قصة قصيرة
عين مزاريب



إرم الابرة بترِن، خيّم الهدوء والسكينة على الجميع صغارا وكبارا، كأنهم يتوقعون نبأ هاما عن وقوع انقلاب عسكري في احدى الدول المجاورة، ليقضي على الغش والفساد الذي استشرى وتمادى لأبعد الحدود، ولم يعد يطاق ولا يحتمل، فبات معظم الاهالي لا يلوون على شيء، وكثيرا ما يقضون يومهم نياما كالكلاب حين تجوع، بعيدا عنكم، وهناك من ينام ليلا على ريق بطنه، ولا بأس فلتتناحر، تتشاجر، تتصادم، وتتضارب المصارين ما بين الامعاء الغليظة، الدقيقة، المريء والبنكرياس وحتى تلك التي يطلقون عليها "مطلّقة السبعة".
ابو محمود، انه شيخ كهل، قارع الحكم العثماني البائد وايام "السفربرلك" وكان نصيبه من قرعة "الاربعتش" وسيق الى "اليمن السعيد" قبل عهد الامام يحيى الذي لم يحي ولم يحيَ، ادى ابو محمود فريضة الحج، لأنه استطاع الى ذلك سبيلا، انقطعت اخباره طيلة سنوات، وظن البعض انه امسى في عداد الشهداء او المفقودين او الاسرى، يحدثك عن "القروانة" ذاك الاناء الواسع الذي يتناول الجنود جميعا طعامهم منه، بواسطة الايدي، لا حاجة "لخاشوقة" او ملعقة او زلفة!
ثم يحدثك عن الطرّة الحميدية والسلاطين عبد الحميد، رشاد ومحمود وغيرهم!! دون التدقيق والاهتمام بالتسلسل الزمني بينهم، بطيخ يكسّر بعضو! كلّو تركي، عصملّي!! ثمة نقلة سريعة حادة الى وعد بلفور المشؤوم، والى ثورة "البلشفيك" في بلاد المسكوب ما بين لينين وستالين وشنبيه الغزيرين اللذين يذكران بشنبات الاخوة "اليوانحة"، حيث يطلقون لها العنان، تمشيا مع تعليمات المنظمات الخضراء، الذين يفضلون راحة الزواحف، الحشرات، الحيوانات والنباتات على راحة بني البشر، اصحاب الزرع والضرع والقلع! في ارض الآباء والاجداد.
ولا ينسى الحربين العالميتين الاولى والثانية، وما تخللهما من حشد طاقات، حروبات دامية، قتلى بالملايين، دون رادع من ضمير، ثم ثورة الشريف حسين، والثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان الاطرش، بُعيد الانتدابين الغاشمين: الانجليزي والفرنسي على بلدان الشرق الاوسط، وتقسيمها الى مناطق نفوذ طبقا لمصالحهما الاقتصادية والسياسية.
ولا يغيب عن باله: احداث الخليل وصفد 1929 وثورة البراق، والمناوشات والاضطرابات بين العرب واليهود، وعمليات شد الحبل والعضلات والاستحكامات. لقد عايش شهداء الثلاثاء الحمراء: فؤاد حجازي، عطا الزير ومحمد جمجوم وقرأ الفاتحة على ارواحهم في مقبة النبي صالح العكاوية التي لا تخشى هدير البحر مهما زمجر وشنغر! كيف ينسى ابو درة، ابو ابراهيم الصغير وابو ابراهيم الكبير، والثائر فؤاد علامة وعز الدين القسام والقائمة طويلة جدا جدا.
انه شاهد على توالي القرن التاسع عشر والقرن العشرين بتمامه وكماله، ومطلع القرن الحادي والعشرين، وهذا ليس من نسج الخيال وبنات الافكار او المطالعة، فهو امي الحرف والكلمة، لكنه ذكي لبيب نجيب بالفطرة وعلى السليقة، يلتقطها ع الطاير، حتى لو كانت في فم الطير!! محدّث لبق، ألبق من حكواتيي العصور الغابرة!
لديه الكثير مما يقوله عن جيش الانقاذ، "يسميه البعض الاركاض" من الركض، جرابه يطفح كجراب الكردي بأخبار: فوزي القاوقجي، اديب الشيشكلي، شكيب وهّاب، الجنرال طه، وذاك الذي يقول: ماكو اوامر!! حتى الامير حمود الفاعور، والجلبوط، في منطقة الحولة، ويعرّج على "الاصبح" الذي استشهد في معركة الجبل بين حرفيش والبقيعة، وذاك الذي كان في الخالصة، وسمسر على الاراضي العربية، حتى قُتل من قبل اسياده، الانكشارية الجدد، ملحهم على ذيلهم!!
قاطعه احد ابناء الرعيل الخامس بعد حفيد الحفيد، ببعض الوقاحة وعدم الاحترام، كشأن الذين لم يرضعوا من اثداء الامهات، بل تربوا على النيدو، سيريلاك، نستلي ولافاشكيري، الذين لم يُحلب في عيونهم ابدا، فشبوا كالسعادين والشياطين، والعياذ بالله!!
- يا جدّ جدي، هاي الخبار في الكتب، عَ الانترنيت، اكل الدهر عليها وشرب، حدثنا عن "عين مزاريب" التي روت عطاشك انتَ واجداد اجدادك، وكانت المنهل الاهم في تربية تلك الاجيال، قبل عهد المياه المعدنية!
سوّى جد الجد هندامه، فتل شاربيه وعنقرهما لولبيا ودائريا، دون الحاجة الى معجون "بريلينتكريم" او "نيفيا كريم" وغيرها من مستحضرات "ماكس فاكتر" او "بنينا روزنبلوم"، ثم مشّط لحيته (كريمته) التي تزيده وقارا على وقار، بياضها انصع من ثلج جبل الشيخ، حرّك عينيه كعيني زرقاء اليمامة، بسمل وحمدل، عوذل وحوقل، تناول سبحته ذات التسعة والتسعين من اسماء الله الحسنى، مع شواهدها وشرّابتها وحبّاتها العنبرية "الكاربة" في خيط مشموع لا يُحرق ولا يغرق، فقال: نبع عين "مزاريب"، وان شئتم "مرازيب" ياما ربّت اجيال وقرعات، دربكو من هون قبّلوا للقِبل، عالوادي، مستقبلين الكعبة الشريفة، اللي فيه بوجهو نظر ما بيتوه!! بعد متين متر، وسط الطريق، قدامكو عين الجديدة، بعد مغارة "كرم توبة". تحتي مغارة طاقة النمرة، حد تين الدحادحة، وراها مشمشات راس الطلعة لدار سعيد الخالد، بعدين الوادي (وادي ابو خوخ)، ثم تين العين، تحتي تين دار كايد ودار مراد، فيه حزام صخري كبير، بطمة كبيرة فلقت الحزام وضربت شلوشها حتى تفيّي الوارد ع ران الحلالة، سبحان الله، قدرتو عجيبة!! غربيها عين مزاريب (مرازيب)، اولاد الحرام هدوا العقدة/ القبوة اللي عليها، بلا ادب!، اجو اولاد الحلال: الله يكثّر من امثالهم: عبدو، مجيد، وجيه فارس وغيرهم، حملوا كياس الاسمنت ع ظهورهم، مع الحديد والبحص والرمل، وعمّروها من جديد، والمثل بيقول: "إن خليت بليت"، هذول شباب الله يوفقهم، هنّي وولد ولدهم، نشامى ما في مثلهم! إجو هذول مقطوعين الرسن، اللي بسمّو حالهن "شمورات طيبع" يعني "حرامية الطبيعة"، جربوا يتحارجوهن ويمنعوهن بالقوة، يعني عشان تخرب العين! ولا تكونوا كسلانين، قاموا هذول الشباب، اللي من ظهور اهلهن، وقّفوا بالباع والذراع، اللي شرع الكريك، اللي شرع الصبّة، واللي شرع قضيب الحديد، وقالوا بصوت واحد، موجهين كلامهم للحرامية في وضح النهار، لتسمع كلماتهم من به صمم: الكلب اللي فيكو، اخو اختو، يسترجي يظل هون، اليوم يومكو، المنيّة ولا الدنيّة، فينا وفي اعداءك يا رب!! العين عين ابونا والاغراب بدهن يطردونا!!
ملحة وذابت، قال فراق البدوي بعباي، قالوا لأ بسوق العُبي!! روسهن فاتت رجليهم، الهزيمة ثلثين المراجل، ما بيظل في الوادي غير حصاه، حططوا عن بغلتهن، بعد ما اكلوا اللي فيه النصيب والقدر المقسوم!
- هون يا حبايبي ويا قبّاريني مربط الفرس، الحجر مطرحو قنطار، وهيك عمّروا ورمّموا العين بدمهن وبعرق جبينهن، يسلمولي هيك شباب! اطّلعوا يا تقبروني – هاي مغر كانت قبور من قديم الزمان، يمكن الفرس حفروها، يمكن اليونان، يمكن الرومان، والله اعلم، قبالنا في القاطع الشمالي شقيف ابو مصص وهذا طير جارح، كان يعشش في هذا الشيّاد، قبل عهد الخضر الاغيار!
إطّلعوا ع مد عينكو والنظر، البساتين، الحواكير، الصحاري، القسايم، كل قسيمة لمالك، كنا نعمل دورية في ريّ الصحاري، كل مالك الو نص ساعة هاي حكورة المشايخ وشريكهم ابو يوسف، هذا المدماك من بقايا خلوة الشيخ محمد، حواليها، ثمار الجنة: تفاح، نجاص، خوخ، رمان، تين، عنب، توت، اطلب وتمنى، في القاطع الشمالي بعد الوادي كان جسر هوائي ينقل الماء بقناة محمولة لري المزروعات هناك، وهذاك "الرّان" الخزان بعدو ع حالو بلكي بيرجعلو عزّو ودلالو!
- قال "محمد السادس" يا جدّ جدي، بعدك بتعرف لمين كل قسيمة!
- يا حيفي عليك يا محمد! وحياة هالعنين اللي بدو يوكلهن الدود، حافظ درسي عن غيب وعن ظهر قلب: امشوا معي: بالترتيب: انا مش خرفان ولا مضوّع!
هناك طروق ابو مهنا، صحرة بو سليمان، دار كايد، دار نصرالله، الشراكة، بو امين، بو يوسف، نبعة عباس، نبعة نعمان، نبعة حسين علي، وادي الغسالات، عين النمرة، مشاتل المزارية (مكان مزار النبي سبلان)، وادي القنطرة، نبعة الدبغة، وادي الطوالة، زيتون المزارية، زيتونات خيزران، درب المزار، شو بدّي أعِد تأعد!!
- من اين لك هذه الذاكرة يا جد جدي قال محمود السادس!
- انا شربت من عين مزاريب، كان إلنا صحرة نزرعها خضرة، زر البندورة بعمل جاط سلطة، بيحاشر الكيلوغرام، القرعة ست-سبع ارطال، عرنوس الذرة بيشبع فحل الرجال، الملفوفة بتشبع عيلتين، زهرة القرنبيط ما الها مثيل، شو بدي اقولكوا تأقلكوا يا حبايبي، سقى الله ع ايام زمان، الجود من الموجود، كوسا، خيار، باذنجان، بامية، قرّة، فرفحينة، كفّ العروس، حميض، سبانيخة، شومر، شحّيمة، قرصعنة، علت، وغيرو وغيرو، كلّو من الطبيعة، وعَ الطبيعة!! هاي التينة فرعين، فرع سباعي وفرع خضاري، ما فيه مثل ثمرها في كل بلاد الشام من مشرقها لمغربها، هذول شجرات الحور، ياما عمّرو بيوت ع زمان بيوت الخشب قبل عهد البطون!!
قالت حمدة السادسة بشيء من الخجل والارتباك:
- ليش هذاك الحجر وسط قبوة العين يا جد جدي!! بو محمود!!
- معك حق تسألي يا حمدة! هذا الحجر اسمو (حجر العلق)، كل العلق في الماء كان يلتصق به، ونشرب الماء دون تصفية ابدا، مرة اجو حرامية بالليل سرقوا الحجر ومشوا فيه، قام نبينا، نبي الله سبلان، المجاور للعين جازاهم وقرطلهم ع المحل، ما غدروا يتحركوا او يتزحزحوا من محلاتهن، غير بعد ما رجّعوا حجر العلق والله فك اسرهم وقيدهم!! وهذا وادي الحبيس، شاهد على كل من يحاول ان يعتدي او يتطاول على هذا الحكر والمشاع، اسمو ع جسمو، وادي الحبيس! وهذيك تينة ابليس للمناجيس!!
- قالت محمودة السابعة: سمعت يا جد جدي إنوا في محاولات لترميم العين، منهل الماء والحواكير، من قِبل المحميات الطبيعية ووزارة جودة البيئة واطلاع المجلس المحلي والمركز الجماهيري في القرية!!
- يا حفيدة حفيدتي!! الحجر مطرحو قنطار، ما بيفلح الارض غير عجولها، وما يبقى في الوادي غير حصاه! ثوب العيرة ما بِدّفي، وان دفّى ما بيدوم رقعة الثوب لازم تكون منّو وفيه، حيف ع هيك مجلس وهيك مركز جماهيري، بتنازلوا عن منهل اجدادهن وبيصيروا كالأيتام ع موائد اللئام، بتتنازلوا عن حقهم المشروع، وبطلبوا اذًا من الاغراب والدخلاء والمرتزقة المقطوعين، حتى يرمموا معلمهم الحضاري الانساني، اللي ما بيحافظ على اصلوا، بكون بلا اصل!! وأحنا ولاد اصول!!
وتابع جد الجد!! حيف ع اهل بلدي! حيف ع الشباب والصبايا، اللي ما فيه عندهن نخوة وشهامة! عين مزاريب إلكو لحالكو، ما إلكو شركاء فيها لا من الطبيعة ولا من غيرها!
- إشهدوا، والله يشهد عليّ لو ظليت وحدي ما بفرّط فيها!! عين مزاريب!!
- كلنا معك، لعيونك يا سيدنا، إحنا فداك وفدا اجدادنا كمان!!

نمر نمر
الجمعة 4/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع