رواية «عزازيل» بين الظاهر والمخفي



فى طبعة أنيقة أصدرت دار الشروق رواية (عزازيل)، آخر الأعمال الإبداعية للدكتور يوسف زيدان أستاذ الفلسفة وتاريخ العلوم، مدير مركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية. تقع الرواية في 380 صفحة، وهى مزودة بملحق للصور المتعلقة بها والمرتبطة بأحداثها، فى خطوة غير مسبوقة في النشر الروائي العربي، حيث يمثل ملحق الصور جزءا من الرواية ذاتها.. عنوان الرواية (عزازيل) هو الاسم العبري القديم للشيطان، إبليس، الذى يعد شخصية رئيسية في الرواية، غير أنه يتخذ صورة أخرى غير الصورة النمطية التى يعرفها الناس في الديانات الثلاث الكبرى.
وباستثناء بطل الرواية (الراهب هيبا) فإن كل الشخصيات التى تدور بينها الأحداث الهائلة فى الرواية، هى شخصيات حقيقية: الأسقف تيودور، الأسقف نسطور، هيباتيا (الرياضية النابغة الجميلة التى لقيت مصرعها بالإسكندرية على يد عوام المسيحيين سنة 415 ميلادية).. وكذلك شخصيات: البابا كيرلس عمود الدين، الأسقف الشاعر ربولا الرهاوي، يوحنا الأنطاكي، وغيرهم. وقد دخلوا في النسيج الروائي الذي استلهم لغة رهيفة لا يكاد القارئ معها يشعر بأنه أمام عمل روائي، وإنما يبلغ الإيهام في الرواية، إلى الدرجة التي نصدق معها ما جاء في (مقدمة المترجم) حيث نقرأ في الصفحة الأولى من الرواية:
يضمُّ هذا الكتابُ الذى أَوْصيتُ أن يُنشر بعد وفاتي، ترجمةً أمينةً قَدْرَ المستطاع لمجموعة اللفائف (الرقوق) التى اكتُشفتْ قبل عشر سنوات بالخرائب الأثرية الحافلة، الواقعة إلى جهة الشمال الغربي من مدينة حلب السورية، وهى الخرائب الممتدة لثلاثة كيلومترات، على مقربةٍ من حوافِّ الطريق القديم الواصل بين مدينتي حلب وأنطاكية العتيقتين اللتين بدأتا تاريخهما قبل التاريخ المعروف. وهو الطريق المرصوف، الذى يُعتقد أنه المرحلة الأخيرة من طريق الحرير الشهير، الذى كان فى الأزمنة السحيقة يبدأ من أقاصي آسيا، وينتهي مُنهَكا عند ساحل البحر المتوسط. وقد وصلتنا هذه الرقوق بما عليها من كتابات سُريانية قديمة (آرامية) فى حالةٍ جيدةٍ، نادرا ما نجد مثيلاً لها، مع أنها كُتبت فى النصف الأول من القرن الخامس الميلادي، وتحديدا: قبل خمسٍ وخمسين وخمسمائة وألف، من سنين هذا الزمان.
وكان المأسوفُ عليه، الأبُ الجليلُ وليم كازاري الذى أشرف بنفسه على التنقيبات الأثرية هناك، وهناك لقي مصيره المفجع المفاجئ (منتصف شهر أيار سنة 1997 الميلادية) يرجِّح أن السِّرَّ في سلامة هذه اللفائف، هو جودة الجلود (الرقوق) التي كُتبت عليها الكلماتُ، بحبرٍ فاحمٍ من أجود الأحبار التي استُعملت في ذاك الزمان البعيد. علاوةً على حِفْظها فى ذلك الصندوق الخشبي، محكم الإغلاق، الذى أودع فيه الراهبُ المصرىُّ الأصل هيبا مادوَّنه من سيرةٍ عجيبة وتأريخٍ غير مقصود لوقائع حياته القَلِقة، وتقلُّبات زمانه المضطرب.
وكان الأبُ كازارى يظن أن الصندوق الخشبي المحلَّى بالزخارف النحاسية الدقيقة، لم يُفتح قطُّ طيلة القرون الماضية. وهو ما يدلُّ على أنه، عفا الله عنه، لم يتفحَّص محتويات الصندوق بشكل جيد. أو لعله خشي أن يفرد اللفائف قبل معالجتها كيميائيا، فتتقصَّف بين يديه. ومن ثَمَّ، فهو لم يلحظ الحواشي والتعليقات المكتوبة على أطراف الرقوق، باللغة العربية بقلمٍ نسخي دقيق، فى حدود القرن الخامس الهجرى تقديرا. كتبها فيما يبدو لي، راهبٌ عربي من أتباع الكنيسة الكلدانية (الأشورية) التي اتخذت النسطورية مذهبا لها، ولا يزال أتباعها يُعرفون إلى اليوم بالنساطرة! ولم يشأ هذا الراهب المجهول أن يصرِّح باسمه. وقد أوردتُ في هوامش ترجمتي، بعضا من حواشيه وتعليقاته الخطيرة، ولم أورد بعضها الآخر لخطورته البالغة.. وكان آخر ما كتبه هذا الراهب المجهول، على ظهر الرَّقِّ الأخير: سوف أُعيد دفن هذا الكنـز، فإن أوان ظهوره لم يأت بَعْدُ!
وقد أمضيتُ سبع سنين فى نقل هذا النصِّ من اللغة السريانية إلى العربية. غير أنني ندمتُ على قيامي بترجمة رواية الراهب هيبا هذه، وأشفقتُ من نشرها في حياتي. خاصةً وقد حَطَّ بي عمري في أرض الوهن، وآل زماني إلى خَطِّ الزوال.. والرواية في جملتها تقع في ثلاثين رَقَّاً، مكتوبة على الوجهين بقلمٍ سرياني سميك، بحسب التقليد القديم للكتابة السريانية الذى يسميه المتخصصون الخط الأسطرنجيلـي؛ لأن الأناجيل القديمة كانت تُكتب به. وقد اجتهدتُ في التعرُّف إلى أية معلومات عن المؤلِّف الأصلي، الراهب هيبا المصري، إضافةً لما رواه هو عن نفسه في روايته، فلم أجد له أي خبرٍ في المصادر التاريخية القديمة. ومن ثم، فقد خَلَت المراجع الحديثة من أي ذكرٍ له. فكأنه لم يوجد أصلاً، أو هو موجودٌ فقط في هذه (السيرة) التي بين أيدينا. مع أنني تأكَّدتُ بعد بحوثٍ مطوَّلة من صحةِ كُلِّ الشخصيات الكنسية، ودِقَّةِ كل الوقائع التاريخية التى أوردها فى مخطوطته البديعة هذه، التي كتبها بخطِّه الأنيق المنمَّق من دون إسرافٍ في زخرفة الكلمات، وهو ما تُغري به الكتابة السريانية القديمة (الأسطرنجيلية) الزخرفية بطبعها.
وقد مكَّننى وضوحُ الخطِّ في معظم المواضع من قراءة النص بيسر، وبالتالي ترجمته إلى العربية دون قلقٍ من قلق الأصل واضطرابه، مثلما هو الحال في معظم الكتابات التى وصلتنا من هذه الفترة المبكرة.. ولا يفوتني هنا أن أشكرَ العلاَّمة الجليل، كبير الرهبان بدير السريان بقبرص، لما أبداه من ملاحظاتٍ مهمة على ترجمتي، وتصويبات لبعض التعبيرات الكنسية القديمة التي لم تكن لي أُلفة بها.
ولستُ واثقا من أن ترجمتي هذه إلى العربية، قد نجحتْ في مماثلة لغة النص السريانى بهاءً ورونقا. فبالإضافة إلى أن السريانية كانت تمتاز منذ هذا الوقت المبكر بوفرة آدابها وتطور أساليب الكتابة بها، فإن لغة الراهب هيبا وتعبيراته، تعدُّ آيةً من آياتِ البيان والبلاغة. ولطالما أمضيتُ الليالي الطوال في تأمُّل تعبيراته الرهيفة، البليغة، والصور الإبداعية التي تتوالى في عباراته، مؤكِّدةً شاعريته وحساسيته اللغوية، وإحاطته بأسرار اللغة السريانية التي كتب بها.
وقد جعلتُ فصول هذه (الرواية) على عدد الرقوق التي هي متفاوتةُ الحجم؛ بطبيعة الحال. وقد أعطيتُ للرقوق عناوين من عندي، تسهيلاً لقارئ هذه الترجمة التي يُنشر فيها هذا النص النادر لأول مرة. وتسهيلاً للقارئ أيضا، استعملتُ في ترجمتي الأسماء المعاصرة للمدن التي ذكرها الراهب هيبا في روايته. فإذا ذكر مدينة بانوبوليس الواقعة بقلب صعيد مصر، ترجمتها عن اسمها اليوناني هذا، إلى الاسم المعروفة به اليوم: أخميـم. وبلدة جرمانيقي الشامية، جعلتها باسمها المعاصر: مرعش! وصحراء الأسقيط جعلتها باسمها المشهور اليوم: وادي النطرون.. وهكذا فى بقية المدن والمواضع التى وردت في النص الأصلي، اللهم إلا تلك المواضع التي صار لاسمها القديم دلالةٌ قد يضيِّعها اسمها المعاصر، مثل نيقية الواقعة اليوم في حدود تركيا ؛ فمع أنها صارت تعرف باسم أزنيق، إلا أنني فضَّلت أن أذكرها باسمها القديم، لما له من أهمية خاصة في تاريخ المجامع الكنسية؛ إذ انعقد في هذه المدينة سنة 325 ميلادية، المجمع العالمي (المسكوني) لرؤساء الكنائس، الذى تمَّ فيه الحكم على القَسّ المصرى آريوس بالحرم والطرد والنفي، باعتباره مُهَرْطِقا وكافرا بالأُرثوذكسية (الإيمان القويم).. أما ما لم يشتهر من المواضع الواردة في الرواية، فقد أوردت اسميه القديم والجديد معا، منعا للالتباس.
وقد وضعتُ بعد الشهور والسنوات القبطية التي ذكرها المؤلِّف؛ ما يقابلها من الشهور والسنوات الميلادية المعروفة اليوم. وأوردتُ، في مراتٍ قليلة، بعض الملاحظات والإشارات الضرورية الموجزة، وبعض التعليقات (العربية) التي وجدتها في الحواشي. ثم ألحقتُ بالرواية بعض الصور المرتبطة بأحداثها.
وعلى الصفحة الأولى من الرواية، التى يبلغ عدد فصولها 31 فصلاً، نقرأ الحديث الشريف الصحيح: لكل امرئ شيطانه، حتى أنا، غير أن الله أعاننى عليه فأسلم. وتبدأ الرواية بمولد الراهب هيبا في جنوب مصر سنة 391 ميلادية، وهي السنة التي أُعلنت فيها المسيحية ديانةً رسميةً للإمبراطورية الرومانية، وتنتهي الأحداث سنة 431، وهو تاريخ انعقاد المجمع الكنسي العالمي بمدينة إفسوس، وهو الاجتماع الذى شهد انقسام الكنائس، ولعبت فيه كنيسة الإسكندرية (المرقسية) دورا كبيرا كأحد أهم الكنائس في العالم، وربما أهمها على الإطلاق.
.. وعزازيل في الرواية هو الظاهر والمختفي، الصريح والمراوغ، وهو الداعي للكتابة والتدوين، اكتشفه الراهب هيبا في ذاته، بعد مخايلة طويلة ظلت الرواية بزمانها الدائري تشير إليه، حتى تجلى بداخله في واحد من أعمق فصول الرواية وأكثرها روعة.. وفي فصول الرواية قصتان للعشق تذوبان رقةً وتشتعلان بالرغبة، وبين الصفحات تصادفنا قصائد الراهب هيبا وترنيماته التي تشهد بشاعريته الرهيفة.
وكان يوسف زيدان قد أصدر قبل ذلك روايته (ظل الأفعى) التى اقتحم فيها عالم الأنوثة المقدسة، مثلما اقتحم فى روايته الثانية قدس الأقداس المسيحي، وغاص فى جوهر الديانة المسيحية والخلافات العميقة بين الكنائس، في عمل روائى لا نكاد نجد له نظيرا في عالم الرواية، من حيث عمق اللغة ودقة الفكرة وروعة الأحداث.
والمتتبع لأعمال يوسف زيدان خلال ما يقرب من ثلاثين عاما، نشر فيها أكثر من خمسين كتابا (من بينها كتاب الشامل الذي يقع فى ثلاثين جزءا) وأكثر من ثمانين بحثا أكاديميا؛ يستيطع أن يلمح النـزوع الروائي الذي ظل يظهر في كتاباته، قبل صدور روايتيه الأخيرتين بسنوات طوال. فقد كتب (عبد القادر الجيلانى، باز الله الأشهب) بصيغة روائية التزم فيها بقواعد البحث العلمي، غير أنه استعار اللغة الأدبية الراقية فى تقديمه لحياة الصوفي الكبير (الجيلاني) صاحب أوسع الطرق الصوفية انتشارا في العالم الإسلامي. والأمر ذاته نراه فى كتابه (فوائح الجمال) الذي قدم فيه لأول مرة، حياة وتراث الصوفي العارم: نجم الدين كبري، في ثوب أدبي/ تاريخي كان مؤثرا في كثير من المبدعين العرب المعاصرين، وملهما للباحثين في التراث الروحي للمسلمين.

محمد الحمامصي
السبت 15/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع