كلمة وفاء في ذكرى أربعين سنة على وفاة القائد الشيوعي الراحل الرفيق فؤاد خوري



لن اصوغه خطابا في الرثاء، او كلمات للبكاء، سأجعله بازارا أعرض ما تفتقت عنه ذاكرتي من افكار من بعض ما ادخرته من نفيس الذكريات ، التي اختمرت خلال سنوات خلت ، فجاءت  معتّقة من احاسيس خامرتني في وجداني ومشاعر خالجتني في خيالي بوميضها الذي لم ينطفئ ، فأوحت لي بهذه الذكرى الجلل بازاحة الستار عنها لتتجلى للمرء مناقب  ، وسجايا ومآثر فؤاد خوري . تنساب طبيعية ، انطبعت فيه طبعا وليس تطبعا . تاريخه حافل بالتضحيات وغني بالنضالات ، ورصيده في الكفاح عالي الدرجات ، فلا اريد الغوص في عبابه، او خوض غماره ، سأسوق للقارئ النزر اليسير من حكايات كثيرة عديدة حدثت تلقائيا ، لتكون نافذة له يستدل منها ويستبين بذاته ، ويستوحي بقدراته ،  مكنونات ومزايا الرفيق فؤاد خوري النبيلة وطبائعه البريئة .
في شهر آذار من هذه السنة تكون قد حلت الذكرى الاربعون لرحيل القائد الشيوعي الرفيق فؤاد خوري .أعود وأحني هامتي اجلالا واكبارا في هذه المناسبة الجليلة، كما احنيتها يوم رحيله . ساعدني الحظ ان اتعرف عليه عن كثب وان اعمل في ظل قيادته . الا ان القدر حال دون استمرار سعادتي ، فاختطفته يد المنون وهو في اوج عطائه في آذار سنة 1968 في وقت كنا في امس الحاجة اليه حزبا وجماهير عربية، (وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر ) تعرفت عليه وكانت فترة وجيزة من اواسط 1966 الى آذار 1968 كانت فترة قصيرة جاد بها بما  لديه من طاقة وقدرة وجاد بنفسه كانت قصيرة لكنها كانت بالنسبة  لي غنية في  الاكتساب فنهلت من ينابيعه المتدفقة والتهمت من حقوله الخصبة بنهم .
ترك رحيله المفاجئ جرحا في نفوس رفاقه ومحبيه لم يندمل . ترك تلك البصمات ذكريات لتظل تعتصر القلوب . وطيفا يحلق في سمائنا ، وصورة ترتسم في اذهاننا نستلهم منها عند الشدائد وفي المحن .
كان ذلك في منتصف سنة 1966 تعرفت عن كثب على كوكبة ونخبة من الشيوعيين المخضرمين من قيادة الحزب الشيوعي في منطقة الناصرة ، فؤاد خوري سكرتير المنطقة اميل حبيبي، منعم جرجورة، سليم القاسم، توفيق زياد، جمال موسى، صليبا خميس، يوسف شحادة ، اسعد يوسف، رمزي خوري، غسان حبيب، نمر مرقس، لتبقَ ذكراهم خالدة وامدّ الله في عمر الرفيقين ابو عصام ، وابو النرجس . تميز  الرفيق فؤاد بنشاطه الدؤوب الذي لم يعرف الملل او الكلل واصل النهار في الليل في العطاء وبين الناس والجماهير متنقلا بين فروع المنطقة .
جيء بي من القدس عاملا   بالمقاولة، لأنضم الى جيش المحترفين الفقراء براتب شهري قدره مائتا ليرة رفضت ذلك العرض واستهجنت الراتب الزهيد البخس ،عندها  قال لي الرفيق نمر مرقس بعد نقاش طويل اختر لك يا رفيق احد الخيارين اما حزبا او نقودا . ظل رنين كلماته يتفاعل في داخلي فعدت واخترت الحزب من بين الخيارين . اتيحت لي الفرصة ان اشارك في اجتماعات تلك الكوكبة النخبة عندما سافر الرفاق نمر مرقس، وتوفيق كناعنة للدراسة الحزبية في موسكو ، وغسان حبيب سكرتير منطقة الناصرة الشبيبة الشيوعية الى المانيا . كنت شابا فج التجربة ، ضحل المعرفة ، عديم الممارسة واصلت عملي وتتالت لقاءاتي مع تلك النخبة ، فشعرت في احد الايام بالتقزم والحرج والضيق من الجلوس مع من رأيتهم عمالقة من قيادة الحزب . فخرجت بانطباعاتي عن الرفيق فؤاد خوري انه نموذج للشيوعي الاصيل في تصرفاته وخطاباته فكاشفت الرفيق فؤاد عما يساورني من يأس وضيق وحرج وبلغت بما يراودني من نية في انهاء عملي . بدا على وجهه التأثر فرفض الفكرة وعارضها فرعاني واحسن رعايتي وغمرني بحنانه كوالد يغمر ولده  بحنانه فانتشلني من اليأس الذي غرقت فيه وبفضله بقيت سكرتيرا لمنطقة الشبيبة الشيوعية ست عشرة سنة .
حكايتي الاولى معه وفي الشهر الاول من عملي كنت اذا تحدثت معه اخاطبه بكنيته الرفيق ابو جابر ، تبجيلا وتكريما كما تعاملت مع الكبار في قريتي فلم يرق له ذلك وذات يوم وفي خلوة في غرفته وضع يده على كتفي وبصوت خافت هادئ قال يا رفيق خاطبني باسمي وليس بكنيتي ولا تخجل من ذلك نحن هنا رفاق درب ومصير.  وأعتز بكلمة رفيق نحن هنا سواسية كأسنان المشط وتابع يقول ألم تر انني اخاطب اميل حبيبي بالرفيق اميل وجمال موسى بالرفيق جمال ، استهجنت تواضعه وخجلت من نفسي  واغرقني بمكارم  اخلاقه . حكايتي الثانية كانت في يوم الاثنين الخامس من حزيران تواجدنا في الناصرة لحضور اجتماع سكرتارية المنطقة وكان قد عكف في غرفته يطالع الصحف ويواكب الاخبار ، وكانت حرب حزيران سنة 1967 قاب قوسين او ادنى من نشوبها. وفي تمام الساعة التاسعة صباحا اذاع راديو اسرائيل خبر نشوب الحرب معلنا عن نجاح الطيران الاسرائيلي في قصف وتدمير جميع المطارات العسكرية المصرية فدخل علينا مهموما وقد امتقع وجهه وتهدج صوته وفي حلقه غصة المتألم الحزين  وكنا لفيفا من الرفاق الذين وصلوا ، ابلغنا الخبر وطلب منا  الانصراف ، ومغادرة مقر الحزب الشيوعي تفاديا وحرصا من هجمة سلطوية من مداهمة للمقر لاعتقالنا، تصدى له  في هذه اللحظات الحرجة الرفيق منعم جرجورة الذي لم يصدق الخبر وقال( انها فرية ما انزل الله بها من سلطان) واتهمه بالوقوع فريسة للدعاية والاعلان اسرائيلي والحرب النفسية التي تشنها الاذاعة الاسرائيلية . نظر اليه الرفيق فؤاد خوري نظرة عتاب تلافى وتجاهل اتهاماته . فغادر وغادرنا المكان وظل الرفيق منعم جرجورة وشأنه يسبح في بحر اوهامه . دقائق معدودات من مغادرتنا دهمت الشرطة المقر واصبح الرفيق منعم جرجورة في حيص بيص من امره . وكان الضحية الاولى من حملة الاعتقالات التعسفية التي مارستها السلطات والتي بلغ فيها عدد المعتقلين حوالي اربع مائة معتقل معظمهم من قيادة الحزب وبعض الوطنيين . كان وطنيا اصيلا ، واضح الرؤية ثاقب البصيرة ، صادق الحس رحيب الصدر متسامحا   .
والحكايتان الثالثة والرابعة. ذات يوم وبعد انفضاض اجتماع السكرتارية وكان ذلك في اواخر سنة 1967 هممت بالخروج بانتظار الباص للعودة الى القرية وقف بجانبي ولف يده على متني ، وطلب مني اصطحابه الى بيته لتناول طعام الغداء ونأخذ قسطا من الراحة والقيلولة ، ثم نستأنف السفر ارافقه في سيارته الى عرابة في مهمة لحضور اجتماع للفرع لتاسيس فرع الجبهة الدمقراطية لخوض المعركة الانتخابية للمجلس المحلي ولاول مرة في اطار جبهوي ترددت كثيرا من عرضه ورفضت خجلا وحرجا فأصر وكان شديد الاصرار لم استطع الافلات من يديه استانفنا السفر في حوالي الساعة الخامسة مساء وفي الطريق وعند ليات البعينة النجيدات كاد يهوي في هاوية فصرخت فاستفاق من شروده فتساءلت بتطفل وابتذال عن سبب شروده فجاء رده سريعا بلا تأتأة وهو يندى بالانسانية ويندف بالمسؤولية ، متجاهلا ابتذالي وتطفلي وقال (اهدس بالرفيق توفيق كناعنة الذي سيعود في السنة القادمة في النصف الثاني من سنة 1968 ومن واجبي  الاهتمام في مستقبله وعمله) ففكرت ان اهوّن عليه  همومه واخفف عليه  قلقه  فجئت بفكرة ان اخلي عند عودته مكاني فيحل محلي فتنتهي القضية. ضحك وقال لا ابدا الحزب بحاجة الى طاقات شابة لنكمل الطريق هبطت علي كلماته  في رده عن شروده والحدس في مصير توفيق كناعنة وهو في موسكو كحمام ماء بارد في يوم قائظ . فاق رده وكلماته  تخيلاتي وتصوراتي بفحواها وابعادها وارتسمت في مخيلتي ونقشت في عروقي وتجذرت في ذهني ولا زلت اتغنى بها بين رفاقي  بين الحين  والآخر وكلما حانت الفرص . كان انسانا ، قائدا ومسؤولا .
كنا نضيق ذرعا في عرابة من الفكر الجبهوي ، ورفضنا الفكرة وظل الرفيق فؤاد يحاورنا ويناقشنا ويشرح لنا عن اهمية  الفكر الجبهوي وحسناته ، حتى استطاع اقناعنا،  وبذلك تأسس فرع للجبهة  الدمقراطية في القرية بفضله واصراره في نهاية سنة 1967 ولا زال الفكر الجبهوي يتنامى ويقوى  بيننا وفي عقيدتنا حتى اليوم . كان جبهويا عريقا آمن بالعمل الجبهوي ايمانا مطلقا . والحكاية الخامسة : عاد الرفيق غسان حبيب في اواخر  سنة 1967 وعند عودته عاد وتسلم قيادة المنطقة وفي احد الايام تحاورنا ونشب خلاف بيني وبينه  احتد النقاش رفع الرفيق غسان حبيب صوته وعقيرته وخبّط على الطاولة . لم يرق ذلك السلوك في نفس الرفيق فؤاد خوري استهجنه واستغربه فدنا منا وجلس يسمع حيثيات القضية والسبب الذي حدا وحمل الرفيق غسان ان يفعل ذلك فكان الحكم بيننا وبعد الاستماع اصدر قراره بأن يقدم الرفيق غسان اعتذاره وفي الحال . لقد كان مستقيما يرفض الضيم والغبن والاهانة  له وللآخرين .
أكتفي بهذا القدر من ذكر هذه الحكايات التي تحكي بصدق وشفافية سجايا ، ومزايا ومآثر الرفيق فؤاد خوري فهي كثيرة وعديدة تلك الحكايات والذكريات المجيدة انتشلتها من مدخرات في ذهني واحاسيسي  . هذا غيض  من فيض تعجز الكلمات وتضيق الصفحات وينضب المداد ويكل القلم من تسجيل سجايا الرفيق فؤاد خوري  الشيوعي الاصيل  الانسان الوطني الذي احب شعبه ورفاقه فاحبوه. لتبقَ ذكراه خالدة .

عمر سعدي *
الخميس 27/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع