المفكر الماركسي السوري صادق جلال العظم: المؤسسات الدينية الرسمية اليوم في حالة عقم فكري كامل



*الوجود العسكري الغربي في العالم العربي لم ينقطع، كان دائما موجودا بشكل أو بآخر. الحركات الإسلامية في فترة الحرب الباردة كانت حليفة للغرب لمواجهة المد الشيوعي والاتحاد السوفييتي. هذه الحركات عموما مع بعض الاستثناءات غير معروف عنها بأنها بذلت جهودا للتخلص من الوجود الأجنبي في البلدان العربية، وإنما كان ذلك لصيقا بحركات التحرر العربي والمشروع القومي الشعبوي بقيادة عبد الناصر*

 

* بالنظر إلى سيرورة العقل البشري، إلى أي مدى تغيرت قناعاتك منذ صدور كتاب "نقد الفكر الديني" وحتى الآن؟

-  قناعاتي تغيرت بمعني أنني أخذت بالمستجدات والتطورات الحادثة بعين الاعتبار. منذ هزيمة حزيران 1967 وأنا مرن بتفكيري، لا أتجمل ولا أتعصب عند موقف محدد. في كتاب نقد الفكر الديني وصفت ذلك الفكر في تلك الأيام بالبؤس. المقالة الأولى في الكتاب وهي الأكبر كان عنوانها "الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني". الآن أنا أرى أن هذا البؤس قد تعمق وازداد. في تلك الفترة، بين عامي 1969 و1970 كانت هناك محاولة من قبل المفكرين الإسلاميين للتعامل مع قضايا ومسائل العلم الحديث، كانوا يميلون إلى الاحتكام للنقاش والجدل إلى العقل والواقع وإلى مجرى الأحداث. أما الآن فأنا أجد أن الفكر الديني الناشئ حول الإسلام في حالة أعمق من البؤس، بمعنى أننا الآن وصلنا إلى قضايا مثل فتوى إرضاع الكبير، علما أنها ليست صادرة عن شيخ عادي وإنما عن رئيس قسم الحديث في جامعة الأزهر أو مرشد الأزهر. في الفترة التي كتبت فيها كتاب نقد الفكر الديني وناقشت الفكرة كان يصعب أن نجد مثل هذه الفتاوى. من هنا يمكن القول بأن هناك انحدارا كبيرا وابتعادا عن الاحتكام إلى أي شيء عقلاني.
أشبه ذلك مثلا بما يصدر أيضا عن أوساط الأزهر من قبيل التبرك ببول النبي مثلا، أو ما تردد عن حديث الذبابة.. وشيوع هذا الجانب أو المنحي الخرافي في الفضاء الإسلامي. أعتقد أن هذا يمثل انحدارا عن البؤس الذي تحدثت عنه بين عامي 1969 و1970 عندما تكلمت في تلك الفترة عن بؤس الفكر الديني ناقشت بعض المفكرين الإسلاميين ورجال الدين مثل نديم الجسر مفتي طرابلس، وموسى الصدر وغيرهما.. في تلك الفترة لاحظت أنهم يريدون أن يتعاملوا مع العلم الحديث والثورة العلمية والتطبيقات العلمية لكنهم كانوا للأسف يجهلون أي شيء عن العلم الحديث. ما معنى العلم؟ وما هي مناهج البحث العلمي؟ وربما لم تكن لديهم منذ أن تركوا الدراسة الابتدائية فكرة عن الفيزياء أو الكيمياء أو التشريح إلا من خلال ما يقرأونه في الصحف. كانوا يريدون أن يتصدوا للأثر الاجتماعي الذي تتركه التطورات العلمية أو الفتوح التكنولوجية وهم عمليا في حالة جهل شبه كامل بها.
إذا أنا أجد أن هذا قد تعمق الآن. هناك جهل أكبر، وهناك مواقف، خاصة في الإسلام الأصولي، ترفض العلم الحديث رفضا قاطعا، ترفض الغرب وكل ما أنتج. وإذا دفعت تفكيرهم إلى النتيجة المنطقية يصبحون طالبان في هذه المسألة. هم يمسكون بقضايا في منتهى السخف.. مثلا أنا قرأت بعض فتاوى الإمام الخميني، والتي يطرح في أحدها صعود المسلم في كبسولة الفضاء ويناقش كيف سيقيم الصلاة ويتعرف على اتجاه القبلة في الفضاء الخارجي؟ وفي الفضاء طبعا لا يوجد شمال ولا جنوب، والكبسولة تدور بسرعة هائلة في مدار معين في الفضاء، أيضا المسلم عندما صعد إلى الفضاء صعد بكبسولة روسية أو أمريكية لأن الكبسولة العربية أو الإسلامية غير موجودة أصلا. المشكلة أن الخميني لم يرَ شيئا من إنجازات وفتوحات وعلوم ومعارف وتكنولوجيا الفضاء، كل ما خطر في باله كيف يركع المسلم ويصلي، وإذا ما جلس لفترة طويلة كيف يصوم؟! بعد هذا النقاش توصل الخميني إلى نتيجة أجاز فيها للمسلم بأن يصلي بالاتجاهات الأربعة. طبعا هذا المنحى في التفكير ينم عن جهل كامل، فالاتجاهات هي مسألة عرفية، ولا يوجد اتجاهات أربعة في الطبيعة. الاتجاهات هي مسألة تعارفنا عليها شمال وجنوب شرق وغرب. مع ذلك هو اعتبر مع الأسف أننا إذا خرجنا من على سطح الكرة الأرضية ما زال هناك اتجاهات.
هم يتصدون لقضايا مثل أطفال الأنابيب أو ما يحدث مثلا على مستوي الحمض النووي "DNA" والاستنساخ.. وغيرها من الفتوح والاكتشافات العلمية. ليس لديهم أي معرفة بطبيعة هذه العلوم وكيف توصل إليها العلماء؟ وما هي التجارب التي سبقتها؟ ليس لديهم ثقافة علمية، وهم راديكاليون في ذلك. هذا عند الشيعة، وهناك أيضا عند السنة الشيخ عبد العزيز بن باز وهو كبير علماء المملكة العربية السعودية.

* عفوا دكتور.. لا أدري إذا كان يمكننا الحديث بالأسماء.. ربما يكون ذلك حساسا لدى البعض؟

-  إن كون الحديث في هذا الموضوع حساسا فهذا دليل إضافي كم أصبح وضعنا كارثيا.. على كل أنا سأقول رأيي ويمكنك التصرف. في كتاب بن باز الصادر عام 1985 رفض كليا فكرة كروية الأرض، كان يناقش المسألة علي أساس أن الأرض مسطحة! رفض كليا فكرة دوران الأرض حول الشمس... الكتاب موجود لدي وبإمكانك أن تتأكد من هذا الكلام. حسب رأيه الأرض لا تدور حول الشمس وإنما الشمس هي التي تدور حول الأرض! لقد أعادنا إلى الفلك القديم إلى ما قبل كوبيرنيكوس. طبعا في هذا الكتاب كفّر بن باز كل من يقول بأن الأرض كروية وبأنها تدور حول الشمس. على كل حال هو حرّ بآرائه. لكن الكارثة الكبرى أن أحدا لم يتجرأ لا من علماء الدين ولا من مؤسسات العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه، من الأزهر والزيتونة إلى القرضاوي والترابي وكفتارو وكليات الشريعة... لا أحد تجرأ على القول لابن باز ما هذا الهراء الذي تقول به باسم الدين الإسلامي؟! وكونك تقول لي أن هذه مسألة حساسة.. فمعنى ذلك أنني لا أستطيع أن أرد على بن باز عندما يقول إن الأرض مسطحة وأنها لا تدور حول الشمس وإنما هي تشرق وتغرب على الطريقة القديمة! هذه كارثة.. والكارثة الأكبر أننا لا نستطيع مجرد الرد عليهم.
النقطة الثالثة هي أن المؤسسات الدينية الرسمية، وعلي رأسها الأزهر وكليات الشريعة ودور الإفتاء، وغيرها.. هي اليوم في حالة عقم فكري كامل. لا يخرج منها شيء سوي بضاعة من قبيل إرضاع الكبير، وحديث الذبابة والتبرك ببول النبي وجلد الصحافيين.. الساحة متروكة تقريبا للفكر الأصولي الجهادي، وهو الوحيد الذي يطرح أفكارا جديرة بأن تناقش وترفض، وذلك بسبب عقم المؤسسات الرسمية الأساسية التي تعتبر قدوة، ليس فيها سوى التكرار والاجترار والتحجر والعودة إلى الماضي وحماية المصالح والإبقاء علي الوضع القائم والخضوع للسلطات الحاكمة. عندما تكون سياسة الدولة اشتراكية يصبح مفتي الإسلام اشتراكيا، وعندما يكون الحكام في حالة حرب يصبحون مع الحرب، وإذا جنحوا للسلم يسيرون وراءهم... هذا جزء من عقم هذه المؤسسات، وهو فراغ واضح في الفكر الديني، يملؤه أحفاد وأتباع سيد قطب مثلا وهذا النوع من الإسلام الأصولي العنيف.

* في مؤلفاتك ومقولاتك تركيز على النقد. من النقد الذاتي بعد الهزيمة إلي نقد الفكر الديني.. والآن كلامك يحمل جانبا كبيرا من النقد. في مقابل نقدك للفكر والواقع الديني القائم هل تمارس نقدا ذاتيا لنتاجك الفكري؟

-  في الواقع نادرا ما أرجع إلى الكتب التي ألفتها إلا إذا أرادوا إعادة طباعتها. مثلا عندما طبع كتاب النقد الذاتي بعد الهزيمة مؤخرا، كتبت لهم مقدمة صغيرة. أما كتاب نقد الفكر الديني فقد أصبح شبه وثيقة لتلك المرحلة، ولذلك لا أرى أن من المناسب أن أغير أو أبدل فيه، خاصة أنه لم ينقطع عن السوق على الإطلاق منذ صدوره وحتى الآن هو موجود بشكل دائم. لكني أراجع نفسي بالنسبة للأفكار بحيث آخذ بعين الاعتبار المستجدات الراهنة. مثلا عندما كتبت عن سلمان رشدي والآيات الشيطانية، استخدمت بعض الأفكار التي كنت قد تناولتها بشكل جنيني في كتاب نقد الفكر الديني، وأعتقد أنني طورتها بما يتناسب مع الحالة المشخصة المعينة في مسألة النقاش الذي دار حول رواية رشدي. هناك أمور في الكتاب مر عليها الزمن، سقطت لأنها كأي كتاب وليدة أو نتاج مرحلة معينة. في أواخر الستينيات كانت بلادنا في أوج التوجه القومي والاشتراكي والشعبوي، والكتاب متأثر بذلك بلا شك، هذه مسألة يمكن إهمالها الآن. الطريف في هذا الموضوع أو اللافت أن هناك الآن من يقوم بترجمة كتاب نقد الفكر الديني إلى اللغة الانكليزية، وسينشر قريبا، في ولاية أريزونا بالولايات المتحدة. طبعا الكتاب كُتب عنه في الغرب كثيرا لكن لم يترجم كاملا، ترجمت بضع مقاطع منه، والآن بعد 40 سنة على صدور هذا الكتاب تنبهوا إلى أهميته بسبب الوضع الحالي. وقعت أيضا منذ فترة قصيرة عقدا مع دار نشر فرنسية لترجمة الكتاب، أيضا يريدون ترجمة الكتاب إلى الفرنسية.
في العالم العربي لم ينقطع، الكتاب كان موجودا على الدوام، هو ممنوع في كل مكان، لكن من يريد يستطيع الحصول عليه ولا مشكلة في ذلك. الآن هناك اهتمام بهذا الكتاب في الخارج ليس فقط على مستوي قضية الكتاب ذاتها وإنما هناك رغبة بأن يكون النص متوفرا بالانكليزية والفرنسية.

* إلى أي مدى في رأيك تأثرت الحركات الإسلامية الجهادية في عالمنا العربي بالوجود العسكري الأجنبي في المنطقة العربية وبالاحتلالات عموما سواء الإسرائيلي أو الأمريكي؟

-   الوجود العسكري الغربي في العالم العربي لم ينقطع، كان دائما موجودا بشكل أو بآخر. الحركات الإسلامية في فترة الحرب الباردة كانت حليفة للغرب لمواجهة المد الشيوعي والاتحاد السوفييتي. هذه الحركات عموما مع بعض الاستثناءات غير معروف عنها بأنها بذلت جهودا للتخلص من الوجود الأجنبي في البلدان العربية، وإنما كان ذلك لصيقا بحركات التحرر العربي والمشروع القومي الشعبوي بقيادة عبد الناصر، وقد عشنا ذلك في الخمسينيات والستينيات. في تلك الفترة نجح القوميون نسبيا لكني لا أعتقد بأنهم نجحوا كليا وبقي هناك تواجد أجنبي في بعض البلدان العربية. في التجربة الأفغانية مثلا كان الحلف الإسلامي الغربي عسكريا وحميما ومباشرا من أجل محاربة الاتحاد السوفييتي آنذاك. لذلك لا أعتقد بأن الوجود العسكري الأجنبي هو سبب مباشر للعمليات التي قامت بها الحركات الجهادية أو ما جرى مثلا في الجزائر والسودان وسوريا ومصر في تلك الفترة.
أعتقد أن الحركات الإسلامية الجهادية كان لديها وهم بأنها قادرة على إسقاط الإمبراطورية السوفييتية، لكنها نسيت أو تجاهلت أن هذا الهدف كان مستحيلا دون التحالف مع الولايات المتحدة والغرب. هم يعتقدون بأنهم أسقوطها فعلا وأن الله قدّر لهم ذلك وساعدهم على إنجازه... وإذا سلمنا جدلا بذلك، فلماذا هم عاجزون الآن عن إسقاط الإمبراطورية الأمريكية؟ تلعب الإيديولوجيا دورا كبيرا في قناعات وسلوك هذه الحركات، بمعني أنها تؤمن بوجوب عودة الإسلام ليتحكم ويسيطر في البداية على الدول العربية والإسلامية ثم يمتد للسيطرة على العالم. أعتقد بأن هذا الدافع قوي جدا لديها أكثر من مجرد وجود قاعدة للأمريكان أو للإنكليز هنا أو هناك في العالم العربي.

* لكن أليس هناك ارتباط بين ظهور الحركات الإسلامية الجهادية كحماس وحزب الله وتعاظم دور القاعدة في العالم بالاحتلالين الإسرائيلي والأمريكي؟

-  أنا لا أنكر أن هذا العنصر أسهم في بروز تلك الحركات وازدياد شعبيتها، لا سيما بعد إخفاق التيار القومي الذي يميل للعلمانية رغم أنه لم يتبناها كشعار أساسي كما حصل في تركيا مثلا. وقد أدى ذلك إلى تعميق الشعور بالذلّ والتهميش والإحساس بالإخفاق، وخلق فراغا فجائيا وغير متوقع، جاءت الحركات الإسلامية لتملأه. وقد التقط هذه الظاهرة بعد هزيمة حزيران 1967 عدد من النقاد كنت من بينهم في كتابي النقد الذاتي بعد الهزيمة وأيضا في نقد الفكر الديني.

* إلى أي مدى أسهمت الشعارات التي ترفعها الحركات الإسلامية كالإسلام هو الحل مثلا في استقطاب الناس واستمالتهم إليها؟

- لا شك بأن رفع شعار الإسلام هو الحل في بلد إسلامي هو شعار جذاب يستقطب الناس، لكني أعتقد أن هذا الاستقطاب سطحي عاطفي، لأن الناس عندما يدققون في ماهية هذا الشعار والبرنامج الذي ينطوي عليه يبدأون بإعادة النظر والنقاش وتظهر تساؤلات ملحة من قبيل هل يعني شعار الإسلام هو الحل عودة الخلافة مثلا؟ وهل عودة الخلافة برنامج واقعي؟ الخ.. أنا أعتقد أن الخلافة يمكن أن تعود عندما يعود "البوربون" أو لويس السادس عشر لحكم فرنسا وعندما يعود القياصرة لحكم روسيا، وهناك حزب قيصري في روسيا يريد أن يقيم قيصرية دستورية فيها، فإذا نجح يمكن أن ينجح الإسلاميون بإعادة الخلافة. أما تطبيق الشريعة من وجهة نظر هذه التيارات فيمكن اختصاره بقانون العقوبات الذي يعني الجلد والرجم وقطع الأيدي والأرجل والرؤوس، الخ.. لكن ماذا سيحدث مثلا لو أن فلانا من الناس تعرض هو أو ولده أو أحد أقاربه لعقوبة الجلد أو قطع اليد وما إلى ذلك؟ في هذه الحالة سيرفض هذا الشخص قانون العقوبات هذا.. يمكن أن يقبل بالتغريم أو السجن أو أي عقاب آخر لكن لن يقبل بالجلد أو الرجم أو قطع اليد.. وهنا تكمن المشكلة.
عندما يصل الإسلاميون إلى السلطة كما حصل في السودان مثلا يتحفظون ويخشون من تطبيق هذه العقوبات. فعندما تدقق في تفاصيل شعار الإسلام هو الحل تجد أن الناس قد توجست وتراجعت حول معنى هذا الشعار. هل يعني أن تذهب إلى المسيحيين وتفرض عليهم الجزية؟ في دولنا مصر وسوريا مثلا هناك مسيحيين استشهدوا في حروبنا مع إسرائيل، ويعاملون الآن معاملة الشهداء وأبناؤهم هم أبناء الشهداء، فإذا طبقنا الشريعة ماذا سيحدث لهؤلاء؟ وهل سيعتبرون شهداء أم لا؟ أليسوا شهداء ماتوا من أجل الوطن في حروب سيناء والجولان؟ كم من المسلمين في مصر أو سوريا يقبلون بذلك؟ وبالمناسبة مرشد الأخوان المسلمين السابق في مصر كان صريحا حين دعا إلى إخراج المسيحيين من الجيش المصري باعتبارهم من أهل الذمة. أنا أعتقد بأن فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية هي الأحكام العرفية عند الإسلاميين. عندما يستلم الضباط السلطة يعلنون حالة الطوارئ وقانون الأحكام العرفية، وعندما يصل الإسلاميون يعلنون تطبيق الشريعة وبذلك لا يختلف هذا عن ذاك، وأنا أرى أن الدور الأكبر لهما هو إرهاب الناس.

* هل يمكن القول إن الحركات الدينية هي نتاج أو رد فعل على عجز الأنظمة العربية في الماضي والحاضر عن بناء دولة المواطنة؟ وبالمقابل هل يمكن لهذه الحركات أن تقيم دولة المواطنة في حال وصولها إلى الحكم؟

-  أولا: دولة المواطنة هي عملية تاريخية طويلة الأمد، ولا نستطيع القول إن هذا النظام أو ذاك فشل في بنائها. لكن يمكن القول إن هذا النظام أسهم في تحسين المناخ العام لقيام دولة المواطنة وذاك النظام تراجع أو أخفق. ثانيا: أعتقد بأن الإسلاميين لا يريدون دولة مواطنة تساوي الذمي بالمسلم السني في الدول العربية وبالمسلم الشيعي في إيران الذي ينبغي أن يكون شيعيا حتى يعتبر مواطنا درجة أولى. لكن في العموم أعتقد بأن القول بعجز الأنظمة عن بناء دولة المواطنة أسهم في بروز الإسلاميين صحيح جزئيا. وعلى كل حال مسألة المواطنة ليست مهمة بالنسبة للتيارات الإسلامية. الآن هم يتكلمون عن المواطنة لكني أشك كثيرا في جديتهم. لا سيما أن أحزابهم السياسية تقوم على أساس طائفي بحيث تكون محصورة بالسنة أو بالشيعة أو بغيرهم.. الخ. عندما تقوم الأغلبية السنية بإنشاء حزب على أساس ديني طائفي فإنها بذلك تكون قدوة لبقية الطوائف وتشجعها على تأسيس أحزاب خاصة بها. وبالتالي فإن فكرة تأسيس أحزاب على أساس ديني أو طائفي تعزز انهيار فكرة المواطنة. وأعتقد أن ذلك لا يقل خطورة عن إنشاء حزب على أساس عرقي في ألمانيا مثلا لأن ذلك يعني العودة إلى النازية.

* هل ينطبق ذلك على الحركات الإسلامية التي تؤمن بالانخراط في العمل السياسي والتداول السلمي للسلطة، حزب العدالة والتنمية في تركيا مثالا؟

- التجربة التركية نموذج هام جدا. لكن باستثناء تركيا فإن الأحزاب ذات الطابع الديني تعتبر أن لديها مهمة إعادة أسلمة المجتمع. إذا وصلت إلى السلطة سواء عن طريق الانتخابات أو بالانقلاب تتشبث بها لإتمام هذه المهمة. وأعتقد أن كلامهم عن تداول السلطة تكتيكي تملقي لا أعطيه أية أهمية. تركيا البلد الإسلامي الوحيد الذي يعتمد إيديولوجيا وعقيدة علمانية، وقد أعلن منذ بداية تأسيس الجمهورية التركية أن هذه الجمهورية علمانية، بمعني أنها محايدة دينيا.. هذا البلد هو أيضا البلد الوحيد الذي أنتج حزبا ذا أصول إسلامية ولكنه دمقراطي وقادر على الوصول إلى السلطة بانتخابات نزيهة ويحكم دون أن تحل كارثة في البلاد. بدون علمانية تركيا فكرة أن الإسلاميين يتداولون السلطة كانت أيضا مستحيلة. الشرط المسبق الذي سمح لتركيا بإنتاج حزب العدالة والتنمية هو كون الدولة بالأساس علمانية، وهذا غير موجود في أي بلد آخر. وهنا تكمن أهمية التجربة التركية.

* ماذا لو كان هناك مثل هذا الحزب في العالم العربي؟

-  الآن هناك نقاشات تجري حول الإسلام السياسي التركي وتطور حزب العدالة والتنمية حتى وصل إلى السلطة دمقراطيا. وإذا خسر الانتخابات هو مستعد لأن ينسحب ويصبح معارضة، وربما يعود مجددا. وأعتقد بأن هذا النموذج من الإسلام السياسي غير موجود في العالم العربي.

* هل ذلك بسبب قبول حزب العدالة والتنمية في تركيا بقواعد اللعبة الديمقراطية؟

-  نعم ولكن ذلك حصل بعد مخاض طويل وتطور تاريخي حتي وصل إلى قناعة بأن أي دور في الحياة السياسية التركية لهذا الحزب مشروط بالتقيد بقواعد اللعبة الدمقراطية. والمفارقة أن الإسلاميين الحاكمين في تركيا اليوم يريدون الانضمام إلى الاتحاد الأوربي المسيحي، بينما الجيش حامي العلمانية الأساسي يتحفظ على الفكرة ويعرقلها.

* من خلال احتكاكك بالمثقفين والمفكرين السوريين والعرب. هل أنت مطمئن لمستقبل الثقافة في سوريا والعالم العربي؟

- اطمئنان حذر جدا. أنا في هذه المسألة "متشائم بالنسبة للثقافة العربية عموما. فيما يتعلق بسوريا هناك نشاط ملموس وحضور في الداخل والخارج رغم أن حوامل الثقافة وأدواتها ما زالت متواضعة جدا في سوريا. شعرت بهذا النشاط الثقافي منذ فترة ما يسمى "ربيع دمشق". بعد سنوات طويلة من الرقابة والمصادرة وعندما شعر المثقفون السوريون بأن لديهم الفرصة للتعبير عن آرائهم والإسهام في الحراك الثقافي والسياسي تبين أنهم مطلعون ومتابعون ولديهم أسلوب حديث في الكتابة وفي طريقة عرض الأفكار. لدى المثقفين السوريين حضور متميز ولامع قياسا بعدد سكان سوريا وظروفها.

* بالنظر إلى التطورات السياسية في الداخل خلال السنوات الأخيرة المتمثلة بإغلاق المنتديات واعتقال عدد من أعضاء المجلس الوطني لإعلان دمشق... هل يمكن إعلان النعي لأشهر العسل التي سادت بين المثقفين والسلطة والقول بأن ربيع دمشق قد تمظهر خريفا دائما؟

-  كان هناك شهر عسل طويل بين المثقفين والسلطات. هذه العلاقة كان يشوبها دائما المشاكل والتوترات. وبطبيعة الحال المثقفون الجيدون يميلون لانتقاد السلطة، والسلطة بدورها لا تحب النقد، وخاصة في المرحلة الشعبوية التعبوية التي مرت بها بلادنا، بحيث يكون الجميع كتلة واحدة تسير بالاتجاه الصحيح وتحت قيادة واحدة. المثقف في لحظات معينة يسير في هذا الاتجاه لكن يبقى له دائما موقعه وخصوصيته. وبالتالي يمكن القول أن شهر العسل هذا كان صعبا ونادرا في بلادنا علما أن المثقفين في هذه القضايا يدققون كثيرا، فالمسألة ليست مجرد عداء عبثي مطلق للسلطة، وكذلك ليست تأييدا أعمي وسيرا في الركب بعيون مغمضة. ولذلك أنا أرى أن الموقف النقدي المبدئي هو الأهم فيما يتعلق بدور المثقف كضمير داخل مجتمعه.

* لكن هناك من يقول إن ما تعيشه بلداننا من أزمات سواء على مستوي الأنظمة أو المجتمعات ليس أكثر من نتاج لثقافتها السائدة. إلى أي مدى يصح ذلك؟

-  أعتقد بأننا أحيانا عندما نتحدث بهذا المنطق نحمل الثقافة أكثر مما تحتمل. الثقافة ليست المحرك الأول لحياة المجتمع. ولا المحرك الأول للسياسات المتبعة. ليست المحرك الأول للتوجه التاريخي لهذا البلد العربي أو ذاك. هناك من يقول بذلك، لكن هناك أزمات على مستوى آخر تنعكس في الثقافة السائدة للمجتمعات.

* هل ترى أن الأزمة هي على مستوى السلطة أكثر منها أزمة ثقافة مجتمعية تنعكس بدورها على الواقع العربي؟

-  قد تكون أزمة سلطة أو اقتصاد أو أزمة نخب أو غيرها.. لكن لا يمكن القول أننا بسبب ثقافتنا نعاني كل هذه المشكلات.

* هل الأزمة الحالية التي نعيشها هي نتاج للسلطة أم لثقافة وتراث المجتمعات ذاتها؟

-  الاثنان معا. أي أن ثقافة الشعوب وتراثها فيها الكثير من المعوقات. وهناك في الوقت نفسه تردد وإحجام خاصة في الفترة الحالية، عن مراجعة هذه المعيقات، تحديدها، التدقيق فيها، نقدها... من أجل تجاوزها وإسقاطها. هذا التوجه بات ضعيفا الآن، وهناك نوع من الخنوع والخضوع أمام التراث والأعراف والتقاليد.. سواء أكانت معوقة أم لا.
عندما ننظر إلى العالم العربي بشكل مبسط.. هو يستهلك كل شيء ولا ينتج شيئا، باستثناء المواد الخام. ماذا يمكن أن نتوقع من العرب؟ انظر إلى العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه لا يوجد قيمة مضافة حقيقية لأي شيء. هناك بنية يبدو أنها لا تشجع وغير صالحة لأي إنتاج. ماذا ننتج؟ ماذا نصدر؟ سواء أكان إنتاجا ماديا أو اقتصاديا أو علميا أو فكريا.. الخ. انظر إلى كيفية إنتاج النفط مثلا. ما علاقة العرب بصناعة النفط؟ هم يمتلكون البترول لكن استخراجه وتكريره وتسويقه والبواخر التي تحمله... كل ذلك لا علاقة لهم به. انظر إلى تلك المنشآت الكبرى الهائلة المعدة للتنقيب عن النفط واستخراجه وتكريره. انظر إلى القمر الصناعي العربي، ما العربي فيه؟ أنا أشك في قدرة العرب على تصنيع جهاز هاتف دون أن يستوردوا القطع والتقنيات اللازمة لذلك وربما الفنيين.

* هناك من يقول على مستوي السلطات وحتى على مستوى المثقفين والناس العاديين بأن المجتمعات العربية عموما غير مؤهلة للانخراط في عملية دمقراطية، ويستشهدون ببعض التجارب غير المشجعة في الجزائر ولبنان والعراق وفلسطين.. وغيرها. بل حتى على مستوي التجمعات والأحزاب ومنظمات حقوق الإنسان التي طالما شهدت انشقاقات وانقسامات كان آخرها في ائتلاف إعلان دمشق السوري المعارض. هل يمكن لمجتمعاتنا العربية ببنيتها ومنظومتها الراهنة إنتاج دمقراطية حقيقية تعيش وتستمر دون أن تخلف انقسامات وأزمات سياسية واضطرابات أمنية وصراعات وحروبا أهلية..؟

-  يجب علينا أن ننطلق من حقيقة مفادها أن أي مجتمع في الأساس غير مؤهل للدمقراطية بشكل طبيعي. الدمقراطية هي عملية تراكمية تاريخية ومن الخطأ أن نأخذ موقفا تعجيزيا بأنه طالما نحن عشائريون وقبليون وطائفيون فعلينا إلغاء فكرة الدمقراطية برمتها ونقول إنها لا تناسبنا وينبغي أن نغلق الباب أمامها. في الصين يقولون رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة.
أنا مع المحاولات والتجارب، وهناك تجارب سابقة يمكن الاستفادة منها. أنا لست يائسا أو مستسلما رغم إدراكي لصعوبة المسألة والتعقيدات الكامنة في بنيتنا. لكن بالأساس لا أحد كانت لديه بنية مناسبة أو صالحة للدمقراطية.
نحن مثلنا مثل غيرنا يمكن أن نتعلم، يمكن أن نحقق 20 بالمائة، ثم 30 و40 و50 وهكذا. العملية تراكمية وتتوقف على الخطوات التي نتخذها ونسير بها وعلى إعداد الناس في المدارس والمؤسسات التعليمية وتأهيلهم باتجاه ممارسة دمقراطية تدريجية. وإلا أصبحنا محكومين بمقولة "كما تكونون يولى عليكم"، عشائريون يولى عليكم عشائر. متخلفون يولى عليكم متخلفون. قبليون يولى عليكم قبائل. طائفيون يولى عليكم طوائف.. الخ. وبذلك نقع ضمن دائرة محكمة الإغلاق لا مخرج منها. أو ينطبق علينا القول العربي "الناس على دين ملوكهم". فإذا كان الملك دمقراطيا كلنا نصبح دمقراطيين. وإذا كان الزعيم أو القائد ديكتاتورا كلنا نصبح ديكتاتوريين... وكأننا نحكم علي أنفسنا بالعيش في وضع سكوني لا فكاك منه، وأنا أرفض ذلك.

* هناك من يشكك في قدرة العقل العربي الراهن على إنتاج دمقراطية تصمد وتستمر. هل ترى أن هذا العقل العربي قادر على إنتاج دمقراطية تعيش وتستمر وتصبح منهجا وسلوكا اعتياديا في بلداننا؟

-  يصعب على العقل العربي ببنيته الراهنة إنتاج الدمقراطية، لكني لا أعتقد بأن هذا العقل ثابت أزلي. أنا أقبل بنموذج ناجح بحدود 30 بالمائة، رغم أننا حتى الآن غير قادرين على تحقيق ذلك. في لبنان هناك دمقراطية طوائف، هناك محاصصة، ليست دمقراطية تقوم علي أساس المواطنة، النظام السياسي في لبنان يمنع الديكتاتورية بحكم التوازنات القائمة علي أساس طائفي، لكنه لا يحقق دمقراطية حقيقية تقوم على أساس المواطنة. وكذلك الأمر في العراق الذي يسير في ذات الاتجاه.

* ما الذي يفتقده العقل العربي حتى يستطيع قبول الآخر أو الشريك في الوطن كما هو. ماذا يحتاج حتى يستطيع تحقيق هذه المعادلة المستحيلة الحل حتى الآن؟

-  هذه المسائل يتعلمها الفرد نتيجة قسوة البدائل التاريخية. ويمكن أن نستحضر في هذا السياق العراق كمثال. أنا أرى أن على العراقيين إذا أرادوا الحفاظ على وحدة بلدهم وتجنب حرب أهلية طاحنة، أن يتعلموا من هذه الأحداث التي يمرون بها دروسا تاريخية. الأكثرية الشيعية في العراق لا تستطيع القول بأن الدمقراطية تعني حكم الأكثرية وتسكت. يجب أن تقول بأنها تعني حكم الأكثرية مع حفظ حقوق الأقليات، وأقصد الأقليات السياسية وليس بالضرورة الأقليات العددية العرقية أو الدينية.. هم يقولون نحن أكثرية وبالتالي نحكم، والدمقراطية هي حكم الأكثرية وهذا يجانب الصواب. الدمقراطية هي حكم الأكثرية مع حفظ حقوق الأقليات وإلا فإن البلاد ستواجه الانقسام والحرب الأهلية والخراب.. هذه المسألة يجب أن يتعلمها العقل العربي، بأن يقبل بالآخر ويقبل بوصول الأقلية نفسها إذا ما رتبت تحالفاتها لتصبح أكثرية دون أن تمارس الإقصاء أو تنتقم من الأكثرية بعد وصولها إلى السلطة.
في العراق أيضا هناك أحزاب وتيارات إسلامية كثيرة من مذاهب مختلفة. هل هي قادرة على تطبيق الشريعة على الطريقة الشيعية أو السنية مثلا؟ إلا إذا كانت مستعدة لخوض حرب أهلية طاحنة. ماذا تتعلم من ذلك إذا كنت لا تريد حربا أهلية ولا تفتيت البلاد؟ تتعلم حكما أن تقيم دولة لا سنية ولا شيعية بل دولة تقوم على أساس المواطنة والحق والقانون والعدالة الاجتماعية. هذه القناعة تأتي نتاج دروس تاريخية. لكن هناك من يتعلم بسرعة وهناك من لا يتعلم أبدا. في لبنان مثلا لم يتعلموا، مروا بحرب أهلية طاحنة لمدة ستة عشر عاما، وبالنظر إلى ما يجري الآن يشعر المرء أنهم لم يتعلموا شيئا منها، خصوصا فيما يتعلق بالمسألة الطائفية.

* فيما يخص الشأن اللبناني. أثار رأيك في وصف انتصار حزب الله بالانتصار غير المظفر، سواء في الندوة التي عقدت في مكتبة الأسد في معرض الكتاب الأخير، أو في مقابلتك مع جريدة الأخبار اللبنانية.. هل ما زلت عند رأيك هذا؟

-  لم يطرأ شيء يجعلني أغير رأيي. خاصة بعدما سمعت السيد حسن نصر الله يعترف بأنه لو كان يعلم بأن عملية أسر الجنديين ستؤدي إلى هذه النتيجة لما كان سمح بها. هناك تعبير يقول بأن هناك نصرا بروسيا، بمعني أن كلفة هذا النصر باهظة جدا لدرجة تشعرك بأن وضعك بعد النصر ليس أفضل من وضعك قبل النصر. طبعا السيد نصر الله كان عنده ما يكفي من الجرأة والصراحة ليعترف بذلك.

* ماذا عن وصف النصر بأنه نصر إلهي؟

-  هناك اعتبارات كثيرة وراء ذلك تتعلق بالتعبئة والمعتقدات وغيرها.. لكنني أرى أننا بهذه الطريقة نسلب هؤلاء الأبطال الذين قاتلوا وصمدوا شيئا من كفاءتهم ومقدرتهم وذكائهم. ربما أصبح الآن حزب الله عسكريا وجهوزيا أقوى من السابق، لكني أرى أن هذا الحزب في وضع لا يحسد عليه بالنظر إلى الانعطاف من الكفاح ضد إسرائيل نحو اللعبة الداخلية اللبنانية وتضييع طاقات الحزب في زواريب السياسة الصغيرة في لبنان. فهو اليوم بدلا من مقارعة إسرائيل وجنرالاتها، يقارع وليد جنبلاط والحريري وغيرهم من السياسيين اللبنانيين.

* ربما يأتي ذلك من شعوره بأنه مهدد في حال جاء رئيس لبناني وحكومة تعمل على نزع سلاح حزب الله؟

-  أنا أتحفظ على كلمة مهدد. هذه الكلمة أكبر من واقع الحال.. أنا أشعر عندما أكون في لبنان بأن الآخرين مهددون من طرف على هذا المستوى العالي من التسليح والقوة والتنظيم والتدريب كحزب الله.

* هل ترى أن مرجعية حزب الله هي أولا وأخيرا في إيران؟

-  لا شك بأنهم يحسبون حسابا لإيران وسوريا أيضا. لكن أنا غير مقتنع بمسألة التبعية الكاملة. أعتقد بأن لديهم حساباتهم الحزبية والوطنية. هذه المقولة باعتبارهم تابعين لإيران وسوريا مثل مقولة النصر الإلهي. لا شك بأن من يمول ويسلح ويساعد يمتلك وزنا ورأيا وتأثيرا، وهذا أمر طبيعي. مثلما كانت حركة فتح في الماضي تتأثر بتوجهات عبد الناصر، أو القيادة في سوريا تؤثر علي التنظيمات الفلسطينية... هذا جزء من الحراك الطبيعي للعلاقات والتحالفات السياسية والانكسارات التي قد تمنى بها. عرفات كان أحيانا يصطدم مع سوريا وأحيانا يقول إنها رئة المقاومة.

* لماذا كتب صادق جلال العظم ولمن؟

-  (يضحك ..) أعتقد بأن الكتابة بالنسبة لأستاذ جامعي هي في الأساس جزء من البحث العلمي. في البداية كتاباتي كانت مرتبطة بدراستي للفلسفة الأوروبية الحديثة. لكن ما دفعني للكتابة في قضايا الشأن السياسي أو العام هو هزيمة حزيران 1967 لو طرح أحد ما عليّ أمر الكتابة قبل ذلك الحين وقال بأنني سأكتب بعض الكتب التي كتبتها لاحقا، لاتهمته بالجنون وقلت بأنني لن أخوض في هذه القضايا. كان يمكن أن أعطي رأيي انطلاقا من متابعتي واهتمامي بالشأن العام، لكني ما كنت لأخوض في هذه القضايا لولا الصدمة التي أحدثتها هزيمة حرب 1967 .
كتبت قبل هزيمة العام 1967 للمهتمين بالشأن الفلسفي، كنت أكتب للمثقفين ممن لديهم استعداد لأخذ مواقف تنويرية وتقدمية ولتطوير الأفكار والمواقف والثقافات على أساس الحركة النهضوية التنويرية العربية. أما بعد العام 1967 فكان التوجه إلى القوى الفاعلة في مجتمعاتنا. في تلك المرحلة جميعنا أصبنا بالصدمة والإحباط. فأصبحت أكتب للجميع لأننا جميعا كمثقفين كنا نريد أن نقول شيئا، إذ لا يمكن أن يحصل شيء بهذا المستوى من الكارثية دون أن تقول شيئا كمثقف.

* هل كانت نتائج وأصداء كتاباتك في تلك المرحلة مرضية بالنسبة إليك؟

-  من ناحية الأصداء، كانت هناك أصداء كبيرة، وأعطت مفاعيل كانت أحيانا غير مريحة لي. لكنها كانت مفاعيل وأصداء واسعة، مثلا كتاب نقد الفكر الديني المؤلف من مائتي صفحة كتب عنه حوالي 1500 صفحة، وهذا جزء من حيوية الثقافة في تلك المرحلة. عندما كانت تطرح فكرة نقدية تثير الجدل بهذا الشكل الواسع الذي جرى. أيضا كتاب النقد الذاتي بعد الهزيمة كتب عنه الكثير وترك أثرا كما كتب عنه في الغرب.

* هل أنت حقا ملحد أو "دمشقي كافر" كما وصفك البعض؟

-  (يضحك..) هل تتصور أن مثقفا جديا مطلعا في بلادنا العربية لم تغره فكرة الموقف النقدي من المعتقدات الدينية التقليدية، أو فكرة الشك واللاقدرية، وفكرة استخدام المنهج العلمي لفهم الظاهرة الدينية... منذ زمن قاسم أمين وحتى الآن هناك من يظهر ويجهر بتفاعله مع مثل هذه العناصر والقضايا. بطبيعة الحال المؤسسات الدينية ورجال الدين تنظر إلى المسألة على أنها إلحاد وكفر وإلى ما هنالك.. لكن في النهاية يبقى هناك شيء ضميري وجداني وهو جزء من حرية وضمير كل إنسان.

* هناك بعض الأسماء التي يتقاطع أو يقترب نهجها من نهجك كمحمد شحرور ونصر حامد أبو زيد وجمال البنا وغيرهم.. إلى أي مدى تتفق أو تختلف مع هؤلاء؟

-  في الخط العام نلتقي كثيرا. أما في التفاصيل حيال المواقف من بعض القضايا المحددة فيمكن أن يكون هناك تباين وأحيانا نقد وسجال. لكن الخط العريض واحد، وأنا أعتبره خطا نهضويا تنويريا نقديا ونحن بحاجة إلى هذا الخط كثيرا.

* هل لديك نشاطات أو مشاريع جديدة على صعيد التأليف والكتابة النقدية في التراث والحداثة والفكر والثقافة؟

-  أنا كما تعلم متقاعد من جامعة دمشق. وأدرس حاليا كأستاذ زائر في عدد من الجامعات الأوربية والأمريكية. أهتم بموضوعات العالم العربي وقضايا الإسلام والحداثة، وخاصة ما يتعلق بالتيارات الأصولية من خلال التدريس والمحاضرات والدراسات والمقالات. في الفترة الأخيرة لم أنشر شيئا باللغة العربية، لكني نشرت كثيرا بالإنكليزية، وترجمت لي دراسات وكتب بست أو سبع لغات أوروبية.

* هل نفهم من ذلك أنك قطعت الأمل من القارئ العربي فاتجهت إلى القارئ الغربي؟

-  لا أبدا لم أقطع الأمل.. لكن أنا بحكم السن وغيره.. لم تعد لدي الطاقة أو المقدرة على أن أكتب وأنتج كما كنت في السابق. في أحيان كثيرة أنشر كتابا أو دراسة باللغة الإنكليزية ثم أعيد كتابتها للقارئ العربي أو العكس. طبعا هذه ليست ترجمة. وإنما أنا أطرح فكرة على القارئ العربي ثم أتساءل كيف أقولها وأصوغها للقارئ الأجنبي باللغة الإنكليزية أو الفرنسية دون تشويهها؟ وهذا يستهلك جهدا ووقتا. عندما كنت شابا وكان لدي وقت وطاقة أكبر كانت قدرتي أكبر، لكن الآن الأمر الآن بات أصعب عليّ. عندما كتبت مثلا دراسة نقدية عن كتاب "الاستشراق" لادوارد سعيد، كتبتها بالانكليزية ثم بالعربية وباللغتين كان لها ردود فعل وأثارت نقاشا وجدلا واسعا.
ستصدر لي قريبا دراسة باللغة الانكليزية بعنوان "الاستشراق والمؤامرة". أيضا صدرت لي مؤخرا دراسة في المجلة الأوروبية "يوريبيان ريفيو" التي تصدرها الأكاديمية الأوربية للعلوم والآداب، تناولت فيها المناقشات الجارية الآن في الشرق الإسلامي والغرب العلماني حول موضوع علاقة الدين بالعلم. وهي تتضمن نوعا من العودة لنقد الفكر الديني. هناك نقاشات تجري الآن في أوروبا وأمريكا خاصة بعدما فتح بابا الفاتيكان الجديد هذا الموضوع.
أيضا لدينا قضية أسلمة المعرفة، وأنا أعمل عليها حاليا. ماذا تعني؟ وهل تعني وضع المعرفة العلمية في خدمة الإسلام؟ أم تعني أن هناك علما خاصا يكتشفه الإسلام أو يخترعه؟ وإن لم يكن الإنسان مسلما لا يعرفه أو يدركه أو لا يستطيع أن يصل إليه وأشياء من هذا القبيل... في السابق بعض المنظرين المتطرفين البروليتاريين والشيوعيين طرحوا فكرة أن العلم السائد هو علم برجوازي ويجب صناعة علم بروليتاري...
طبعا هذه الفكرة سخيفة وتافهة وفاشلة.. ويبدو لي أحيانا وكأن بعض من يدعون إلى أسلمة المعرفة يعيدون السيرة ذاتها، كأنهم يريدون القول بأن هناك فيزياء أو كيمياء برجوازية أو غربية أو مسيحية وفيزياء أو كيمياء إسلامية أو شرقية.. وكيمياء وتشريح وتكنولوجيا. الخ...

(عن صحيفة "الراية")

السبت 22/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع