الشيخ الزحايكة يعيد الأمور الى نصابها، في يوم مقدسي بارد
على أرض جبل المكبر، حيث تسعى سلطات الاحتلال لفرض مستوطنة جديدة، اجتمع حشد فلسطيني - إسرائيلي بالهتاف والشعار والإصرار وأشتال الزيتون وكأنه يحاول ترجمة كلمات الصمود التي تحدث بها صاحب الأرض، الشيخ أحمد: "هنا مات والدي وجدي، وهنا سأظل الى النهاية"
يبلغ السيد أحمد عيد سلامة الزحايكة (84) عامًا. وهو يذكر هذه الأرض التي امتدت على المنحدر تحتنا حيث جلسنا في خيمة الإعتصام على أرض جبل المكبّر، منذ أيام والده وجدّه. "فيها كوشان تركي، أبوي وجدي ماتوا هون" يقول الزحايكة الذي يواجه سلطات دولة اسرائيل العظمى في سعيها الى مصادرة ما تبقى من الدونمات الثلاثين، لاستكمال التحضير لإقامة مستوطنة جديدة.
يقول: "سنة 84 في شهر نيسان بدأت المشكلة. الأرض كانت مزروعة بالزيتون، عمر كل شجرة 24 سنة، قبل فترة جاءت البلدوزرات واقتلعتها بدون أي إنذار. تصرفوا مثل الطرشان العميان. خلّعوا 160 عرق زيتون". اليوم، بعد المصادرة، بقيت بحوزته 8 دونمات فقط. ومع ذلك فقد باشرت سلطات التدمير الاستيطاني بوضع بنية تحتية بمحاذاتها، ماضية في غيّها لإقامة المستوطنة المخططة. هذه الدونمات المستهدفة بالمصادرة والاستيطان جرى استهدافها من طرف نقيض يوم السبت الماضي. فقد نظم فلسطينيون وإسرائيليون من حركات تقدمية مكافحة ضد الاحتلال يوم عمل واحتجاج في المكان.
حوالي الألف إنسان تجمهروا في الموقع، بعد مسيرة مشتركة من نقطة الإلتقاء حتى الموقع. وإضافة الى أدوات الاحتجاج التقليدية المؤلفة من اللافتات ومكبرات الصوت والحناجر، تزوّد المحتجّون بالزيتون.. الزيتون رمز. شجرة البلاد والأكبر عمرًا وقدرًا فيها. وحين تتحول الى مقولة نضالية فهي تصبح أقوى من كل الخطابات والتصريحات. وهذا ما ظهر جليًا حين توزع الحشد العربي اليهودي، بمشاركة من أجانب أيضًا، لغرس الأشتال الصغيرة في الأرض المهددة. سلاسل بشرية امتدت والأيدي تتناقل الأشتال بينما آخرون يعزقون ويحفرون في التربة الموحلة التي سرعان ما تحولت الى أرض مزروعة. بالطبع، لا يعرف أحد إذا ما كانت هذه الزيتونات ستثمر، فقد تعود البلدوزرات تحت حماية منظمات الإرهاب التابعة لقوى الأمن الإسرائيلية كي تقتلع وتدمّر وتخرّب. مع ذلك فالإصرار المسلّح بالزيتون لا بدّ أن يثمر، إلا إذا انهار الواحد الى مستنقعات اليأس وانضم الى منتدى اليائسين المناوبين من فنّاني التذمُّر المجّاني! ففي هذه الظروف الصعبة لا يملك من يدّعي الإلتزام والفاعلية السياسية (والوطنية والى آخره) سوى خيارين: إما محاولة عمل شيء مهما كان متواضعًا ينجز شيئًا من عمل ويبعث بعضًا من أمل، وإما التباكي الذي لا ينتج عنه سوى الإزعاج. وهذا لا يشمل طبعًا المغلوبين على أمرهم ممن لا يدّعون في الموقف ثرثرةً، بل إنه يطال فقط أولئك النخبويين (!) الذين يحلو لهم اللعب بالسياسة بجهاز التحكُّم عن بُعد، بمعزل عن الممارسة الملموسة.. (بالمناسبة، هؤلاء الأخيرون، بكسلهم الذهني وشللهم العمليّ ونشاطهم الإستعراضي، يتحملون قسطًا وافرًا في جريمة إشاعة الإحباط العام). الثوري، هكذا تعلمت، مسؤوليته البحث عن أفق بين الممكن والمنشود حين تتوحّل الأحوال، وليس زج الناس في الوحل. أقولها على سبيل الملاحظة فقط!
كلمات الزحايكة الواضحة البسيطة النقية من التبجّح كأرضه تمامًا. لا تقتلها الإستعراضات ولا كلمات الإستثمار النفعي للأمد الأناني البعيد. كلا، فمن الزحايكة تتعلّم قوة البساطة وأخلاقية الصمود غير القائم على المعونات الأجنبية المشبوهة، التي تعجّ البلاد بمتلقّيها الثوريين جدًا جدًا.. جدًا! الزحايكة يكشف هشاشة ادعاءات هواة العمل السياسي الذي تُصرّف قنواته الى غدد الأهمية الذاتية. الزحايكة بسنوات عمره العريضة يكشف كذبة اريئيل شارون، الذي زعم في خطابه الرنّان (هرتسليا، 18 الجاري) أنه أوقف بناء المستوطنات. فها هي أذرع نظامه العنيف تعدّ العدّة لزرع قنبلة استيطانية موقوتة جديدة هنا، في جبل المكبّر (الذي يحمل اسمه منذ كبّر فيه الفاروق عمر). الزحايكة، هذا المسن الوقور المصرّ على الصمود بطريقته، يُطلق بلاغًا مؤثّرًا يعيد الأمور الى نصابها: قد يراهن المحتلون على الكثير، لكن الورقة الرابحة ستظل تلك الملتصقة بالكوشان إياه. وثيقة علاقة الإنسان صاحب الأرض والحق، بأرضه وحقه. وهو، من الكرسي المطلّ على الأرض الموحلة التي واصل فيها هذا الحشد المتواضع زراعة الزيتون، يجعل من كل الكلام الكبير مجرد هوامش هزيلة تحت النصّ الأقوى: "ليس لدي أي مكان آخر. والدي وجدي توفيا هنا، في هذه الأرض، وأنا سأبقى فيها وأموت فيها" - قال الشيخ الزحايكة ببساطة تبعث بالدفء في هذا اليوم الشتوي المقدسي البارد.
هنا تتعلم درسًا في الصمود ممن يصنعه بالممارسة بل بحياته وأنفاسه، وليس من أي متبجّح مهما سطع بريق شخصه الكريم!