حكاية من بلدي
مأساة جليلة واغتيال رشيد الميعاري



حكاية مأساة جليلة ، واغتيال رشيد الميعاري ، حكاية تلاحقني منذ طفولتي نقشت في داخلي، وسطّرت كلماتها بأحرف من دم ، ارتسمت في ذهني صورة سوداء قاتمة ، وتركت في عروقي جرحا لا يندمل، تحينت الفرصة للتعبير عنها (كشاهد شاهد حاجة ) ، والكشف عن عمق المأساة وهول الجريمة ، وبعد هذا التغييب الطويل للمآساة الذي لا مبرر له فرض علي  الواجب ان ارفع الستار عنها  واستذكرها ، لانبش صفحات النكبة لانتزع عينة من عينات مآسي الماضي وهو غني بمثيلاتها، لتكون هي واخواتها بداية سيل جارف من المآسي يواصل اندفاعه حتى اليوم في حياة شعبنا الفلسطيني الذي لا ينفك يقدم الاضاحي والقرابين على مذبح صرح الصمود في سبيل الحرية والاستقلال والعودة .
انفرد الوالد بالاهتمام بزوجته واولاده الصغار الآخرين ، اما هي فبذلت جل اهتمامها على اخيها . نزحت فحملت على رأسها ما استطاعت ان تحمله من متاع خفيف ، شبكت ذراعها بذراع شقيقها ، واخذت طريقها تخطو وتتخبط وتخبط خبط عشواء ، وكانت سخنين محطتها الاولى فاقامت بها بضعة ايام، ثم قررت الرحيل فحطت رحالها في عرابة ، واختارت الحارة وسكنت في النقطة والبيت الابعد والاكثر امانا وامنا في الناحية الجنوبية للقرية، وفي آخر بيت منها حرصا على سلامة وحياة الاخ الشقيق رشيد .
تجمعت (الشلة) على صخرة ( مغارة المحط ) كعادتها . وكان ذلك في ظهيرة يوم قائظ من شهر تموز . وصل مسعود كبير (الشلة) وقائدها وهو لم يتجاوز بعد العقد الاول من عمره حافي القدمين كباقي افراد الشلة  حرقته الرمضاء ، ولسعته الاشواك بقدميه . وهو لطيف ، اليف تآخى  مع افراد (الشلة ) الخمسة الآخرين يحمل خبرا مفاده ان  شابا وصبية حلا ضيفين على بيت عمه ، وقررا السكن في الحارة ، وهمس في اذن مصطفى احد افراد المجموعة ، وقفل راجعا ، قفز مصطفى من مكانه فتبعناه ، تسلل مسعود ، ودخل (العقد ) بيت فسيح شيد حديثا ، استقر به الضيفان وتسللنا الواحد اثر الآخر الى داخل العقد ، وجلسنا  مع بعض النسوة كنّ قد تجمعن للترحيب بالضيفين النزيلين الجديدين ،  جليلة ورشيد ، تكبر جليلة رشيد بثلاث  سنوات ، ورشيد شاب في ريعان الشباب وسيم ، اسمر اللون ، قوي البنية ، متوسط الطول ، انيق ، ارتدى ( قنبازا) من الحرير الفاخر الابيض المرقط ، بخطين اصفر ذهبي ، واسود ، ومن تحته برزت ياقة جميلة بيضاء ، تسربل بسروال من الحرير الاسود (الاطلس) انتعل حذاء احمر لامعا، وغطى شعره الاسود الفاحم بكوفية ناصعة البياض ، اسدلها تدلت على منكبيه ، حجبت نصف جبينه ، ومن تحتها تراءت طاقية ( طمراوية) مطرزة بخيوط  متعددة الالوان جيدة التطريز ، اوحى لنا بزيه كأنه عريس في يوم زفافه في حين كنا حفاة وشبه عراة . اتخذنا مكانا في العقد وجلسنا بصمت رهيب ، وسكينة ، وكأننا في مكان مقدس للعبادة زاغت عيوننا من النظر الى رشيد بهندامه واناقته ، واذهاننا واحاسيسنا تتجه نحو جليلة ، عينان ذابلتان باكيتان سواداوان ساجيتان بين اهداب طويلة ، اتشحت بملابس سوداء في وجه حزين ، اخذت تحكي حكايتها للنسوة من حولها فقدت بصرها وظل منه بصيص وهي طفلة اعتنت بها امها الرؤوم واحسنت رعايتها وغمرتها بحنانها . وفي العاشرة من عمرها حلت بالعائلة المآساة الكبرى ، والهزة التي خلخلت اركان العائلة . رحلت والدتها في رحلتها السرمدية الابدية ورشيد شقيقها في السابعة من عمره رحلت والدتها وتركتها وهي  تودع بين يديها امانة هو رشيد وهي غرّة غريرة فريسة تصارع القدر . تزوج والدها وانجب الاولاد وعاشت في ظل خالتها امرأة ابيها ، تهدّج صوتها ، وتقطعت كلماتها وانهمرت الدموع من عينيها سخية فسالت الدموع من اعين النسوة رقة وعطفا . استأثرت على قلوبهن ، فتململن في اماكنهن ودار هرج ومرج . هدأ حالها وعادت تحكي حكايتها ، فانطلق كلامها يندفع كشلال تندفع مياهه صافية نقية . دخلت قوات  (الهاجانا) القرية عندما اخفقت المقاومة بصدهم . فانتشر الرعب بين الاهالي وارتابوا ، ولدغة جريمة دير ياسين تسري بسمومها في النفوس فنزح والدها مع النازحين ترك وراءه الحصاد مكدسا على البيدر وسنابل القمح كسيحة تئن تحت وطأة البهائم السائبة والابقار والاغمام والطيور المنفلتة، وكرما من التين باشجاره المتنوعة والمختلفة ، وفيه من التين البياضي ، السوادي ، والحماري ، والباذنجاني ، والخضاري ، والخيالي والزراقي ، والغزالي ، الذي تندف حباته بالعسل كقطرات الندى في فصل الربيع، نزحوا من القرية الى سخنين وكانت المحطة الاولى وخلال اقامتهم في سخنين ، تتالت هجمات (الهاجانا) على سخنين ودارت الهجمات وكانت حامية الوطيس  سجالا ما بين المقاومة الشعبية (و الهاجانا ) فحرصا على سلامة رشيد شقيقها املها الوحيد في هذه الدنيا ،الذي  تجسدت فيه صورة وروح والدتها فهو الاخ والاب والشقيق والام والحبيب. قررت النزوح الى عرابة ابتعادا واتقاء لشر (الهاجانا) فسعت لايجاد مأوى بعيدا عن خطر الهاجانا فوجدت هذا البيت فنزلت به . وهي تتأمل ان تضع الحرب اوزارها قريبا لتعود الى ميعار . الى بيتهم الكبير الى كرم التين والعنب الذي تتدلى منه العناقيد وقد حان قطافها . لتزف رشيد عريسا على بيادر ميعار لتجوب به حاراتها وشوارعها لتغني له وترقص ليتزوج وينجب الاولاد . انتهت جليلة من حكايتها من عرض آمالها وامانيها وقد زرعت الحسرة والحزن في نفوس النسوة لتكرار ولعها وشغفها واملها بالعودة .
انفض المجلس من حول جليلة وخرجت (الشلة)  واصطحبت رشيدا معها الذي مل الانزواء وتضجر من الوحدة وتذمر . فاترابه من شباب الحارة سيقوا الى الجبل لحراسة قيادة جيش الانقاذ وهم في اسرّتهم  العاجية . وليكونوا خط الدفاع الاول لتلقي الضربة من هجوم جيش (الهاجانا) الذي حاول مرارا وتكرارا اقتحام القرية من سهل البطوف .  بعد احتلال صفورية وقرى سهل البطوف رمانة والعزير والبعينة وكفر مندا وقد حالت التضاريس الطبيعية من جبال واودية والمقاومة الشعبية الشديدة دون اختراق وتقدم جيش( الهاجانا) خط الدفاع في الخانوق .
ألف رشيد (الشلة) فألفته وكان سريع الالفة ، فتوطدت الالفة رغم فارق السن فكان  يكبرنا بعشر سنوات فسلمه مسعود  زعيم (الشلة ) القيادة لننضوي تحت قيادته . وقف رشيد على الصخرة على (مغارة المحط ) ونظر الى الغرب بعيونه الدامعة يستنشق من تلك النسمات الغربية الآتية من ميعار لتزيده ولعا واشتياقا فيطلقها تنهيدات وزفرات الما وحسرة . تغير اسلوب القيادة شكلا ومضمونا فأخذ يحدثنا عن الحرب وابعادها واسقاطاتها، حدثنا عن جريمة دير ياسين عن المعارك بين(الهاجانا) ، واهالي ميعار وشعب وعن اسباب نزوحهم من ميعار، حدثنا عن تكديس القمح على البيدر بلوعة وحسرة عن الفرس والبقرات والماعز والاغنام التي تركوها تهيم في الشوارع وفي الحظائر وعلى البيادر وفي الحقل، حدثنا عن كرم العنب عن الزعتر عن ايمانه العميق بالعودة الي ميعار حمل في ثناياه آماله الخضراء وفي طياته حمل احلامه الذهبية الجميلة وعاطفة جياشة وامل اللقاء بقريبته التي نزحت الى كابول ليتزوج منها وينجب الاطفال ، كان تواقا للعودة ، يرصد النجوم ، والقمر يناجي السماء شغوفا ولوعا وهو لا يدري ما يخبئه له حظه العاثر من مفاجآت . وعندما ينتهي من عرض احلامه الذهبية وآماله بالعودة يأمرنا بالاصطفاف في طابور ويوزع علينا العصي لتكون بنادقنا ونسير بانضباط في "مارش" عسكري . ينتهي تدريبنا فيعود الى اخته ونعود نحن لقضاء يومنا اما في السباحة في البركة او بين اشجار الزيتون نبحث  عن اعشاش العصافير، والرقطي، او ننصب الفخاخ لاصطيادها . واذا ما مللنا من ذلك نصعد الى الجبل لنسلو ونلهو مع الحراس ونتسكع بين رجال المقاومة من آبائنا واخواننا او بافتعال احتراب وشن هجوم على شباب الحارة الآخرين وسلاحنا المقاليع والحجارة والعصي ويسقط منا الجرحى وتتكسر الايدي والارجل . طالت ايام العطلة الصيفية بسبب استمرار الحرب واحتلال قيادة جيش الانقاذ لبناية المدرسة الوحيدة في القرية وتحويلها مركزا للقيادة .
وذات يوم وفي ساعات المساء وقد اخذت اشعة  الشمس تميل نحو الغروب وكان مسعود قد دخل بيت خالته الحاجة اسماء ، وتناول من صندوق كدست به شرائح من القطين ، اختزنته لفصل الشتاء ، وملأ جيوبه من السمسم من الاكياس المكدسة في البيت قام بتوزيعها علينا فأخذنا نلتهم شرائح القطين المغموسة بالسمسم . اذ بمصطفى  احد اعضاء الشلة قدم علينا وهو  يلهث منفعلا يطلب منا الاسراع لرؤية اليهود . وكان ذلك في الحادي والثلاثين من شهر تشرين الاول 1948 هرعنا نتبع مصطفى لنشاهد شكل اليهود ، وجدنا مجموعة من اربعة جنود بوجوه قاطبة شاحبة حاقدة تطوف ازقة وشوارع الحارة للتفتيش والبحث عن الرجال وكان الناطور قد بلغ في ذلك اليوم اهل البلد امرا صادرا من قائد الجيش يقضي الزام الرجال بالحضور الى ارض (المروش) من جيل الخامسة عشرة الى جيل الستين ومن يخالف فمصيره القتل . غاب عنا رشيد ثلاثة ايام كان قد احس بألم برجليه فاقترحت عليه عجوز في الحارة تدعي انها خبيرة بمثل هذه الامراض (بكي الحمصة ) في ساقه فاستجاب لنصيحتها ، التهب الكي واستفحل ، وتورمت الساق وربطها بعصاب، اقعده المرض عن السير وكان طريح الفراش حال مرضه دون تنفيذ امر قائد الجيش سرنا وراء مجموعة الجيش وكانت البيوت شاغرة من الرجال وفارغة الا من النسوة والاطفال، دخلوا بيوت الحي ولم يفلت من غيظهم بيت واحد دخلوا بيت جليلة ورشيد ودخلنا وراءهم شاهدنا رشيد الذي احبنا واحببناه طريح الفراش يئن من آلامه  يعاني من وطأة المرض . امروه بالوقوف فانتصب شامخا متحديا رغم مرضه فقدم لهم عذره عن تخلفه في تنفيذ امر قائد الجيش، وكشف عن ساقه المغطاة بعصاب ظنا منه ان يعفوا عنه او ان يغفروا له وعسى ان يجد في قلوبهم ذرة من العطف او الرحمة . فلم يشفع توسلت جليلة للجنود ولم تجد أذنا صاغية فصموا آذانهم واقفلوا ضميرهم . فقام احدهم وافرغ رصاصة في قلبه الحزين فاغتالوه بدم بارد فخرّ على الارض صريعا مخضّبا بدمائه الزكية . اغتالوا رشيد واغتالوا امانيه واحلامه، صرخت جليلة حزنا والما وصرخنا من حولها ، صعقت لهول المصيبة وصعقنا. بكت جليلة  وناحت وندبت حزينة فقد اغتالوا بجريمتهم النكراء ما تبقى لها من امل . شقت ثوبها الاسود أسى وحزنا ولطمت خديها .  ووري جثمانه التراب وظل الشاهد على ضريحه منتصبا ينظر الى الغرب الى ميعار شغوفا تواقا ينتظر عودة الرفات الى ميعار . 

(عرابة)

عمر سعدي *
الأربعاء 19/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع