مع اختتام زيارة رايس:
هل يلوح في الافق سلام اسرائيلي- فلسطيني مرتقب في هذا العام؟!



أنهت وزيرة الخارجية الامريكية كوندوليزا رايس جولتها المكوكية بين اسرائيل والمناطق الفلسطينية المحتلة والاردن والتي استمرت ثلاثة ايام دون ان تحمل في جعبتها اية مقترحات او آراء امريكية جديدة تُخرج العملية التفاوضية الاسرائيلية – الفلسطينية من مرحلة الركود المتواصل منذ انتهاء مؤتمر انابوليس في نهاية العام الفين وسبعة الماضي. وحتى لا نخرج عن قواعد الدقة والموضوعية التي نلتزم بهما في تقييمنا للامور وبهدف نقل الحقائق كما هي دون مكيجة مبالغ فيها او انتقاص من واقعها، فان رايس في جولتها الحالية حققت انجازا اساسيا مدلوله السياسي انها اختزلت العملية السياسية الاسرائيلية – الفلسطينية في معتقل المرحلة الاولى من "خارطة الطريق" وبشكل انتقائي ينسجم مع المشروع الاستراتيجي الامريكي – الاسرائيلي للهيمنة في المنطقة ولا يتناقض معه، ينسجم مع دفع عملية نسج خيوط مشاريع "سلام امريكي" يخدم المصالح الاستعمارية الامريكية – الاسرائيلية وينتقص من الثوابت الاساسية للحقوق الوطنية غير القابلة للتصرف للشعب العربي الفلسطيني وغيره من شعوب المنطقة. فالانجاز الذي حققته رايس مع اطراف الصراع على طاولة المحادثات معهم، مع حكومة اولمرت والسلطة الفلسطينية والنظام الاردني تمحور حول التمترس في الخانة الامنية وفق معيار "المقايضة المتبادلة"، فمقابل ما يقدمه الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية من "شهادة حسن سلوك"، أي اخماد انفاس المقاومة الفلسطينية ضد المحتل الاسرائيلي، مقابل ذلك يخفف المحتل من جرائمه ومن معاناة الشعب الفلسطيني المعيشية والحياتية. فكل ما تمخض عن محادثات رايس في جولتها الحالية ان اسرائيل تعهدت بازالة خمسين حاجزا لتخفيف العبء عن المدنيين الفلسطينيين!! واتضح ان الحديث لا يدور هنا بالاساس عن حواجز المعاناة المعروفة، بل عن حواجز طبيعية، كثبان ترابية ورملية وضعها المحتل في قارعة الطرق ومداخل القرى والمدن الفلسطينية، فيما ابقى مئات الحواجز التي زاد عددها عن أكثر من ثلاثين في المئة منذ مؤتمر بوش في انابوليس. والى جانب هذه الخطوة الهشة التي انجزتها كوندوليزا رايس جرى الاعلان رسميا عن "موافقة" وزير "الامن" الاسرائيلي على انتشار ستمئة عنصر فلسطيني مسلح، جرى تدريبهم في الاردن على ايدي ضباط جيش ومخابرات امريكيين، للتموضع في منطقة جنين "لحفظ الامن"، على ان يخرج جيش الاحتلال من داخل جنين والقرى المحيطة بها ويضرب طوقا حول رقابها مع بقاء العصمة والصلاحية بيده بالدخول متى شاء وفي أي وقت يشاء الى داخل جنين وقراها بحجة ملاحقة ومطاردة واعتقال وقتل "الارهابيين" الفلسطينيين وتصفية واغتيال قادتهم كما حدث ويحدث في نابلس جبل النار وفي غزة هاشم العصية على الخنوع. اضف الى ذلك موافقة وزير الاجرام والمحرقة ايهود براك على تسليم مجموعة من المصفحات العسكرية الروسية غير المسلحة لقوات الامن الفلسطينية. وما نود ان نؤكده ان امن واستقرار الفلسطينيين وتحسين ظروف وشروط معيشتهم وحياتهم لا يتأتى الا بجلاء وانقلاع قوات الغزو والاحتلال الاسرائيلية وقطعان مستوطنيهم الداشرة من جميع المناطق الفلسطينية المحتلة وانجاز الحق الوطني الفلسطيني المشروع بالدولة والقدس والعودة في حدود الرابع من حزيران السبعة والستين. اما ما يتوخاه المحتل الاسرائيلي من شهادة حسن السلوك الفلسطينية و"تقوية الامن" الفلسطيني ليس ابدا حماية الامن الفلسطيني أوتوفير الاستقرار للفلسطينيين، بل العمل ومحاولة استغلال الامن الفلسطيني لضرب الامن الفلسطيني، لتأجيج الصراع الدموي الفلسطيني – الفلسطيني تحت يافطة مواجهة "قوى الارهاب" الفلسطيني، خلط الاوراق بين المقاومة والارهاب، وكأنه لا وجود بعد لاحتلال استيطاني اسرائيلي ولم يبق سوى حسم الصراع عسكريا بين فصائل المقاومة الفلسطينية بين فتح وحماس والجهاد والشعبية!!
لقد لفت انتباهي ما صرح به الرئيس الفلسطيني محمود عباس في المؤتمر الصحفي الذي عقده مع وزيرة الخارجية الامريكية كوندوليزا رايس في عمان بعد عودته من مؤتمر القمة العربية العشرين في العاصمة السورية دمشق. ففي هذا المؤتمر الصحفي عبر الرئيس ابو مازن عن جزيل شكره لما وصفه "بالجهود التي تبذلها الادارة الامريكية على صعيد تقريب وجهات النظر بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي سعيا لتحقيق عملية السلام واقامة الدولة الفلسطينية بحلول العام الجاري"!! كما اعلن الرئيس محمود عباس انه سيلتقي رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت في السابع من شهر نيسان الجاري، معربا عن ثقته بالتوصل الى اتفاق سلام في العام 2008"!!
انني شخصيا لا اشك بوطنية الرئيس محمود عباس وبتمسكه بثوابت الحقوق الوطنية الفلسطينية الاساسية غير القابلة للتصرف وبحقه في المناورة الدبلوماسية بشكل يخدم مصلحة القضية الوطنية! ولكن لا استطيع ان افهم من اين جاءت هذه القناعة للرئيس الفلسطيني وعلى ماذا اعتمد ليؤكد امرين غاية في الاهمية من حيث مدلولهما السياسي، الامر الاول تقديم الشكر والثناء للدور الامريكي وتصويره عمليا وكأنه متوازن يعمل على تقريب وجهات النظر بين الطرفين، الفلسطيني والاسرائيلي وليس منحازا بشكل صارخ الى جانب حليفه الاستراتيجي اسرائيل. ولم نسمع رايس في المؤتمر الصحفي مع ابي مازن تعلن مثلا ان ادارتها تؤيد المبادرة العربية للسلام التي عادت وتمسكت بها قمة دمشق، بل عادت واكدت في المؤتمر الصحفي ذاته انها "تمتدح الجهود الدبلوماسية المبذولة لانجاح المسار التفاوضي انطلاقا من خارطة الطريق ومؤتمر انابوليس". وانطلاقا من خارطة الطريق ومؤتمر انابوليس فان الصراع في المنطقة وعلى الساحة الاسرائيلية – الفلسطينية ليس صراعا سياسيا في جوهره ومدلوله بين قوى الطغيان الامبريالي والاحتلال الاسرائيلي وبين ضحاياهم من الشعوب المغلوبة على امرها وتعاني من نير الاحتلال الاسرائيلي المدعوم امريكيا، بل تصور الصراع وكأنه بين القوى والانظمة المعتدلة في المنطقة وعالميا والمدعومة من الامبريالية الامريكية وبين قوى وانظمة الارهاب التي تؤلف "محور الشر" وتؤوي وتدعم حركات الارهاب. وحسب هذه المعادلة فان حكومة الاحتلال الاسرائيلي والسلطة الفلسطينية وشعبها الرازح تحت نير الاحتلال في "جبهة" واحدة ضد قوى الارهاب، ضد ايران وسوريا وحزب الله وحماس والجهاد الاسلامي..
والامر الثاني، على ماذا يبني الرئيس ابو مازن ثقته التي لا تتزعزع بالتوصل لاتفاق سلام مع حكومة المجازر والاستيطان في العام الفين وثمانية!! هل همست كوندوليزا رايس في اذًا الرئيس ابو مازن بخبر سري عن "قنبلة سياسية اعلامية" سيلقيها الرئيس جورج دبليو بوش ويكون مدلولها السياسي مناقضا تماما للموقف العدائي الامريكي لثوابت الحقوق الوطنية الفلسطينية المسنودة بقرارات الشرعية الدولية، ويعلن تأييد الولايات المتحدة ودعمها لاقامة دولة فلسطينية مستقلة في حدود السبعة والستين وعاصمتها القدس الشرقية وضمان حق اللاجئين بالعودة حسب قرارات الشرعية الدولية، قنبلة تنسف مكتوب الضمانات الامريكية التي قدمها بوش نفسه لاريك شارون في الرابع عشر من نيسان الفين واربعة، والتي تشرعن وتؤيد ضم كتل الاستيطان والقدس الشرقية المحتلة لاسرائيل، وشرعنة بناء جدار الضم والعزل العنصري على الاراضي الفلسطينية المحتلة وشرعنة التنكر الاسرائيلي المطلق لحق اللاجئين الفلسطينيين الشرعي، والبالغ عددهم اكثر من خمسة ملايين لاجئ، في العودة الى وطنهم مسقط رأس آبائهم واجدادهم.
بالطبع ليس لنا ذرة من الثقة في الموقف الامريكي المنحاز الى جانب العدوانية الاسرائيلية والمنسق خطاه معه في اطار تحالفهما الاستراتيجي العدواني، وقد علمت تجارب الشعوب المخضبة بدماء العدوان الامريكي في العراق وغيرها انه اين تكون الامبريالية الامريكية فان الموقف الوطني الصادق يكون بالوقوف ضدها ومناهضا لها.
من اين جاءتكم الثقة بامكانية احلال السلام في العام الجاري يا سيادة الرئيس محمود عباس الا اذا كان المقصود انجاز سلام امريكي ينتقص من ثوابت الحقوق الوطنية الفلسطينية، وهذا ما لا توافقون عليه حسب ثقتي بمواقفكم. اما انجاز السلام العادل في العام الفين وثمانية فتحقيقه في هذه الفترة حسب رأينا، ابعد من المسافة بين كوكبنا الارضي وبين كوكب المريخ. فسياسة حكومة اولمرت – براك الاحتلالية لا يؤتمن جانبها، والسلام العادل ليس ابدا خيارها الاستراتيجي ولا حتى التكتيكي، والعكس هو الصحيح، فهذه الحكومة تنشط وبشكل منهجي، وحتى بعد مؤتمر انابوليس، لخلق وقائع جديدة على الارض الفلسطينية المحتلة تنسف قواعد واسس ومبادئ وقضايا السلام العادل والحل الدائم والعادل. فمنذ انتهاء مؤتمر انابوليس ينشط المحتل الاسرائيلي لبلورة قضايا الحل الدائم الجوهرية من طرف واحد، من الطرف الاسرائيلي، معرقلا المفاوضات مع طواقم السلطة الفلسطينية. فوقف وتجميد مختلف اشكال الاستيطان يعتبر البند الاساسي في المرحلة الاولى من تنفيذ اتفاقية خارطة الطريق. فالاستيطان والسلام لا يتعايشان ابدا، لان اغتصاب واستيطان اراضي الغير يعتبر غير شرعي واعتداء على سيادة وملكية الغير، اعتداء يناقض جميع القوانين والمواثيق الدولية. وبشكل استفزازي وقح تنشط حكومة الاحتلال الاسرائيلي على توسيع وتكثيف الاستيطان بهدف وضع المفاوض الفلسطيني في مفاوضات الحل الدائم، التي لا احد يعرف متى تبدأ جديا ومتى تنتهي فعليا، امام حقيقتين ناجزتين لا فائدة ولا حاجة لطرحهما على مائدة المفاوضات، الحقيقة الاولى، مصادرة الحق الفلسطيني في السيادة الاقليمية – السياسية على القدس الشرقية عاصمة دولته المستقبلية المرتقبة، وذلك من خلال تكثيف عملية تهويد القدس الشرقية وفق برنامج استيطاني صهيوني منسق مع الادارة الامريكية والحركة الصهيونية العالمية. فاكثر من سبعين في المئة من عمليات البناء الاستيطاني بعد مؤتمر انابوليس تم في القدس الشرقية، ويدور الحديث عن بناء اربعين الف شقة سكنية في منطقة "جبل ابو غنيم" في القدس المحتلة وبضمنها ستمئة وحدة سكنية في منطقة "بسغات زئيف" كما اعلن رئيس بلدية القدس الغربية. وبوقاحة المستعمرين اعلن رئيس الحكومة ايهود اولمرت في السادس والعشرين من شهر آذار الماضي انه سيواصل عمليات الاستيطان في كبريات المستوطنات الكولونيالية. وخطة تهويد القدس تستهدف عزل القدس الشرقية عن محيطها الفلسطيني في الضفة الغربية بواسطة المستوطنات حول رقبتها وبواسطة جدار الضم والعزل العنصري الذي يفصل عمليا شمال الضفة الغربية عن جنوبها، ويحول الكيان الفلسطيني المرتقب حسب المشروع الاسرائيلي – الامريكي التآمري الى مجموعة من الجزر المغلقة (كنتونات) تتواصل فيما بينها عبر انفاق وشوارع تحت وفوق سطح الارض.
اما الحقيقة الثانية، فهي ان مواصلة الاستيطان الكولونيالي وفق الخطة المنهجية للمحتل الاسرائيلي المدعوم بجدار العزل والضم العنصري قد رسم عمليا الحدود السياسية "لدولة المستوطنين" غير الشرعية القائمة على اكثر من خمسة واربعين في المئة من الاراضي الفلسطيني المحتلة والتي تستهدف اسرائيل وبدعم امريكي ضمها تحت السيادة الاسرائيلية، وما تبقى "تتفضل" ادارة تحالف المجرمين الاستراتيجيين الاسرا-امريكية بتحويله الى محمية استعمارية مربوطة بحبال التبعية الاستراتيجية الاقتصادية والامنية بالمحتل الاسرا- امريكي.
لقد اشرت في سياق هذه المعالجة الى ان رئيس ادارة عولمة ارهاب الدولة الامريكية المنظم، جورج دبليو بوش، سيزور المنطقة في شهر ايار من هذه السنة وسيشارك اسرائيل احتفالات الستين سنة على قيامها!! وعلى الشعب الفلسطيني وقيادته الوطنية ومختلف الوان طيفه العقائدي والسياسي ان تبلور رسالتها واضحة المعالم الموجهة الى بوش والعالم اجمع انه لا سلام ولا امن ولا استقرار في المنطقة ما دام جرح النكبة الفلسطينية ينزف ومنذ ستين سنة دما، وان استقلال اسرائيل مرهون باستقلال فلسطين في اطار دولة سيادية عاصمتها القدس الشرقية وضمان عودة لاجئيها. وكم سيكون لهذه الرسالة وقعها المؤثر لو كانت ممهورة بوحدة الصف الكفاحية الفلسطينية المبنية على صخرة التمسك بثوابت الحقوق الوطنية الفلسطينية!!

د. أحمد سعد
الجمعة 4/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع