رواية "شمس وقمر" للأديب عيسى لوباني



الرواية آخر ما كتب الاديب عيسى لوباني رحمه الله، اصدرتها ابنته ميادة سنة 2007 وجدتها بين اوراقه، الرواية تقع في 120 صفحة، حجم عادي وبدون فصول، اهدتني اياها ابنته ميادة بواسطة الاديب عودة بشارات والشاعر مفلح طبعوني، فلهم جزيل الشكر لأنني استفدت واستمتعت بقراءتها، فهي رواية شائقة يغلب عليها الطابع الرمزي التصويري الابداعي المميز والدقيق الشفاف المعبر ذو المعاني الكثيرة، وفيها تشابيه واستعارات كلمات من الادب الجاهلي مثلا "اشطان بئر" عن الشاعر عنترة بن شداد وكلمات فصحى غير مألوفة يعرفها فقط الادباء والشعراء، كما استعمل كثيرا من الامثال العربية العامية كأنه اراد تخليدها، واحيانا يمزج بين العامية والفصحى مما يعطيها ويضي عليها بهاء ورونقا خاصا ممتعا وسهلا للفهم، والظاهر انه اراد الكتابة للجميع وليس لفئة معينة وهذا ليس غريبا عنه، فهو رجل وطني شعبي محبوب وانساني مرح، احبه كل من عرفه ولذا ففقدانه كان خسارة ادبية وشعبية فادحة.
تعمد اديبنا ان يترك فراغ بنقاط بين الكلمة والتي عليها واحيانا كل السطر مكون من كلمة واحدة مما يجعل القارئ يتأمل ويفكر بالمعنى قبل ان يستمر وكأنه يقول للقارئ كن رسولا لشعبك بعمل الخير لأن الرسل والمفكرين والشعراء والادباء والفلاسفة هم الذين يتأملون بحثا عن الحقيقة لايجادها واسعاد الغير.
ما اسلفنا كتب اديبنا الرواية وهو مريض وكان في صراع وحب البقاء، فلذا تجده يقول: "لست مريضا، ولكني عاشق، امارس الوصال، في الواقع والخيال.."
 هذا يذكرنا ايضا بالفيلسوف الذي قال ما معناه "انا افكر فلذا فأنا موجود"، فبدلا من كلمة "انا افكر" قال انا عاشق امارس الوصول، دليل على وجوده، لأن الحي هو الذي يقوم بتلك الاعمال وليس الميت. يقول في مرارة الغربة انها احيانا تؤدي الى الانتحار، يقول ذلك نثرا وشعرا كعادته فشعرا يقول:
شمس وقمر
هن في بلاد الخضر
شفت اليُسر والعسر
بعينيي رسام
خاطره، مقهور، والكسر،
قال وريشته،
تلون.. بيت وجده
تلك الابيات تدل على الشتات في بلاد الغربة والضياع هناك، وقوله شمس وقمر يرمز الى المدن الفلسطينية، او الى اجزاء من فلسطين ودعوته الى استرداد الوطن المغتصب والحث على التمسك بحق العودة. احيانا يستعمل الكلمة العامية مع الفصحى حتى يخيل احيانا للقارئ ان الكلمة العامية هي نفسها كلمة فصحى وليست عامية لأن كاتبنا فنان يسبك اللغة والتمكن منها. مثالا قوله: "شفت اليُسر والعسر" او "يبرطم بلغة لا افهمها". يستعمل كلمات اجنبية كثيرة ومألوفة ومستعملة، "غرسون"، "ساندويتش" "ترمواي" واحيانا كلمات غير مألوفة وببراعته يجعل القارئ ان يظن انها كلمة عربية فصحى كقوله "الكاونتير الأنيق".
يستعمل كثيرا كلمة "العطر" مما يدل حبه للاناقة والنظافة والريحة الطيبة، يستعمل كثيرا كلمة "نزق" ليرمز لنا بأنه ثائر وغاضب ضد الظلم والطغيان. يستعمل كلمة "هامبورغر" أي الاكل السريع، لأنه يعتبر ان الزمن ثمين، ولذا تراه يقول "اننا يا سيدي في عصر السرعة، يا سيدي، واذا لم نسرع، فقدنا ايقاع الزمن، وشيعنا كل شيء".
اديبنا يروي لنا من نسج خياله انه يحب "شمس وقمر" وتُجرى القرعة مع ابن عمه والنتيجة قمر من نصيبه ويتزوجها مع انه يحب حبا شديدا شمس. يهرب من هذا الواقع الى المانيا وهناك يلتقي مع فتاتين من اصل تركي يشبهان شمس وقمر ويمارس الحب معهن ولكنه حب الجسد وليس حب الروح والعواطف وهما بولين وروجينا وينعتهما بأنهما عاهرتان من اسطنبول. وهنا يرمز ايضا حبه للمدن الفلسطينية، حيث يقول له غريب في ارض الغربة المانية، "ان حديثه عن روجينا وبولين لم يكن الا حديثا عن شمس وقمر وعن حيفا ويافا والقدس".
اديبنا لا يفقد الامل في العودة لأرض الوطن مهما طال الزمن وطالت الكروب، حيث يقول "ففي اعقاب العاصفة، تشرق الشمس"، "لا يمكن ان نخسر المعركة، نحن هنا والزمن طويل"، وربما بهذا ايضا اراد ترديد مقولة الرئيس الجزائري الهواري بو مدين الذي قال بعد نكسة حزيران 67 "خسرنا المعركة ولكن لم نخسر الحرب".
اديبنا يلتقي ايضا مع امرأة اسمها "زكية" فهي بنت عمته كانوا في صغره يقولون له انها خطيبته ولكنها هاجرت الوطن واهلها أوصوا من بقي بالحفاظ على المفتاح. التقى معها بعد غياب عشرين سنة وبعد ان فقدت زوجها، ويضاجعها بدون تردد، فيقول عن اشتياقه لها "وخرجت ولم ارها منذ ذلك الحين لكن رائحتها.. وشذاها، ما يزالان يعبقان في جوارحي وجوانحي، كلما تذكرتها، حينما رحلت، وكلما تذكرتها، وقد عادت وهي تحمل عشرين عاما من الضياع والتشرد".
هنا برأيي يرمز بزكية الى فلسطين والى الضياع والتشرد، ويسأل زكية عن سعادتها مع زوجها فتروي له انها كانت تعيسة معه لأنه كان يكبرها بعشرات السنين، واضح انه يرمز لظلم العربيات المتزوجات لمن يكبروهن بسنين طوال، وربما انتبه الى خطأه واراد ان يصحح ويقول ان فلسطين ضاعت وتشرد اهلها منذ عشرات السنين وليس منذ عشرين عاما، الصحيح صعب تفسير ما اراد اديبنا وهذا ما قلته سالفا بان كلمات اديبنا لها معان كثيرة وربما قالها على عجل او اراد للقارئ اعطاء الحق في التأمل والأرجح هذه الاخيرة.
كما ذكرنا سالفا بان اديبنا احيانا يلجأ الى استعمال كلمات الاستعارة وطبعا بلغته مثلا، يقول "حتى انت يا قمر.." الاستعارة واضحة من صرخة قيصر الرومان عندما قام متآمرون عليه وطعنوه وقتلوه، وكان بينهم اعز صديق عليه "بروتوس"، فصرخ في وجهه "حتى أنت يا بروتوس". ويرمز بذلك الى الدول العربية التي حتى هي لم تغث فلسطين، ففي موقف آخر يقولها صراحة "انها القدس يا أوغاد.. هل نسيتموها، لقد اغتصبوها". عن الغربة يكتب "فقدان الأمان في الغربة يزرع بذور الامل من جديد، بفجر جديد، ووعد جديد، ويبشر، ففي اعقاب العاصفة تشرق الشمس". أي ان كاتبنا يريد ان يقول ان الشتات الفلسطيني لن يبقى لأن الغربة في وطن غريب ليس به امان والعودة حتما ستتحقق، ويرمز بالمفتاح الذي اصر اهل زكية بالحفاظ عليه عند الذين تبقوا في الوطن من الاهل ولاسترجاع الوطن يحث على انجاب الاطفال.
اديبنا غاضب على الحكام العرب لتقاعسهم ولذا يصفهم بأنهم "خراء مكور"، لا ينسى اديبنا الكرم الفلسطيني ويرمز له في كرم النادل الفلسطيني الذي التقى به في المانيا، عن الحرب الاهلية في لبنان يعتبرها تصفية حسابات بين دول وأنظمة وان اسرائيل هي المستفيدة، وان الحرب قد فشلت وهذا يبشر بطلوع فجر جديد. ينتقد الامراء السعوديين ابناء الصحراء ويقول "اذا كثرت النساء كثر الامراء والاميرات، .. والجوع كافر يا ابناء الحفر، والوبر" ويطالب بالثورة ضد الظلم ولذا فهو يمدح الشعراء الثائرين ويذم المتقاعسين".
يعتز ويمجد حضارتنا وأمجادنا، ويتباهى بالشاعر ابي النواس وعنده الامل في اعادة الحضارة والتجديد. ينتقد الاصوليين ويصفهم بأنهم اتوا بالبهتان وأفرغوا تراثنا من كل مضمون سوى الحجاب، فهم الذين اتهموا احد الشعراء والفلاسفة بالزندقة لأنه لامس الحقيقة بينما العكس تماما عند الغرب، فهناك ميلتون الاعمى وبيتهوفن الأصم، ولذا يتساءل "متى نستيقظ لنلحق بالآخرين"؟
يكتب عن المرأة والحب والعشق، فالعشق عنده هو عشق الروح وليس الجسد ويصفه بأجمل الوصف حيث يقول:
انه عشق النحلة للزهرة، حيث لا يغني الرحيق
ولا يموت الشذى، اما الالوان فينابيع عذبة
لا نرتوي فيها، ولا تكف عن الخفقان
امام شبكة العين.. الباحثة عن الجداول والانهار
وخمائل.. عذراء في جذر عذراء
والعشق عنده صانع للمعجزات، وعن الحب يقول: "من الحب ما قتل، وحب المرأة، وحب الارض، وحب القنطرة". وعن الجنس يقول: "انه اعلى درجات الموسيقى لأنه ايقاع الوجود". طبعا ان كان الجنس ينبع عن عواطف وحب حقيقي لأن الجنس لمجرد الجنس يكون تماما مثل جنس الحمار، بهذا المعنى يقول، المرأة بعينه شيطانة وهي واحدة من ثلاثة فإما امرأة وإما مرمرة وإما مسمار في العنطرة، عند كاتبنا المرأة الغربية همها الوحيد في الجنس هو المتعة، وبرأيي هذا غير دقيق ولا اتفق معه والدليل قراءة الادب الغربي وما يحتويه من قصص حب حقيقية، كما ان المرأة الغربية تبوأت اعلى المناصب في الثقافة والسياسة، فتحرر المرأة الغربية الجنسي غير المرأة الشرقية ولكن هذا لا يعني انها بدون عواطف وأحاسيس فكلنا بشر وان اختلفت عاداتنا وتقاليدنا.
اديبنا يظهر تذوقه للموسيقى ومعرفته بها فهو يعرف الموسيقيين الكبار امثال برامز وفوجاك وماهر وبيتهوفن تلميذ هايدن والذي عرف الطبيعة الانسانية فأشعلها كما نشعل عود الثقاب على حد تعبير كاتبنا، يصف الموسيقى بأنها ضمير ووجدان الشعوب على مدى العصور، اديبنا احب الحياة فير "العمر" مية في غربال فلماذا لا نتمتع بها؟"، وبالنسبة للحظ، فيرى "الدنيا حظوظ – بعضها يشنق صاحبه، وبعضها يرفعه الى اعلى، يؤيد التسامح ونجد ذلك في مخاطبته نفسه حيث يقول "واستغربت تلك الروح الرياضية التي ما زالت تحب رجلا هجرها الى غيرها"، ينتقد الوساخة في الدول العربية حيث يبول العربي على عرق جدار، صاحبنا لا يعرف المستحيل اما السعادة فيطالب ان نحتفظ بها ولا ندمرها بأيدينا.
واخيرا لا بد الا ان نقول بحق اديبنا عيسى لوباني بأنه مفكر عبقري انساني ذو حس مرهف ومصور بارع ورسام فنان، ولم ارتو ولا زلت عطشان لقراءة روايته من جديد، نأمل يوما ان تترجم الى لغات اجنبية لتخدم الانسانية جمعاء.

(ام الفحم)

رفيق جبارين *
الأثنين 17/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع