفرادي والأجندات الخارجية، وتشكيل جبهة مقاومة موحدة بمرجعية سياسية كما أكدت عليها وثيقة الوفاق الوطني. لقد تأثرت الانتفاضة وتحولت من انتفاضة شعبية وجماهيرية ذات أهداف محددة باتجاه العسكرة وتضارب الأجندات والأهداف، وألحقت ضررا وتأثيرات سلبية على وضع القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وفرضت عليه طابعا دفاعيا بدل أن تحافظ على طابعها الهجومي استنادا إلى الحق المشروع في النضال والمقاومة باعتبارها حركة تحرر وطني. لقد استغلت إسرائيل العمليات التفجيرية رغم روح التضحية العالية لمنفذيها لتنفيذ أخطر مشروع توسعي عنصري في بناء الجدار العنصري وفى عملية ضم الاراضي والحصار المتواصل.. أليس من الواجب إعادة النظر في هذه الأساليب والبحث عن ابداعات أخرى لمواجهة الاحتلال تستند إلى الجماهير؟؟
إن المعركة الحقيقة ليست في غزة، وإلا لماذا انسحبت إسرائيل منها؟ إن المعركة الحاسمة والحقيقية في الضفة الغربية التي تحاول إسرائيل تطويقها وابتلاع أكبر مساحة منها، وضمها إليها، وتقسيم أوصالها وتحويل شعبنا الفلسطيني إلى مجموعات سكانية، تجري محاصرتهم وتحويلهم  تحت الضغط والحصار إلى البحث عن الضرورات المعيشية، وإفقاد القضية الفلسطينية بعدها التحرري والاجتماعي، وما يجري في غزة الآن لا يمكن تسميته إلا تساوقا في عملية حرف النضال الفلسطيني الموحد عن المعركة الحقيقية بوعي أو بدون وعي، وبدلا من أن تتحول غزة إلى إسناد حقيقي للنضال والكفاح في الضفة الغربية لمواجهة مشاريع الضم والقضم،  فإنها باتت تشكل خنجرا في خاصرة الوطن.
أمام هذا الواقع والإحداث التي تهدد ليس القضية الفلسطينية فحسب بل والوجود الفلسطيني على أرضه، والمحاولات المحمومة لإجراء عمليات الترانسفير إما عبر البوابة المصرية أو الأردنية، فإننا ننظر إلى التهدئة الشاملة في الضفة الغربية وغزة  كمعركة نضالية تتطلبها المصلحة الوطنية، وتثبيت الشعب الفلسطيني على أرضه، خصوصا أن الحركة الصهيونية تعيش على الإرهاب والعدوان، والتوتر الدائم، وتحتاج لذرائع لاستمرار عدوانها على الشعب الفلسطيني، وتتهرب حكومة إسرائيل  من استحقاقات عملية السلام، والتهدئة ليست في مصلحتها، ولهذا فإننا مع التهدئة الشاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة، ورفع الحصار الجائر عن شعبنا، والتهدئة في نظرنا لا تعني بأي حال من الأحوال التوقف عن مقاومة الاحتلال، بل تتطلب إعادة الاعتبار للفعل الشعبي والجماهيري، وتطوير الانتفاضة التي توقفت فعاليتها بسبب الأدوات غير الناجعة، والحسابات الضيقة، ولإفساح المجال لكل القوى الوطنية والجماهير الشعبية ومكونات المجتمع الفلسطيني للإسهام في دورها، بعد أن جرى تعطيلها وتحييدها وإخراجها من ساحة الصراع، وخصوصا أن نموذج قرية بلعين الكفاحي أثبت جدواه برغم عنف الاحتلال وجبروته، كما تتطلب الساحة الفلسطينية فورا إنهاء حالة الانقسام بأسرع وقت ممكن، والتجاوب مع المبادرة اليمنية، بروح من المسؤولية العالية، وتوحيد قوى شعبنا في مواجهة العدوان والاحتلال المتواصل على شعبنا.

(غزة- فلسطين)
talat_alsafadi@hotmail.com

طلعت الصفدي
السبت 12/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع