خيال البيت الصغير



مات والد ليلى وانتقل الى الرفيق الاعلى بعد ان بقي سنينا طوالا مرافقا ظله خلف الباب الكالح في ذاك البيت القديم الذي ابتعد عن الشمس وابتعدت الشمس عنه. قبع العجوز خلف الباب الغارق حتى في ظلمة النهار منذ ان رأيته اول مرة عندما زرت ليلى واخذتني الى اتون الحمى اللذيذة التي تعتريني وتزاملني كلما خطرت لى على بال وحتى يومي هذا.
لم تحزن ليلى على فراقه بعد ان كان فراقه قابعا خلف ظرفة الباب عمرا بحاله.
زرت واهلي بيت ليلى بعد وفاته نطلب لها من الله عزاء جميلا لها وللشيخ الذي ذهب وفارق الدنيا الى اخرى هادئة لم تعبث بها النكبة ولم تغرز بها انيابها كحال دنيانا هذه التي غرب وجهها وقرب نجمها من الافول. شعرت بداخلي ان عيون زهرة قد تبدلت واصبحت اكثر شقاوة ولمعانا وشفتيها المكتنزتين اخفتا بسمة مغرية برضاب لا اشهى ولا اعذب.
تبدل قوامها واعتدل وتناسق بعدما خلعت فستانها القديم وارتدت سروالا يموج بلون عنابي مائل الى السواد اشتد على وسطها وحصر ردفيها في تماوج بديع انتهي في جلجات وانحناءات غارت بها كل عوامل الرغبة التي عرفتها بعمري الفتي آنذاك. سرت بدمي مرارا تلك الحمى البديعة وانا انقل نظراتي على جسدها الخلاسي البض الذي بان هذه المرة على جيدها ووجهها بعد ان فتحت ليلى الباب على مصراعيه مرة واحدة.
قال والدي للحضور وكلهم غرقوا في صمت رهيب "..انتقل رحمه الله من دار فانية الى اخرى خالدة وباقية ما بقي وجه الله عز وجل.. جنات تجري من تحتها الانهار يحفل بها هو وامثاله من الشهداء مع البررة والقديسين". تنهدت ليلى ربما حرقة وألما..وربما فرصة لابراز صدرها الناهد الكبير الذي كتم انفاسي في ذاك الركن المهمل على حافة النور والظلام لاول مرة.
حينها لم اكن اعرف ان صدر المرأة واسع الى ذاك الحد حيث تذوب في رحابه عوالم وبحور ومحيطات مليئة بكنور هذا العالم الفاني السافل كله.
ذرفت امي دمعا كعادتها ليس على الشيخ الذي مات بل على ذاك العالم الآخر الذي تحدث عنه ابي بجهارة ووقار وحرقة. بكت ولا شك ذاك العالم التائه الذي حضن في خفاياه اهلها واحبابها وخاصة اخاها الذي غادر عالمنا قبل اوانه. ما انفكت تذرف دمعا كاويا عند ذكراه او ذكر الموت حتى حسبت انها لا بد تعيش في تلك الذكرى روحا وقلبا يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة.
تابع والدي موعظته على غير عادته. عرفته فلاحا ورجل اعمال وتجارة وهاهو اليوم يحمل في جوفه إماما واعظا وكأنه هابط لتوه من ذاك العالم العلوي.
تنبهت لوهلتي الاولى منذ ان دخلنا بيت العزاء ان ذاك الخيال الذي قبع خلف الباب ذاب وولى بعد ان غزت شمس الاصيل المكان. تابع والدي حديثه الشجي وقال " رحمة الله عليه... بعد ان وقعت الواقعة ابتعد عن الناس وعن معاشرتهم..ماتت شهوته للحياة في عروقه وابتعد عن الحياة الدافقة خلف هذا الباب..لم يكذب ولم يسرق ولم يبق له الا قلب صابر مؤمن خاشع لخالق الارض والسماء ومن عليهما من الانس والجان.." صمت والدي امام دهشتي منه ونقل حجارة مسبحته الواحدة تلو الاخرى التي القت صدى بديعا في ذاك السكون المشوب بالحزن والفقدان. لم يبق لي الا ان اتفرس وجه ابي الخاشع وكيف انقلب في التو والحال من وجه لفحته شمس الايام وارهقته مرارة الحياة وكد السنين الى آخر هادئ مسبل العيون وديع وكانه وجه احد اولئك الحواريين الذين تحلقوا حول عيسى ابن مريم عليه السلام في عشائه الاخير. لم ادر اي مصير انتظر ليلى وجسدها البديع الوافر البالغ الدافق من كل صوب حياة ورغبة. غطى ذاك الجسد اياما وشهورا طويلة سمائي وارضي كلها وغمرها بشفق وردي وبانهار رغبة تدفقت كحمى البراكين ثائرة ومستعرة في كل حين. خفت ان ينفضح امري امام الجالسين وامام عيني امي اللتين رأتاني دوما صغيرا بعيدا عن كيان آخر انصهر في داخلي وتملك وطغى كلما رأت عيني ليلى وكلما عادت تلك الذكرى وانا في طريقي الى لقاء مع تلك الانثى التي اخفت بحورا من الشهوة وقطيعا كاملا من خيول الرغبة الجامحة.
خرجنا من بيت ليلى ورأيتها تختفي مرة اخرى داخل ذاك البيت الصغير بعد ان سمعت صرير الباب الذي لم يفتح على مصراعيه الا بعد ان غاب ذاك الخيال.. بطل والدي.. وترك دنيانا كلها. سرنا نحو المغيب وكانت شمس الاصيل ما زالت حامية ورياح خفيفة شرقية داعبت وجوهنا واغرقتنا في بحر من السكون لم يشقه احد الا حثيت الخطى وسعلات ابي المتلاحقة بعد مساء حرق فيه قسطا وافرا من تبغه الاشقر المفروم. اخذ نفسا طويلا سحب معها رحيق القرية كله وقال موجها حديثه لي".. ابو ليلى كان شيخ الثوار في ثورة الـ 36 ضد الانجليز. فقد بصره وسمعه واصبح عاجزا تماما كما تعرفه بعد ان فجر ورفاقه سكة حديد كانت تنقل الجنود الانجليز من الميناء الى ثكناتهم.
حدث ذاك قريبا من ارضنا المصادرة في نبعة الجواميس" شتت برهة وتهت معه وعادت بي ذكرى قريبة لقطار تلوى كالافعى قريبا من خط البحر الازرق..نعم شاهدته لاول مرة في حياتي عندما جمعنا معا هناك بآلات القش المرصوص. تنهد ابي وتابع حديثه وكان ذاك المساء شجيا وحميما على غير عادته"..حدث الانفجار قبل موعده بلحظات وقبل ان يبتعد الرجال بما فيه الكفاية عن مكان اللغم.. قتل اثنان وجرح الشيخ ابو ليلى وخرج القطار عن سكته وقتل الكثير من عساكر الانجليز" تنهد ثانية بعمق ونظر صوب الغرب الى المد الازرق في الافق وكأنه بحواسه كلها يعود الى الذكرى وتعود الذكرى اليه"..كان ابو ليلى مضرجا بدمائه بين اشلاء صديقيه فاقدا وعيه... يقال ان امرأة خرجت من الدغل القريب.. فلاحة دعوها بالغزاوية نسبة الى غزة هاشم.. عرفتها..نعم لبست على طريقة اهل غزة..ذاك الثوب المقصب الاسود الطويل وذاك الوشاح المعقود فوق الجبين وذاك الوشم على ارنبة الانف وعلى الصدغين..المهم سحبته من مكان الحادث وغارت به في الدغل..داوته وطببته وابقته على قيد الحياة... اعادته الى القرية الى زوجته التي توفيت لاحقا قبل اوانها وتركته مع وحيدته ليلى في هذا العالم المجنون.. مسكينة ليلى بقيت الان وحيدة..يا رب خذ بيدها وكن بعون كل المحتاجين".
اكمل جملته الاخيرة وكانت به غصة والم دفين.. ونحن نقترب من البيت حيث لاحت قمم السروات مع نسمات الاصيل.. واخترق الافاق صهيل حصاننا الرمادي الاروسي الجميل وكانه انتظر عودتنا. دخلت امي البيت ودخل وراءها بعدما ان التفت لي وابتسم ابتسامة حزينة عاقدا حاجبيه مكروبا غائبا بعيدا عنا وعن البيت وربما عن العالم كله. لم اعهده قط في حياتي الصغيرة حاملا كل ذاك الحزن وذاك الشرود حتى عندما عاد تلك الليلة من غربته القسرية مقاوما انواء العاصفة التي رمته خلف الحدود. عاد مع من عادوا متسللا في عتم الليل وزرع وبذر وحصد وخلق حياة من الرماد متجددة ويانعة خضراء رأيتها في البيت وجواره وفي الحقول والكروم وعلى وجوه عماله الكثر اللذين خسروا كل شيء بعد ان اوجد لهم اعمالا وارزاقا في مشاريعه المتنوعة ابعدت عنهم وعن اسرهم فاقة الجوع والضياع فوق ربوع الوطن الممزق بعدما غررت بهم العاصفة واصبحوا فريسة الشتات والضياع.
كانت امي احيانا كثيرة حلقة الوصل بين عائلات العمال وبين ابي. كثيرا حدث ان اتت احداهن لزيارة امي وندبت سوء المصير وضيق الحال وندرة الاعمال وطلبت بصورة او باخرى عملا لزوجها يوفر اسباب العيش البسيطة. قلب امي الرؤوم لم يخيب ابدا رغبة تلك النساء المتعبات الخائفات عندما اسهبن في شرح ظروفن الصعبة وخاصة اولئك المهجرين من قراهم والذين بقوا في الوطن وفقدوا بيوتهم واراضيهم التي وفرت لهم سبل العيش الكريم. صمت الوالد عندما تحدثت امي واسهبت وتهدج صوتها العذب متابعا عشاءه شارد الذهن غائبا عن مكانه خلف الموقد بعيدا عن الدار كلها.
بعد العشاء رشف قهوته واشعل لفافته وامرني ذاك المساء بلطف ان اذهب الى بيت المرأة زائرة النهار ودعوة زوجها لزيارتنا بالحال. علت دائما وجه امي بسمة عرفان وحب وهي تنظر الى زوجها الذي يلبي طلبها ويحقق رغبتها الحقيقية ذاك المساء واعدا الزائر بعمل يوفر له عوامل البقاء في قريتنا المعذبة.
اتجهت صوب الحصان. عندما رآني مقتربا هز برأسه ثلاثا ولوح بذيله وخبط ارض الاسطبل المفروشة بالقش الاصفر الجاف. شخر بانفه مبعدا بقايا التبن الابيض الناعم في مذوده ونظر الي نظرة عتاب..
رهو الحصان كان رقصا بعد ان تطايرت شعرات رقبته وسابقت الريح. عبرنا دار ليلى وبقايا دار العم مسعود العربجي التي هدمتها عن بكرة ابيها الطائرات المغيرة الى اطراف القرية. اختفت هبات الريح وبقيت شمس الاصيل تغمر كل شيء. ها هو زقاق الصبار ينحسر.. وينحسر ويذوب ويبتعد امام الشارع الاسفلتي المعبد الذي بلعه واخفى تحت سواده الى الابد اشجار الصبار وازهارها الصفراء الفاقعة واللبلاب والكرمة البرية والتين واعشاش اليمام وحتى اطياف تلك الكائنات السحرية التي ركنت دوما ومنذ ان وعينا على هذه الدنيا بخفايا اشواك الصبار وقطوف الدوالي التي تلألأت في تموز من كل عام كثريّات ذهبية أتت بها تلك الكائنات من عالم اخر. فقد الحصان رهوته وانعتاقه من رباطه الطويل في الاسطبل وفقدت انا متعة الدخول ثانية في عتم زقاق لم يعد بعد باحثا عن صديقتي الشقية سلمى التي تاهت في قاع المدينة البعيدة. وعدتني باللقاء اول مرة عندما ربطنا حب عذري ولد باواصره السحرية في عتم هذا الزقاق عندما عدنا انا وهي برفقة عمتي من كروم الزيتون في ذاك الغسق الذي مازال يخيم على وجداني حتى ساعتي هذه وسيبقى ما بقي للعمر من بقية. غارالزقاق واختفى امام زحف الاسفلت الاسود واعمدة الكهرباء والبيوت الجديدة المشغولة بالاسمنت المسلح التي ثناثرت هنا وهناك كالفطر بعد الوسم الاول. واصلنا مشوارنا على حافة الاسفلت تاركين المد الاسود للسيارات العابرة وللجرافات الكبير الصفراء التي زمجرت وهي تجرف الصبار واللبلاب والتراب والذكريات وتنثرها في وجه الريح. ربطت الحصان تحت شجرة خروب باقية نائحة وحيدة ونظرت الى تلك الافعى السوداء الرهيبة التي بلعت الزقاق كله. بحثت عن اشجار الصبار وزهرها الاصفر الذي تاه بعتمة الكهرباء.
رأيت سلمى وهي واقفة على عارضة العربة الداهرة وجسدها الفتي اهتز واهتزت على وقعه دقات قلب قطعت نياطه العاصفة. فتشت عن عمتي وعن العم مسعود العربجي وهو يفرقع بسوطه القصير في الهواء مبددا خوفي الذي لبسني حتى اخمص قدمي عندما ولجت معه راكبا عربته لاول مرة نقتحم الزقاق وجهتنا الى الغرب الذي انتهى عند خط الافق الازرق.
هل تظهر بائعة الصبار ثانية من بقايا هذا العتم ؟
هل تعود من غيابها بعد ان تمزقت الواح الصبار وتكسرت اغصان التين ونشفت على اعوادها اوراق الدوالي.؟
هل تظهر تلك العجوز " الساحرة الشمطاء" من عالمها البعيد خلف الزقاق حاملة على رأسها قصعتها الملآنة باكواز الصبار وحبات التين ؟
جلست وغرت وتهت حتى رأيت خيالها قاحما العتمة وعلى رأسها قصعة كبيرة مملوءة باكواز الصبار المشلهبة التي لمعت في اشعة الاصيل. امسكت بيمينها طرف القصعة خوفا من وقوعها وحملت سلة تين بيسارها ومشت الهوينا ساحرة غريبة غارت الحياة وغابت في تجاعيد وجهها الذي لم يعرف الا الشقاء. جرجرت اسمالها فوق حذاء مطاطي اسود امتد حتى ركبتيها. تسامى دخان لفافتها من فمها المعوج وسرح دمع عينيها الذاويتن اللتين غارتا بعيدا خلف جفون نشفتها الشمس وغدت رقيقة كدخان سجائرها.
عندما دخلت دهاليز القرية لفتت صوبها انظار الجميع صغارا وكبارا. جاءت دوما القرية هي وكلبها الاسود قصير الذيل الذي عوى وأقعى وخلف اثره في كل مكان. كانت العجوز فزاعة القرية ارعبت بها الامهات صغارهم بها عندما زادت شقوتهم وعلا صراخهم. رأيت مرة اخي الصغير يكف عن عويله المزعج فجأة عنما ارعبته الوالدة بالحال بتلك العجوز بائعة الصبار وكلبها المهول واخبرته بانها ستطلب من تلك " الساحرة" عند مرورها بجانب بيتنا ان تأخذه معها الى وكرها حيث الكلاب المسعورة والثعابين وحيث تجمعت كل شرور الارض والسماء مؤكدة له ان طريقها تأخذ ولا تعيد.
والدي لم يعجبه الحديث ابتسم عندما سمع الوالدة تهول وتهدد وتخوف. نظر الى اخي الصغير وابتسم ودعاني للجلوس قبالته قائلا بصوت جهوري قائلا
" لا تصدق هذه الخرافات..انها والله امرأة غلبانة وزوجها غلبان مثلها..شيخ عجوز ناهز المئة. جنده الاتراك في السفربرلك. حارب معهم في البلقان وبلاد الصرب في الحرب الكونية الاولى. فر هو وجدك وبعض رجال قريتنا وعادوا اليها. لم يسكن القرية مثلهم بل سكن بعريشة مبنية من فروع الشجر اليابسة والواح الزنك العتيقة. دخل ارضه بعد ان عاهد نفسه الا يبرحها مدى العمر. زرع التين والصبار وعاشر الكواسر والكلاب الضالة. لم يترك الارض ولم ينزل الى القرية منذ ذاك الحين الى يومنا هذا. ابتعد عن الناس وابتعد الناس عنه. عاش مع زوجته هذه التي تراها تحمل قصعات الصبر والتين. لا يعرف احد اصلها ولا فصلها. يقولون انه اتى بها من السفربرلك ويقولون انها غجرية زهقت الترحال وبحثت عن ارض بقاء وبقيت معه. اصبحت حلقة الوصل بينه وبين القرية. باعت منتجها من الصبار والتين والعنب واللوز والتفاح البلدي وابتاعت السكر والشاي والبن ودخان السجائر" لم يكمل والدي حديثه حتى ضاعت مني بائعة الصبار.
عدت والحصان الى البيت وقد غربت الشمس. لمحت خيال امي امام البيت كعادتها. قدمت والقيت تحية المساء وبي حيرة وضيق. ابتسمت كعادتها عندما تراني وبدت على غير عادتها سعيدة للغاية وهي تخبرني.
" ليلى ستتزوج يوم الخميس.. نعم يوم الخميس القادم.. عريسها في المضافة مع والدك يبحثان تفاصيل العرس..انه والله يوم سعيد علينا كلنا".
دخلت البيت بهدوء. زادت بي الغصة والالم. عدت ثانية الى الاسطبل اساهر الحصان واداعبه وازيده شعيرا وتبنا قابضا على رسنه ماسحا عرقه وظهره هامسا في اذنيه.. انت باق معي.. نعم باق معي لن تبرح هذا المكان.. لن احتمل ضياعا آخر بعد اليوم.

(شفاعمرو)

د. فؤاد خطيب
السبت 22/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع