اغتيال رواية «الحب في زمن الكوليرا»



ما الذي بقي من الرواية في الفيلم؟ فيلم "الحب في زمن الكوليرا Love in the Time of Cholera"، يعرض حالياً في الصالات العربية، والمأخوذ عن رواية شهيرة بنفس الاسم تعتبر إحدى أهم الروايات التي صدرت في القرن العشرين للكاتب الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز، ويطرح الفيلم على مشاهده أسئلة عن إمكانية نقل رواية بالغة الإتقان ومرهفة الحساسية وعلى درجة كبيره من الرقي التعبيري إلى عمل سينمائي.
أعمق وأهم إحساس يخرج به المشاهد من صالة السينما بعد مشاهدته فيلم "الحب في زمن الكوليرا Love in the Time of Cholera" هو شعور بالحزن والأسى يسيطر عليه ليس تأثراً بأجوائه أو انفعالاً بأحداثه أو تعاطفاً مع شخصياته، وإنما أسفاً على الرواية التي تعد إحدى أهم الروايات التي صدرت في القرن العشرين، فضلاً عن كونها واحدة من بين أجمل روايات الحب في تاريخ الأدب العالمي كلّه، وعلى الطريقة التي قدمت بها سينمائياً، وإذا كان جزءاً كبيراً من مشكلة المشاهد مع الفيلم يعود إلى المقارنة الإلزامية التي تلح عليه بين الرواية والفيلم في كل مشهد من مشاهده، وهي في النهاية لا تصب في صالح أي عمل سينمائي يعتمد على رواية هامة مهما بلغ مستواه الفني، فجزء كبير أيضاً من المشكلة يعود إلى الفيلم نفسه الذي يشبه في إعادة صياغته للرواية الأدبية بصرياً تقديم فرقة هواة مدرسية عرضاً مسرحياً لنص من النصوص الشكسبيرية.
واستخدامي لهذا التشبيه ليس تعريضاً بحرفية الكادر الفني الذي ساهم في إنجاز فيلم "الحب في زمن الكوليرا"، بقدر ما هو محاولة لشرح الفوارق الشاسعة بين الفيلم السينمائي والأصل الأدبي، فما فعله فيلم مايك نيويل برواية غابرييل غارسيا ماركيز لا يتعدى محاولة تلخيص أحداثها بعمومية لا تعبأ كثيراً بالتفاصيل الغنية للبانوراما الحياتية التي تدور فيها الحكاية والمشاعر الرقيقة التي لاحقها داخل نفوس شخصياته، والتي بنى عبرها ماركيز الأجواء السحرية لعمله، وخلق المبررات الدرامية الروحية لأفعال شخوصه.
ولهذا السبب بدت تصرفات عديدة للشخصيات غير مفهومة أو مبررة أو مقنعة في كثير من مشاهد الفيلم، وتحولت قصة الحب الأسطورية التي نسجها ماركيز بين فيرمينا داثا وعاشقها فلورنتينو إريثا الذي انتظر إحدى وخمسين سنة ليحظى بها، إلى نوع من الشجارات المفتعلة والشخصيات المنحرفة نفسياً والمواقف الباردة في فيلم نيويل.
أكثر ما يفتقده قارئ رواية "الحب في زمن الكوليرا" في الفيلم الذي صنع عنها، هو الأجواء التي بنى من خلالها ماركيز المحيط الغني بالألوان والأصوات والروائح الذي تتحرك فيه شخصياته، والتي تقدم صورة بانورامية بغلاف شفاف من الرومانسية العذبة ولوعة الحنين لزمن جميل وقاسٍ في نفس الوقت من حياة الريف الأمريكي اللاتيني، فما قدمه الفيلم رغم التزامه الظاهري بأجواء وأزياء البيئة الكولومبية يخلو من خصوصية البيئة، ويمكن نقل أحداثه إلى بيئة أخرى من دون أن يشعر المشاهد بأي فرق، وفي هذه البيئة المزيفة بدت قصة الحب -التي ظهرت أسطورية في الرواية- فيها الكثير من الافتعال واللامنطق والتركيب العصي على الفهم خاصةً بالنسبة لمن لم يقرؤوا الرواية، وبدت أفعال وردود أفعال العاشق الأبدي فلورنتينو إريثا (الذي جسد شكله الخارجي الممثل الأسباني خافيار بارديم أكثر مما جسّد شخصيته الداخلية) أقرب إلى السلوك المنحرف منها إلى جنون العاشق، وهو ما ينسحب على تصرفات شخصية فيرمينا داثا (التي أدت الممثلة جيفانا ميزغيورنو شخصية لا تشبه الشخصية المرسومة لها في الرواية إلاّ من ناحية السلوك الظاهري)، والتي بدت مفتقرة إلى أبسط المبررات الدرامية.
وإذا كان من الطبيعي أن تتفوق رواية في مستوى "الحب في زمن الكوليرا" على أي شكل من أشكال التجسيد البصري لها، بسبب قدرة الكلمة المكتوبة على منح العقل حرية في التصور وبناء العوالم وتخيّل الشخصيات، فمن غير الطبيعي أن لا يستفيد الفيلم المأخوذ عنها من فنون الموسيقى والتصوير والتمثيل لخلق حالة من السحر مماثلة أو شبيهة لسحر عوالم الرواية، ويكتفي بسرد أحداثها بطريقة من يقدم محتوى قصيدة شعر للمتنبي في خبر صحفي، وهو ما فعله الفيلم بالرواية.
عندما قرأت رواية "الحب في زمن الكوليرا" قبل سنوات عند صدورها اعتبرت أنها رواية شم، لأنها واحدة من الروايات النادرة في العالم التي تجبر قارئها على استخدام أنفه وحاسة الشم لديه، كونها تغص بالروائح، ولا أزال حتى اليوم أحمل الرسالة الروحية لشخصياتها وأحداثها وأجوائها كما لو أنني انتهيت من قراءتها البارحة، وليس منذ عدة سنوات، في حين لم يترك في نفسي الفيلم الذي صنع عنها أي إحساس سوى الشعور بالأسى كما أسلفت على ما فعله العمل السينمائي بالرواية، وإذا كان من فضل للفيلم على مشاهده، فهو فضل إعادة تذكيره بالرواية لإعادة قراءتها من جديد والاستمتاع بأجوائها التي غيبها الفيلم.

حكم البابا
السبت 22/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع