الشاعر حسين مهنا: العمل بصمت



يعمل الشاعر الصديق حسين مهنا من بلدة البـُقيعة في الجليل الأعلى، منذ سنوات بعيدة، موغلة في البعد، بصمت شاعر حقيقي عزف عن الدنيا وملذاتها وتفرغ للقصيدة كي تكون مبتداه ومنتهاه.
القصيدة عند هذا الشاعر امتدت من الورق إلى الحياة، حتى انه بات علينا، نحن أصدقاءه، التمييز بينهما، فهو في قصيدته يرفض الظلم ويطالبه دائما أن يرحل وان يترك الناس، خاصة أبناء شعبه، أن يعيشوا بأمن وأمان، وكذلك هو يفعل في حياته، فما أن يأتيه- مثلا- أمر التجند الإجباري، المفروض على أبناء طائفته العربية المعروفية، منذ عام 1956، حتى يبادر إلى رفضه، فيودع السجن المرة تلو المرة، إلى أن يتعب سجانه فينفض عنه انفضاض ذبابة أدركت أنها لن تتمكن من البقاء على انفه فترة أطول. أما في حياته فلا يبتعد حسين عن القصيدة إلا ليقترب منها اقتراب عاشق لفحته نار العشق فأدرك انه لا حياة له بدونها، ويأخذ في الدوران حول ناره مثلما فعلت فراشة انبهرت بالضوء متابعة دورانها وهي تعرف تمام المعرفة أن الاحتراق في نار ما لحق بها من وجد هو مصيرها الذي لا مصير لها سواه.
حسين مهنا ولد قرية البقيعة في الجليل الأعلى عام(16/6/1945) أنهى دراسته الثانوية في قرية الرامه المجاورة سنة 1963، عمل مدرساً حتى عام 1992، نشر قصائده في البداية بأسماء مستعارة، أصدر مجموعته الشعرية عام 1987. أعماله الأدبية: 1- وطني ينزف حُبّاً عام 1978 –2- وطني ردني إلى رُباك شهيداً - قصص –عام1981-3- أموت قابضاً حجراً عام 1986 -4-  تمتمات آخر الليل 1988
5- قابضون على الجمر- 1991-  6- حديث الحواس - 1992- 7- عوض يسترد صباه 1998- 8- أنتِ سبيّتهم وشعري نحيب العاجز1993- 9- ليس في الحقل سوسن- 1995- 10-الحب أولا- 1995- 11-- فرح يابس تحت لساني عام 1996. 12- على سرير ابيض- نص1998. 13- أنا هو الشاهد- شعر- 2001- 14- الكتابان- شعر- 2007، وتضيق الخيمة يتسع القلب- شعر 2007.
عرفت حسين منذ سنوات بعيدة، وكنت ما أن يصدر لي كتاب حتى أبادر لإرسال نسخة منه هدية إليه، وكذلك هو فعل، فأصبح لكتبي زاوية على احد رفوف مكتبته، وأصبح لكتبه زاوية أخرى مماثلة على احد رفوف مكتبتي.
 في الأيام الأخيرة الماضية، تلقيت كتابي حسين الأخيرين، فسررت بهما مثلما فعلت حين تلقي لأي من كتبه الصادرة تباعا في السنوات الأخيرة، وهذا هو السبب المباشر لكتابة هذه الكلمة.
علاقتي الشخصية بحسين ابتدأت في السنة التي اصدر فيها مجموعته الشعرية الأولى، كنت يومها اعمل في صحيفة "الاتحاد" وجاء حسين من جليله الأعلى ليلتقي المحرر الأدبي في الصحيفة آنذاك الصديق المشترك لنا، نحن الاثنين، الكاتب محمد علي طه، وقدم طه كلا منا للآخر، إلا أننا لم نشعر على ما أحسست أنها المرة الأولى التي التقينا فيها، فكل منا يعرف الآخر وسبق وقرأ له كل ما نشره في صحف تلك الفترة ومجلاتها.
كان حسين في ذلك اللقاء مشددا على أهمية نطق الكلمات بصورة مدققة، معتمدا في تدقيقه هذا على مخزون وفير من الاطلاع على أدبنا العربي القديم، وعلى ابرز ما أنتجه أعلامه في عالم الشعر خاصة، وهو ما ميزه طوال فترة علاقتنا التي انتقلت لتتحول إلى شخصية في ذلك اللقاء، بعد أن كانت عامة تربط ما بين كاتبين ربط بينهما أكثر من رباط وجمع بينهما أكثر من حلم.
العلاقة بحسين كانت تتطور وتكتسب في كل لقاء لبوسا جديدا من المودة، فهاأنذا أتوجه إليه في كثير من الفترات التي عملت فيها محررا في هذه الصحيفة أو تلك المجلة، لأطلب منه أن يدلي برأيه في هذه القضية الأدبية أو تلك، وها هو يستجيب بسرعة شاعر مُحب للإبداع ومخلص للصداقة، وتنمو هذه العلاقة ليكتشف احدنا الآخر، رغم قلة اللقاءات وتباعدها، وكأنما هو يتعرف على خصلة أخرى أضيفت إلى سابقة لها، لتزيد في هذه العلاقة متانة ولتضيف إلى دفئها دفئها، ترى أتكون هذه العلاقة أقيمت على إحساس مشترك بأهمية أن يتحلى المبدع بنوع من العفة وعدم الإقدام على الغنيمة بعد انتهاء الحرب، كما أراد أن يفعل الشاعر الجاهلي- نسبة إلى العصر الجاهلي- عنترة بن شداد؟
المحطات التي أتوقف عندها الآن وأنا استعيد ذكريات هذه العلاقة، التي أضفت نوعا من الدفء إلى حياتي في برد يكاد يكون قاتلا، كثيرة وأكاد أقول إن كل لقاء شكل محطة أخرى، واذكر بهذا الصدد أنني حين ألقيت كلمة الأدباء في مكتب اللجنة القطرية، في مكتب رئيسها المرحوم إبراهيم نمر حسين (أبي حاتم) في بلدية شفاعمرو، قبل سنوات، باتت بعيدة الآن، واستغلق فهم كلمتي على مضيفنا، فبادر إلى القول انه لم يفهم ما تحدثت به عن الأدب ودوره، اقترب حسين مني بعد انفضاض المجلس وهمس في أذني قائلا ابق هكذا مبدعا صادقا ومثقفا. أنت تحدثت عن أمور هامة .. ولا يهمك.
مع هذا لم نكن أنا وحسين متفقين تمام الاتفاق، فقد كنت متحفظا على مباشرة وسياسية محدودة نوعا ما، اتصف بها شعرُه في تلك الفترة، ولم اخف عنه رأيي في أهمية أن يتخلص من تأثير الشاعر العربي السوري المُجلّي نزار قباني، وكان حسين يتحمل ملاحظاتي بصبر إنسان خبر الحياة وأدرك الكثير من أسرارها، فيبتسم حينا ويصمت آخر دون أن ينبس بكلمة، ولم اعلم السبب علما تاما إلا بعد إصداره لمجموعته الشعرية المميزة" الحب أولا" التي صدرت عام 1995.
بعد صدور هذه المجموعة مباشرة، أرسلها إلي حسين، وكأنما هو أراد أن يجيب عن سؤال كثيرا ما طرحته عليه، واذكر أن نقاشا موسعا دار في حينها عن هذه المجموعة، بعضه كـُتب وبعضُه بقي ضمن دائرة الحديث الودي بين صديقين اضمر كل منهما حبا أولا وقبل كل شيء. وتلخص هذا النقاش في إقرار حسين بان قصيدة الحب هي الأولى في حياة الشعر والشاعر، وأننا يمكن أن نعتبرها المحطة الأكبر في نتاجه وحياته، فهذه القصيدة ليست محدودة الأبعاد، ولا يمكن أن يًُختزل فيها معنى واحد، وإنما هي تشمل الأبعاد على تضارباتها المختلفة، مشكلة بوجودها صرخة في وجه كل ما هو قبيح وغير أنساني يمارسه بعض بني البشر ضد إخوان لهم.
في تلك الفترة أو قبلها بقليل، اذكر أن مؤسسة الأسوار، في عكا، بإدارة الكاتب الصديق يعقوب حجازي، منحت حسين، بالتعاون مع المؤسسة الشعبية للفنون بإدارة الشاعر الصديق سميح القاسم، جائزة أطلقت عليها اسما لافتا هو" جائزة الزيتونة"، في حينها كنت اعمل محررا في صحيفة أصدرها آنذاك ورئس تحريرها الصديق حبيب مسلم، من الناصرة، هي صحيفة " فينوس" وما أن سمعت بنبأ فوز حسين بالجائزة، حتى انتابتني حالة من الفرح فها هو يأتي من يقدر شاعرا استحق التقدير منذ فترة بعيدة، واثر أن يعمل بصمت، شاعرا يدرك أهمية أن يكون الإنسان شاعرا، غير أن فرحي لم يطل مداه، إذ ما أن سألت عن كيفية منح الجائزة لحسين حتى تبين لي، أنها منحت له بعد قرار سريع. هذا يعني، أن تكريم صديقي الشاعر لم يكن تاما وإنما جاء منقوصا، وفقد بذلك الكثير من بعده وأهميته، فانا اعرف أن تكريم الشعراء يتم بمنحهم الجائزة بعد أن تنظر لجنة أو هيئة يتم تعيينها فيما بين أيديها من نتاج، بعد ذلك تعد تقريرا يشرح للآخرين لماذا تقرّر منحُ الجائزة لهذا الشاعر دون سواه، أي يشير إلى ملامح إبداعه وأبعادها، بعد ذلك يقرر منحه الجائزة ليقول لسواه من الشعراء كونوا مثلما قلنا في تقريرنا عن الشاعر الفائز بالجائزة وأبدعوا مثلما أبدع لتناولوا الجائزة. اذكر أنني كتبت يومها مقالة بهذه الروح، ووجهت فيها نقدا لاذعا للجائزة ولطريقة منحها، ولا اخفي أنني كنت متحسبا لان يفهمني حسين خطا فيغضب ويزعل علي، إلا أن ما حصل كان مخالفا لكل تحسب خطر لي، فقد اتصل بي حسين بعد قراءته لما كتبته ليشكرني عليه، وليقول لي إنني عبرت عما أراد أن يقوله، وان لديه مثل ما لدي من نقد على طريقة منحه الجائزة، فهو لا يريد أن يأخذ جائزة بأي شكل وبأي طريقة، وإلا لكان سعى إليها منذ سنوات، وهو ما لم يفعله ولن يفعله، وسيكتفي بشهادة صادقة من صديق يضمر له المحبة الخالصة .. مثلي.
كانت هذه واحدة من المواقف الهامة ذات الدلالة في علاقتنا، وقدمت لي إجابة عن سؤال طالما طرحته على نفسي، هو لماذا يؤثر حسين أن يعيش مع القصيدة بصمت يليق بشاعر، وقد أكد لي هذا الموقف ما سبق وأحسست به، وكان لا بد لي من التأكد منه، وهو أن حال حسين أشبه ما يكون بحال شاعرنا العربي باقي الذكر أبي لطيب المتنبي عندما قال بيته الشعري المشهور" أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم"، لقد أدرك حسين، وهذا ما استشففته من علاقاتي به طوال السنوات الماضية، أن الشاعر إما أن يكون أو لا يكون، أما أن يعيش كذبة تجرده من إحساسه بذاته، فانه يرفضها حتى لو أكسبته العالم، وهذا ما أردت أن أؤكده يوم اتفقت مع صاحب مجلة" الشرق" الصديق العزيز الدكتور محمود عباسي، إبان عملي محررا لها، على إصدار عدد تكريمي خاص بحسين مهنا، لنصدر العدد فيما بعد مقدمين فيه تعريفا بشاعر استحق التعريف به منذ سنوات، وحان الوقت لان يسمع الجميع صدى عمله.
بقلم: ناجي ظاهر
الأربعاء 19/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع