صيادون بشباك خاوية



قد ينطبق القول "مصائب قوم عند قوم فوائد" على العديد من البشر، فهم يحاولون قدر الإمكان تعزية أنفسهم باستخلاص النافع من الضار، وما أكثر الأمثال التي تصب في هذا المعنى، لكن هذه المصائب قدر تعلقها بكاتب المقال اليومي تصبح ذات شجن آخر، فأحياناً تنقذ كارثة كاتبا مصابا بحالة من الكسل الذهني أو الحذر العاطفي، حيث لا يجد لديه ما يقول، فتأتي الإغاثة من دم نازف هنا أو إعصار هناك.
لكن هناك من يعفون عن هذا المغنم الأسود ويعزّ عليهم أن يملأوا الفراغ الذهني بحادثة لمجرد أنها وقعت في مكان ما.
أذكر قبل ستة وثلاثين عاما، أن زميلاً صحافيا كان يكتب عمودا يوميا، ويشكو دائما من شح الوقود الذي يشعل به انفعالاته، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي استشهد فيه غسان كنفاني، فقد سمعته يقول إن غسان أنقذه من بطالته، لأنه قدم له مناسبة ثمينة للكتابة، واعترف بأنني منذ ذلك اليوم أصبت بما يشبه الفوبيا من استثمار الكوارث، لهذا غالبا ما أبتعد عنها يومين أو ثلاثة، كي لا أكرر ما سمعته قبل أكثر من ثلاثة عقود وأصابني بالغثيان الذي بلغ الدماغ والروح، ولم يتوقف عند الأحشاء.
وقد تكون الحقيقة أقسى من كل هذا، ما دام لكل واحد منا هدفه أو غرضه الشخصي في الظواهر العامة، وأذكر على سبيل المثال أن بعض الطلبة كانوا ينتظرون بفارغ الصبر مناسبات معينة للمشاركة في مظاهرات سياسية، ومنهم من كان يبحث عن عطلة إضافية أو عن زحام أو عن موعد خاص.
ويروي سارتر عن الشاعر بودلير أنه حمل البندقية ذات يوم وهبط سلالم البيت مسرعا ومتحمساً، مما أثار استغراب جيرانه الذين يعرفون عنه اللامبالاة بالقضايا العامة، وحين سأله أحدهم عن سر حماسته أجاب بأنها فرصة ثمينة لقتل زوج أمه الجنرال أوبيك، والذي سيضيع دمه في زحمة الدماء.
إن قدرا من الفروسية والمناقبية لا بد منه بالنسبة للكاتب، خصوصا إذا كان ممن يحترفون متابعة الأحداث، وبغير ذلك يكون أشبه بالضبع الذي يتربّص بما تبقى من أشلاء الفريسة بعد أن يشبع منها الأسد أو النمر.
فالكتابة السريعة عن حدث ما يفوتها الكثير من القرائن، والاستقصاء، وقد لا ترى من جبل الجليد الغاطس غير ما ينتأ منه على سطح المحيط. ومما يثير الدهشة أن الكاتب العربي يشكو احيانا من شح الوقود الذي يضعه تحت مرجله، رغم أن الغرباء ممن يأتون إلى هذا الوطن يحسدوننا على المناجم شبه الأسطورية التي تعج بالمادة الخام الصالحة لكل أشكال الكتابة والفنون.
والخطأ الذي نقع فيه أحيانا هو أن ما يصلح للكتابة يجب أن يكون أمرا جللاً أو عنوانا كبيرا من فئة ما كان ارنست همنجواي يسميه ساخرا ورقة المليون دولار.
فالكتابة غابة فيها متسع للعصفور والفيل والفراشة والنسر، ولا تستمد أهميتها من أهمية ما تتناوله، وقد يحدث العكس بحيث تعطي الكتابة أهمية لما لا أهمية له، لأنه اقترن بموقف ما أو ذكرى عميقة، ليس عيبا أن نمهل أنفسنا يوما أو يومين كي نرى ما هو أبعد من السطح، ويتاح لنا استشراف البانوراما من مختلف زواياها.
شكرا لذلك الزميل الذي أنقذه استشهاد غسان من البطالة الذهنية، لأنه قدم لي لقاحا مبكرا ضد تحويل المصائب إلى منافع، فما من حبرٍ له كفاءة الدم وهيبته.
وسيظل الفارق جوهريا بين صياد يغامر في دخول الغابة، ومن يشتري أرنبا أو سمكة ثم يخدع زوجته وأبناءه مدعيا أنه اصطادهما.

خيري منصور
الأحد 16/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع