السكر المر



فهمْنا المادي للعالم يتلخص في كون هذا العالم الكبير مكونا من عناصر اولية اساسية وان اختلفت صور التكوين واشكال التجسيد للعالم العضوي الحي من جهة وللعالم اللاعضوي من جهة اخرى ونقصد بهذا ما يعرف بعالم الجماد الذي تغيب به حيوية الاجساد الحية.
العالم العضوي يتكون من خلايا وانسجة حية تخلق وتنشط وتموت وتبعث من جديد تسطر عبر الزمان سرمدية الحياة وازليتها.
العالم اللاعضوي يتكون من ذرات العناصر التي تنعدم فيها الحياة البيولوجية التي نعرفها ولا تتم بها عملية الايض والاستقلاب التي تشمل التفاعلا ت الحية على مستوى الخلية والتي تكون اساس الحياة العضوية.
علينا بالضرورة ان نذكر هنا ان ذرات بعض العناصر غير مستقرة بل نشطة وفاعلة وليست خامدة تتفاعل وتتحول وتولد الطاقة بمختلف الصور. مثال ذلك انشطار الذرة في توليد الطاقة الحرارية من الوقود النووي سواء كانت للاغراض السلمية ام العسكرية. هذا مثل حي وواقعي وطبيعي على تحول اشكال المادة وعدم فنائها. على هذا القانون الطبيعي الاساسي بنت الفلسفة المادية فكرها ووجودها وحتمية بقائها و تطورها.
العناصر الاساسية الموجودة في مختلف اشكال الحياة العضوية هي ذاتها جزء لا يتجزأ من العناصر التي يتكون منها العالم اللاعضوي الذي تنقصه الحياة البيولوجية وهذا بدوره يثبت قطعيا على التداخل والثأثير وعلى التحول المتبادل بين اشكال الموجودات الحية وغير الحية بمختلف صورها أي بين الاجساد العضوية وبين العالم الطبيعي اللاعضوي وهذا يؤكد مرة اخرى وحدة المادة وتعدد صورها.
كتبنا هذه المقدمة المتواضعة حتى نوجز القول بان الجسد الانساني هو جسد حي يتكون من خلايا حية تخلق وتعيش زمنا ما وتموت وتفنى ذاتها وتخلق من جديد وتتفاعل مع العالم اللاعضوي والعضوي خارج الجسد عن طريق الغذاء الذي يكون السبب الحيوي الاول لوجود وبقاء الاجساد الحية كلها سواء كانت بشرا او نباتا او حيوانا.
عملية الأيض والاستقلاب للغذاء او الدواء الذي يلتهمه الانسان تتم عن طريق الجهاز الهضمي في الحالة الطبيعية الغير مرضية او عن طريق الحقن في العضلات او في الاوردة او تحت الجلد في حالة المرض. تدور هذه العملية بالغة التعقيد بلا كلل او ملل ليل نهار للمحافظة على حالة توازن بين التفاعلات الكيميائية القاعدية منها والحمضية. سر هذا التوازن الذي يرمز له
 عمليا PH=7 هو سر البقاء والاستمرارية للحياة العضوية بمختلف صورها في حالة عدمه ام نقصه او ميله الى جهة على حساب الاخرى تمرض الاجساد الحية وتفنى.
خرق هذا التوازن اذ كان لاسباب طبيعية او بشرية من فعل يد الانسان يخلق عدم توازن ومن ثم ثوران وهدم وفوضى وموت. هذا حاصل اليوم في عالمنا الصغير الكبير عندما اصبحت النشاطات الصناعية والزراعية والعسكرية البشرية غير الموزونة تضرب التوازن البيئي الموجود منذ خلق الطبيعة الامر الذي يعود علينا على شكل عواصف مدمرة وهزات ارضية وامواج تسونامي وفيضانات وتصحر تهدد التوازن القائم منذ ملايين السنين وعليه بات بقاء المجتمعات البشرية مهددا فوق الكرة الزرقاء كلها.
الانسان يتربع على قمة سلسلة الغذاء الحية الممتدة من الاجساد وحيدة الخلية وحتى الانسان العاقل المنتصب المعاصر. هذا الانسان يلتهم الاغذية العضوية كمنتجات اللحوم والخضار والفواكه الموجودة بالطبيعة الفطرية بالاضافة الى الكثير من المنتجات المصنعة او المهجنة التي تحتوي على الكثير من المواد غير العضوية مثل ملح الطعام والسكر والعقاقير والادوية على انواعها المختلفة. الجسد البشري مثال جيد لعملية الاستقلاب في الاجساد الحية التي تجد مكوناتها في الطبيعة. وجود التوازن الحامضي- القاعدي التي تعده وتوفره هذه العملية البيوكيميائية المعقدة هي الصحة ذاتها وخرق هذا التوازن عن طريق الغذاء الذي يحتوي على مواد غريبة مصنعة معناه المرض وخسران الصحة الجسدية والنفسية.
السكر الابيض الكريستالي البلوري " اللذيذ " الذي نلتهمه بلهفة ورغبة هو احد المواد الكيميائية الضارة الاكثر شعبية وشيوعا التي يستهلكها الانسان المعاصر بكثرة في ارجاء الدنيا كلها وهو احد اهم المواد التي تؤدي الى الامراض الصعبة كضغط الدم العالي وتصلب الشرايين التاجية والذبحة والسكتة القلبية التي تقتل ملايين البشر كل عام وخاصة في الدول الغنية المتطورة التي تعتمد بغذائها على الدقيق الابيض الخالي من فوائده بعد عملية الطحن والغربلة مثل الفيتامينات والعناصر الحيوية وعلى السكر الابيض البلوري الذي نحن بصدده والذي يفتقر بدوره الى المواد المفيدة والحيوية. انتاج السكر البلوري الابيض من عصير قصب السكر وشمندر السكر يتم بعملية تكرير معقدة تفقد خلاله هذه العصائر كل خواصها الغذائية المفيدة وتجعلها غير مغذية بل ضارة ومادة سامة تعرقل وتهدد التوازن الطبيعي بالخلايا الحية كما ورد آنفا الذي يؤدي بدوره الى المرض والموت. تؤدي هذه المادة الحلوة البيضاء "النقية" الى الامراض التي ذكرناها والتي باتت تنتشر على شكل اوبئة لا تبقي ولا تذر متخطية كل الاعراق والاجناس وخاصة اذا استهلك بكميات كبيرة زائدة لا يحتاجها الجسد البشري اصلا لصيرورته وديمومته ولا يستطيع حتى استيعابها وتحليلها. تسبب هذه المادة الكيماوية البحتة المعروفة كيميائيا بالرمز C12 H32 O11 بحرق الخلايا الحية وموتها قبل اوانها لا لسبب بل لانها بالاساس مادة غير عضوية لا يستسيغها الجسد البشري ولا يهضمها كحالة المواد الكميائية الخطيرة
الاخرى مثل الكوكائين والهيروين ومادة LSD وغيرها. تحتوي عصائر قصب السكر او شمنذر السكر المادة الخام للسكر البلوري على الفيتامينات والعناصر الحيوية الاخرى التي تفسد وتفقد خواصها البيولوجية الحيوية الهامة بعد عملية التكرير الكيماوية الحرارية العنيفة والمعقدة التي تخضع لها في معامل السكر. كميات السكر التي نلتهمها يوميا بدون الحاجة الغذائية لها مادة حمضية الخواص تؤدي الى عمليات ايض حمضية تخل بالتوازن المطلوب الذي تحدثنا عنه سابقا. الجسد الانساني ذكي ويعمل بطبيعته الفطرية دوما على تعديل التوازن المفقود ليحافظ على صيرورته وبقائه. يحتاج في هذه الحالة الى عناصر تعدل من قاعدتيه وهي اساسية لعملية الايض هذه مثل الصوديوم والبوتاسيوم والكالسيوم وفي حالة عدم حضورها في كميات مناسبة في الدورة الدموية لاستغلالها الفوري فانه يطلقها من العظام والاسنان مسببا مع الزمن هشاشة العظام وتسوس الاسنان. بعد ان تضعف الطبقة الكلسية في العظام يظهر في العادة المرض المعروف بهشاشه العظام وزيادة قابلية انكسارها وفي حالة الاسنان تضعف الطبقة الكلسية في ميناء السن التي تحميه من التسوس بعد ان يصبح فريسة لعشرات الميكروبات التي تعيش بصورة توافقية غير مرضية في التجويف الفمي والتي تتحول الى اخرى انتهازية مرضية ومدمرة عندما يضعف ميناء السن بعد خسارة العنصر الاساسي في تركيبته الطبيعية. يعمل الجسد البشري على خزن كميات كبيرة من السكر الزائدة عن حاجته والتي يلتهمها يوميا مع الطعام بشكل سكر معقد او نشاء في الكبد. بما ان للكبد طاقة استيعاب محدودة على حفظ السكر بهذا الشكل سرعان ما يمتلئ ويتضخم ويطلق كميات السكر غير الطبيعية والزائدة تلك الى الدورة الدموية على شكل احماض ذهنية مشبعة يخزنها الجسد تحت الجلد على شكل كتل شحمية ضخمة لا حاجة له بها في الوركين والبطن والصدر وفي الاماكن البعيدة غير الحيوية لاستمرارية الحياة بصورة قريبة من الصورة الطبيعية الاصل المثلى. في حال امتلاء تلك المستودعات البعيدة نسبيا عن مراكز الحياة في الجسد تتدفق تلك المواد الضارة كالسيول الى الدورة الدموية مهددة عمل الاعضاء الطبيعي وخاصة في القلب والدماغ والكلى والاوعية الدموية الحيوية التي تمتلئ بها وتضيق وتعوج وتصبح فيها الدورة الدموية الحيوية لبقاء وعمل الخلايا المتنوعة مهمة صعبة حتى تعجز كلية وتقف نهائيا عن الجريان وايصال الغذاء الى الاعضاء الحيوية في مراحل انسدادها كلية بترسبات دهنية عقيمة تعرف بالكوليسترول وبالدهنيات الثلاثية على انواعها.
يؤدي الامر بطبيعة الحال الى تشوش عمل تلك الاعضاء الحيوية ويفقد خصوصيتها وقدرتها على البقاء وتموت ويفنى الجسد معها وفي احسن الاحوال يمرض ويعتل.
 لم يبق لنا في هذه العجالة الا ان نقول ان السكر البلوري هذه المادة الكيماوية الضارة الاوسع انتشارا في العالم كله يفوق ضررها اضعاف ضرر السجائر والكحول والمخدرات على انواعها اذا اخذنا بعين الاعتبار نسبة الادمان على تلك المواد السامة واثر كل منها على الصحة والمرض. ادمان السكر يكاد يصل الى 100 بالمئة اذ ان اغلب البشرية اليوم الغنية منها والفقيرة ادمنت تماما قرونا عديدة على هذه المادة الخطيرة التي تسبب امراضا خطيرة. راجت اليوم المشروبات الغازية المشبعة بالسكر ووطأت الارض كلها في القرن العشرين من صحاري قرا قوم الى ادغال افريقيا ومن المحيط المتجمد الى اعماق الامازون بعد ان صنعت اول زجاجة كوكا كولا في ولاية اوهايو الامريكية عام 1920. السكر نعم السكر الحلو " اللذيذ " هو سبب امراض القلب والاوعية الدموية التي باتت تحصد حيوات عشرات الملايين كل عام على نطاق الكرة الارضية كلها بعد ان هبط سعره وبعد ان ساد مع الهيمنة الامريكية التي تكتسح عالم اليوم.
 سيكتب التاريخ يوما ما وبالبنط العريض ان ما ميز العصر الامريكي هو قنينة الكوكا كولا والبيبسي والهامبورغر المصنع من الدقيق الابيض الخالي من منافعه الصحية واللحوم المليئة بالدهن الخطير لصحة البشر بالاضافة طبعا الى هوليوود والحروب وطائرة الشبح وافلام الكاوبوي والجنس الاباحي وموسيق الجاز. الضرر الذي سببته الكوكا كولا لشعوب الارض بالغ ورهيب اذا اخذنا نسبة الادمان على هذا المشروب الضار في العالم كله. لم يسبب الحلم الامريكي ومازال الا كوابيسا وامراضا وويلات صحية واجتماعية رهيبة تدفعها البشرية دينا صاغرة شاءت ام ابت منذ اكثر من قرن من الزمان.
تعالوا بنا نحلم حلما آخرا في الالفية الثالثة غير الحلم الامريكي. تعالوا نحلم حلما حلوا طبيعيا بطعم الزبيب والعسل والتمر والقطين والتفاح لا بطعم السكر والكوكا كولا.

د. فؤاد خطيب
السبت 29/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع