الاحتلال وسرطان العنصرية



لا يزال من غير المعروف ما ستنتهي إليه "كشوفات" المخابرات الإسرائيلية، التي سُمح بالنشر عنها أمس، وبضمنها توجيه تهمة إلى عاملين فلسطينيين بـ"التخطيط" للقيام بتسميم زبائن مطعم يعملان فيه في مركز البلاد. مع هذا فقد توالت فورًا فبركة تعابير التهويل والتخويف والتحريض، إبتداءً من وصف الشبهة (وهي لا تزال شبهة!) على "أنها عملية إرهابية استراتيجية"، مرورًا بالتحذير من استمرار وجود عمّال فلسطينيين في إسرائيل وانتهاءً بإطلاق دعوات لمقاطعة المحلات التي تشغّل عربًا.

 

التعابير أعلاه تجسّد خلاصة ما يجري سياسيًا. فأجهزة الدولة، عبر قصص الرّعب التي تسوّقها لرأي عام سريع الانفعال والتوتّر وفقدان الأعصاب، بمعظمه، تساهم مباشرة في إذكاء النزعات العنصرية في المجتمع الإسرائيلي. فقبل أسابيع قليلة تراكمت الدعوات والمحاولات العنصرية لمنع تشغيل عرب، بعد العملية في كلية دينية، استيطانيةِ التوجّهات، في القدس.
في الوقت نفسه، تتواصل الإجراءات لسنّ قانون في الكنيست يفرض عقوبات على من يقوم بتصليح سيارته في الضفة الغربية المحتلة، علمًا بأن إسرائيليين غير قلائل يختارون ذلك لأسباب اقتصادية.

 

إن هذه التفاصيل التي تبدو متفرّقة، هي عمليًا متراكمة ومتكاملة. يكفي قليل من التمعّن للاستنتاج بأنها فصول إضافية ضمن سياسة الفصل الرسمية المُعلنة، وأكبر تجسيداتها الملموسة، ماديًا ورمزيًا، هو جدار الفصل العنصري/جدار الضم الاستيطانيّ.
هذه السياسة، التي اشتدّت بضراوة بعد فشل محاولة فرض الإملاءات في "كامب ديفيد" 2000، لم تتوقف. بل إنها باتت تلك التي تجتمع حولها الأحزاب الثلاثة الكبيرة، كديما، العمل والليكود، إضافة الى أحزاب اليمين على اختلافها، أي غالبية الخارطة السياسية الإسرائيلية. إن هذه السياسة تشكّل بمجملها قرارًا رسميًا واضحًا بمواصلة التعنّت السياسي والبطش العسكري، ورفض الاقتراب من قضايا الصراع الحقيقية: إنهاء الاحتلال كاملا بما يشمل المشروع الاستيطاني المنبثق عنه، الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، واحترام وتطبيق حقوق اللاجئين بموجب القرارات الدولية ذات الصلة.
من داخل هذه العقلية وهذه الممارسة تنشأ ظواهر عنيفة بحق عمال فلسطينيين، وأصحاب مصالح فلسطينية، هم أصلا ضحايا لهذه السياسة قبل كل شيء. وهي ظواهر تقوم بإنتاجها الأجهزة الرسمية جميعًا، السياسية منها والأمنية والاقتصادية والإعلامية. هنا، ليس الفلسطينيون وحدهم ضحايا، مع حفظ الفرق الجوهري، بل إن المجتمع الإسرائيلي يتحوّل الى ضحيّة الأجهزة التي تحكمه. وقبل كل شيء هو ضحيّة لتفشي النزعات العنصرية التي أثبت التاريخ أنها لا تقتل ضحاياها فقط، بل أصحابها وحامليها أيضًا لاحقًا. والعبر كثيرة، بعضها يجب ألا يغيب عن بال الاسرائيليين بالذات!

 

إن التعنّت الإسرائيلي الرسمي المستمرّ على تكريس مشروع الاحتلال، على الرغم من الإعلانات الشفهية عن "الاستعداد" لإدخال تغييرات شكلية عليه، يؤدّي الى تضخّم سرطان عنصري خطير في داخل هذا المجتمع ويهدّد بتقويضه. ومن هنا، فعلى هذا المجتمع أن يتدارك الأمر، وعلى أصحاب الضمائر، وكذلك أصحاب التوجهات العقلانية من مختلف الاتجاهات، القيام بدورهم سريعًا، لأن التدهور القاتل الحاصل يتفاعل بأسرع مما يتخيّلونه.

"الاتحاد"

الجمعة 11/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع