أم الشقف، المنصورة، الزعتر والعكوب



تجتاح أهالي الكرمل في الفترة الأخيرة صحوة مباركة، صحوة تستحق الوقوف عندها لمحاولة فهمها ومحاولة توقع نتائجها. تقول جانيت هيلمس باحثة أمريكية في علم النفس، إن السود في أمريكا ممكن أن يعيشوا ويقضوا حياتهم ممسوحي الوعي، متقمصين الخطاب الأبيض، معتبرين البيض القدوة التي يجب أن يقتدوا بها، محاولين بكل طاقاتهم تقليدهم والحصول على علامة حسن سلوك منهم. وذلك حتى تحصل الصدمة، عندما يلمس الأسود العنصرية الموجهة ضده، عندها تنقلب الآية رأسا على عقب، وتثور ثائرة السود ويقلبون"اجر الدفه". والغريب في الأمر حسب هيلمس أن طيلة الوقت يمارس البيض العنصرية ضد السود، لكن ومضة الصحوة تحصل في لحظة ما، في ظرف ما وعلى اثر حادثة ما دون غيرها. والانكى من ذلك أن معظم السود يبقون غاطين في غياهب السكون والظلمة حتى عندما يصحى بعضهم. للتقريب أقارن تلك الصحوة، تلك الومضة، تلك الصدمة التي تعيد الإنسان لوعيه، لما يحدث لرجل مضبوع، غائب عن وعيه لاحقًا بالضبع إلى موكرته، وفقط عندما يصطدم ذلك الرجل في صخرة الموكرة يعود إلى وعيه، وينقذ نفسه من الهلاك.

 

ذلك بالضبط ما حدث حسب رأيي لبعض أهالي الكرمل، فعلى مر السنين فضحنا أكذوبة "الدولة الديمقراطية"، فضحنا سياسة الدولة السافرة اتجاه الدروز . حذرنا من مغبات سياسة الدولة في سلب أراضينا، وسلب هويتنا، وقلنا إن كل ما تفعله الدولة هو لصالحها، حتى إذا اقتضى الأمر الدوس على المتعاونين معها. قلنا إن الهدف الوحيد للدولة اليهودية هو الحفاظ على يهوديتها، حتى إذا اقتضى الأمر اغتصاب حضارة وهوية الآخرين. قلنا إن الهدف الأساس للدولة اليهودية، مصادرة الأرض واقتلاع أهاليها. قالوا إننا شيوعيون، إننا كفار، إننا نريد إرجاع ام الزينات، وذلك للتقريع بنا ووصفنا بالمخبولين. اليوم طارت السكرة وعادت الفكرة. اليوم وبعد صدمة أم الشقف، صحى بعضنا، فنبارك لهم صحوتهم ونشد على أياديهم.

 

من اتهمنا بالطوباوية يصرح من على شاشة التلفزيون ان هذه الدولة عنصرية، وان مبتغاها الأخير تصفية الدروز وتهجيرهم عن أراضيهم وعن مسقط رأسهم. نحترم ونجل هؤلاء، لكن تأكلنا الحسرة لأن الصحوة جاءت بعد أن ابتعدوا عن سدة الحكم، بعد أن غادروا كرسي الرئاسة وبعد ان راحت بعد شقفة من اراضينا. ونأسف ان دكاترنا لم يتعلما من تجربة من سبقهم وما زالون غارقين في سباتهم وفي غيبوبة، عندما يصحوا منها إذا صحو سوف لا تبقى لنا غير الشفة التي بقت لغوار في نهاية مسرحية كاسك يا وطن .

 

منذ نعومة اظفارنا غسلوا أدمغتنا في الثالوث: الدين، الأرض، والعِرض، كأسس وركائز للطائفة الدرزية. الدين كما تعرفون يقتصر على قله قليلة من المشايخ، ومحرم على الغالبية العظمى منا. الأرض كما تدرون صودرت في غالبيتها، وما تبقى في القرى الدرزية بين عشرة الى عشرين بالمئة من أراضينا، تمامًا كما حصل لباقي أراضي العرب في إسرائيل. ما بقي لنا هو العِرض. نختزل كرامتنا، في عذرية الصبية الدرزية، نبني رجولتنا على كبت المرأة وحرمانها،أما نحن الرجال فنصول ونجول ونغزي عروض الآخرين، نصادر الكرامة عن كاهلنا نحن الرجال، ونضعها على عاهل النساء، وبذلك نحرر أنفسنا من التعاليم الدينية التي فرضت نفس المحرمات على الرجال والنساء سواء. وبذلك أيضا نشوه معنى الكرامة، فالكرامة كما سماها أفلاطون "التيموس"، هي تعني كرامة الإنسان بشكل عام والتي ممكن ان يموت الإنسان الشجاع من اجلها. كما فعل سلطان الأطرش في حينه، عندما تحدى الفرنسيين لدخول بيته واستباحة خصوصيته والقبض على ادهم خنجر الذي احتمى في بيته. الكرامة تعني عدم الرضوخ للظلم والغبن، والثورة ضد الظالم. الكرامة تعني المحافظة على أملاكك، على أراضيك، أمام أي غازي والاستعداد للذود عنها بكل إمكانياتك. نحن على مر السنين الفائتة رضخنا أمام الوضع القائم، واعتبرنا دوس السلطة على رقابنا دغدغة، وحسبنا البصاق علينا مياه معطرة يمن علينا به اليهود. وبدل أن نعترف في قصرنا وعجزنا، نسقط ذلك على المرأة- كما جاء في كتاب مصطفى حجازي- "التخلف الاجتماعي"، بدل من أن نجابه الواقع والمعتدي، للحفاظ على ما تبقى من كرامتنا.

 

في هذه الفترة الزمنية نحن نعيش حقبة مصيرية، وصلنا إلى مرحلة الحسم. حين رفعنا رؤوسنا من الرمال، حين وصلنا مرحلة الوعي، لا يوجد لنا خط رجعة. علينا وضع النقاط على الحروف، والمجابهة إذا اقتضى الأمر، لكي نحافظ على ما تبقى من كرامتنا، ما بقي لنا من دونمات قليلة من الأرض. علينا أن ندافع عن أم الشقف وعن المنصورة وعن الزراعة، علينا الدفاع عن كياننا، وكياننا بالأساس في هذه الحقبة من الزمن هي أرضنا. صحيح إن دريد لحام قال في حينه: شو نفع الأرض بدون الإنسان الذي عليها. لكن العكس ايضاً صحيح، فلا قيمة للإنسان بدون الأرض، وليس من باب تقديس الأرض كما يفعل المتطرفون اليهود.
وصلت لحظة الحسم لأنه وضح "على القليل لبعضنا"، إن دولة إسرائيل اليهودية تضع على سلم أفضلياتها انتزاع الأرض منا. فأهم شعار للصهيونية كان تخليص الأرض. ومن من هم يريدون تخليص الأرض، من أصحابها الأصليين منا نحن العرب(ومن ضمنهم الدروز)، فهم في هذا المضمار لا يفرقون بين عربي وعربي حتى ولا بالتقوى. وصلت لحظة الحسم لأنه علينا التصدي لتلك السياسة السافرة والكولنيالية، للدولة اليهودية. أقول سياسة كولوينالية لان الحركة الصهيونية جاءت إلى هنا لتغتصب الأرض ولكن أيضا لتغتصب وتغتال العقل العربي. جاءت الى هذه المنطقة معتبرة نفسها صاحبة الحضارة والإنسانية والليبرالية. جاءت وفي جعبتها مهمة إنقاذ الأرض وتخليص الفلسطينيين من "بربريتهم" وجعلهم بني آدمين. تلك هي الأيديولوجية التي قامت على أساسها الحركة الصهيونية، والتي تتمثل اليوم في الدولة اليهودية، تلك أيدلوجية كولونية عنصرية خالصة، كما يعرفها ادوارد سعيد وفرانتس فانون.

 

وبكونهم أصحاب الحضارة والرقي، فهم الذين يخططون ما صالحنا وما ينفعنا، وما علينا نحن إلا أن نلبس العباءة التي يفصلونها لنا. وبكونهم أصحاب الأرض وما عليها، يمنعون فتح الطريق في الزابود في بيت جن، لان ذلك الطريق كان سوف يؤذي بعض الحيوانات الزاحفة، فنحن أهل الأرض برابه لا تهمنا تلك الحيوانات، إم طريق رقم 6 ... نعجز عن القول ونترك ذلك لكم. وهم بكونهم العارفون والقائمون والمائنون، يريدون جعل أراضي ام الشقف محمية طبيعية، لأننا نحن أصحاب الأرض لا نعرف حماية الطبيعة، فنحن بالنسبة لهم همجيين. وهم بكونهم حماة الإنسانية والطبيعة، يسنون القوانين بمنع قطف العكوب والزعتر- ويضطرونا شرائها من المزارعين اليهود- ومن بعدها طبعاً سوف يمنعوا قطف الشومر والخبيزة والعلت والحفحاف. يمنعونا من ممارسة حياتنا كما مارسوها أجداد أجدادنا، يريدون اجتثاث علاقتنا الأصيله بارضنا لكي يسهل عليهم ذلك اجتثاثنا من هذه الأرض فيما بعد.

 

يفضلون الحيوانات علينا، يفضلون الأعشاب علينا، فنحن بالنسبة لهم اقل من تلك وذات. نحن بالنسبة لهم نكرة، لا شيء، بل نحن نغصة على قلبهم، ففي النهاية هم يريدون الأرض، وحتى إذا كلف ذلك تغييبنا عن تلك الأرض وتهجيرنا عنها. علينا ان نقف ازاء هذا العقل الكولنيالي والعنصري، بصرامة وندافع بشراسة بلا ملل ولا كلل. فما يدافع عن الأرض إلا أهلها وأصحابها، هؤلاء الذين بلل عرقهم ترابها، هؤلاء أصحاب الأيادي القاسية لكن النظيفة والنقية، وليس من يتعامل مع الأرض كسلعة يتاجر بها، ولا هؤلاء الذين فرطوا بالأرض على مر السنين لإرضاء أسيادهم، ووللبقاء على كراسيهم في اروقة السلطة. علينا ان نبقى في اراضينا ليل نهار لنجابه الغازي عندما تسول له نفسه تدنيس تلك الأراضي، وعلينا ان نقتلع من الأرض كل ما لذ لنا وطاب خاصة الزعتر والعكوب، ضاربين قوانينهم المجحفة الجائرة وغير الإنسانية عرض المنصورة. فالقانون صنع البشر ، صنع الأكثرية الظالمة العنصرية غير مقدس، القدسية هي للإنسان ولحاجاته الإنسانية الأساسية ولعزته وكرامته .

 

ملاحظة: استبشرنا خيراً عندما سمعنا ان اهلنا في الكرمل سوف ينضموا اخراً واخيراً إلا يوم الأرض، يوم الذكرى لإغتصاب وإستلاب وومصادرة ارضنا عبر السنين، دون التفريق بين مسلم مسيحي ودرزي. وحزننا ولكن لم نتفاجىء عندما سمعنا بقرار التراجع عن هذا القرار الحق الشجاع. ونأمل ان هذا التنازل سوف لا يكون بمثابة او حبة في فرط المسبحة. ذلك يذكرني بالمظاهرة التي فرطت في اولها عندما حاول شباب ضيعة تشرين التحدي في وجه المختار لكنهم هربوا ليتركوا ابو نارة وحيداً. نأمل إن كرمنا لا يتحول لكرم ضيعة تشرين، ولا يلقى نفس مصيره. فللأسف عندنا بروح مختار وبييجي مختار ولا يتغير في وضعنا الا نوع الطربوش الذي يضعه على رأسه.

بقلم: د. رباح حلبي
الثلاثاء 1/4/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع