من يخشى المصالحات الوطنيّة؟



فور توقيعه، بدأ "إعلان صنعاء" يتعرّض لقذائف موجّهة مباشرة، ذات هدف واحد وواضح هو إفشال بوادر المصالحة الوطنية الفلسطينية، خصوصًا بين حركتي فتح وحماس، وفقًا للمبادرة اليمينة الأخيرة.
لم تكن تلك القذائف مجهولة القواعد ولم تنطلق من بطّاريات خفيّة المواقع ولا من طائرات لا يعترف مطيّروها بفعلاتهم، بل دلّت عليها تصريحات متواترة لمسؤولين رسميين إسرائيليين قالوا صراحة في وضَح النّهار إن دولتهم ستوقف "مفاوضاتها" مع الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس إذا ما عاد واجتمع في سلطة وطنية موحّدة مع ممثلي حماس. طرح المعادلة بهذا الشكل الثنائي المُطلق، "إمّا أو"، لا يعود الى محدودية في قدرات تفكير أصحابه، بل هو أحد التفسيرات الأكثر بساطة وإيجازًا وبلاغة لكلمة: إبتزاز، وهو فعل يقتضي قدرات تفكير "إبداعية"، وخبيثة طبعًا. عمليًا، كانت هذه هي خلاصة التكتيك الاسرائيلي لصدّ "خطر" المصالحة الوطنية الفلسطينية.
وهنا جاءت كالمتوقّع صواريخ التعزيز التي وجّهها داعية الحرب الشهير، ريتشارد تشيني، نائب الرئيس الأمريكي الذي كان في جولة اجتياح للمنطقة. مما قاله، عملا بدبلوماسيّة ذرّ الرماد في العيون، هو انه "لا يعتقد" أن عباس سينجز الاتفاق مع خصومه الداخليين. ولكن أذن السامع الحذِر كانت قادرة على التقاط لهجة التهديد خلف الكلام. فالمسألة لم تكن محض "تكهّنات" وطرح "اعتقادات" من جانب تشيني، بل تلويح بالسبابة.
هكذا اكتمل المشهد ليفرز هويّة "أعداء إعلان صنعاء".
سأستدرك وأقول، إن من لا تربطه مصالح بنوافذ واشنطن العالية، لم يكن بحاجة الى كل ذلك كي يعرف ويعرّف هؤلاء. ليس من باب اعتماد نظرات جوهرانيّة سابقة للتجارب، لا، بل بالضبط من باب التعلّم من التجارب. فالمحور الأمريكي-الاسرائيلي يحدّد أعداءه وأهدافه بشكل مخطّط ومُسبق ومتين بحيث لا تغيّرها أيّ معطيات قد تستجدّ. (هنا يصحّ التساؤل عن معنى "الأصولية السياسية" الفعليّ!). مثلا، كان العداء لحماس ولا يزال مستعرًا، على الرغم من بعض المحاولات السياسية الواقعية من طرف هذه الحركة للتوصّل الى صيغة تمكّن من التهدئة مع اسرائيل أو الهدنة معها، وهلمجرا.. لكن الجواب الامريكي-الاسرائيلي كان جاهزًا على الدوام، وجاءنا معلّبًا ومرزومًا في تكتيك منهجي هو: التشكيك. وحتى حين خرجت أصوات اسرائيلية مركزية، لا يمكن اتهامها بالتقدّمية ولا باليسارية ولا بالثوريّة، داعية الى البحث عن سبيل غير سبيل القوّة، جاء الجواب من المركز السياسي الرسمي مكرورًا وحاسمًا: هذا غير ممكن، فحماس ستستغل الهدوء لمواصلة التسلّح.
بالطبع، فالاجتياح المجزري لقطاع غزة الشهر الفائت، أثبت مجددًا أن الحلول العسكرية محدودة الضمان، إن لم يكن أكثر. لقد فشلت، رغم مآسي القتل والتدمير، حلقة جديدة من الفيلم الأمريكي-الاسرائيلي الطويل لصياغة معطيات الواقع بالحراب.
اليوم، يقف المشهد السياسي المعنيّ في ظل التحرّكات المأمولة نحو المصالحة الوطنية الفلسطينية الضرورية. ومن الواضح أن هناك من يعدّ العبوات الناسفة لتحييد هذا "الخطر" على مشروع واشنطن الأكبر، وهو الحفاظ على بؤر التوترات والانشقاقات الداخلية مشتعلة، من خلال تشكيل صورة "بعبع" في الذهن العام يمتد من فلسطين الى لبنان فسوريا وإيران، كي يتواصل مدّ ضخّ النفط بالهيمنة المطلوبة. وكلمات الرسميين الإسرائيليين والأمريكيين، التي تُطلق على الدوام أوتوماتيكيًا سواء دقّ الكوز بالجرة أم لم يدقّ، والمؤلفة من مفردات قاموس "الارهاب"، و"السنّة والشيعة"، و"المتطرفين والمعتدلين"، كلها تجعل المراقب (لو أراد طبعًا!) يشتقّ بسهولة مضمون وحدود هذا المشروع السياسي المتفاعِل، رغم كبواته المباركة.
بكلمات أوضح: إن المصالحة الوطنية في فلسطين، وكذلك في لبنان، والمصالحة بين مصالح شعوب المنطقة الحقيقية وبين سياسات أنظمتها الحاكمة – كلّها تشكّل خطرًا على مشروع الهيمنة الإمبريالي الراهن (خلافًا لليبراليين الجدد العرب، يجب التأكيد على أن مفهوم "الامبريالية" لا يزال صالحًا جدًا جدًا للاستعمال، ولن ينتهي تاريخه الا بانتهاء تاريخ الامبريالية نفسها..). فليس هناك سياسة اسرائيلية تجاه غزة، بمعزل عن الخطوط العريضة للمشروع الامريكي. غزّة، بنظرهم، يجب أن تبقى، كغيرها من المواقع المستهدفة، معزولة ومتّشحة بأطياف "الإرهاب والتطرّف" القاتمة، كي يكتسب مشروع الهيمنة المزيد من الحياة. في النهاية هناك بضاعة يجب تسويقها للعالم..
ما العمل؟ على الصعيد الفلسطيني، يُنتظر من جميع الأطراف الفلسطينية الوقوف بحزم أمام ابتزازات حكّام اسرائيل. وللجميع عبرة، ومفخرة أيضًا، في الموقف البطولي المُنير الذي اجترحه القائد الفلسطيني الراحل ياسر عرفات! من حقنا التوقّع من ورثته الاقتداء به في هذا بالذات، حين رفض مخطط "كامب ديفيد" الثاني دافعًا جميع الاغراءات والتهديدات لفرض اتفاق بشروط استسلام، ودافعًا أفدح ثمن أيضًا.
إن الوصول الى اتفاق سياسي معقول مع اسرائيل، بالحد الأدنى من العدالة، يمرّ بالضرورة تحت سقف الوحدة الوطنية الفلسطينية. خلاف هذا سيكون الأمر كورقة توت للاحتلال وورقة فلسطينية في مهبّ الريح. هذه تجربة جميع الشعوب، بل تجربة التاريخ برمّته.

هشام نفاع
الجمعة 4/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع