(عمارة يعقوبيان) عودة الروح للرواية الواقعية



حين تقرأ/ين الرواية، وتتنقّل/ين عبر مشاهدها، لا يخطئك الحدس بأن مؤلفها أعدّها لتكون فيلما سينمائيا ناجحا، فقد بناها في صورة سيناريوهات محكمة، غنية بالتفاصيل، بحيث لا تحتاج إلاّ إلى قليل من الجهد الإخراجي، حتى تصبح فيلما يضجّ بالواقعية والإمتاع

أحدثت رواية (عمارة يعقوبيان) لعلاء الدين الأسواني، ضجة أدبية وفكرية، لدى صدورها مسلسلة على صفحات جريدة (أخبار الأدب) أولا، ثم كاملة في كتاب عن دار (ميريت) للنشر. ولعل ما أسهم في رواجها وشهرتها، أن السينما قدمتها فيلما، شارك في بطولته ثلّة من نجوم السينما المصرية، على رأسهم عادل إمام.
ينتمي العمل إلى الاتجاه الواقعي في الرواية العربية، التي عادت إليها الروح بعد أن كادت تتراجع شعبيا، بسبب الإغراق في الشعرية والرمزية والتاريخية والذاتية، بعيدا عن هموم الناس ومشكلاتهم اليومية، وقضاياهم الاجتماعية والسياسية، ضمن شبكة العلاقات المعقدة بين السلطة والشعب، بين الأغنياء والفقراء، بين أصحاب النفوذ والمهمّشين.
استطاع علاء الدين الأسواني في روايته، أن يجسّ بعمق، هموم المواطن المصري، وأن يصوّر بتعبير سلس، ولغة بسيطة، غنية في الدلالة والمضمون، التحولات الكبيرة التي حدثت لمصر، أو للقاهرة، في الفترة الراهنة، خلال الخمسة عشر عاما الحالية وبرع في خلق شخصيات من لحم الواقع ودمه. هي نماذج حية لأناس يعيشون بيننا: نحبهم، أو نكرههم، نأسى لمصائبهم، أو نكتوي بنيران ظلمهم. وحافظ، خلال صنع الأحداث، على حيوية المشاهد وتتابعها في إطار من التشويق المثير، حتى إن القارئ لا يستطيع الفكاك من أسر الرواية قبل الانتهاء من صفحتها الأخيرة. وبتقنية السارد العليم، أمسك الأسواني بخيوط الرواية جميعها، وأبدع مشاهدها، فكان ينتقل بك من مشهد إلى آخر، دون أن تملّ من كثرة الأحداث، وتداخلها، وذلك لحرارة المواقف، وصدقها الفني، وطابعها الدرامي. فمن مشهد لـ (زكي الدسوقي) سليل الباشوات، مع أخته (دولت)، وهي تشتمه بأقذع السباب لإدمانه، وتطرده من بيت أبيه، ثم تلفّق له التهم لتستولي على شقته في العمارة، بعد أن صلح حاله بتعرفه إلى (بثينة) الموظفة الفقيرة، إلى مشهد للحاج (عزام)، ماسح الأحذية الذي غدا من كبار الأثرياء، بفضل تجارة المخدرات، مع (سعاد) زوجته الثانية تطارحه الفراش. على مضض، في شقتها بالعمارة، ثم يرميها رمي الكلاب حين ترفض إسقاط جنينها، لأنها خالفت شروط اللعبة، إلى مشهد لـ (حاتم رشيد)، الصحافي اللامع، الذي أدّى إهمال أبويه الأرستقراطيين له في الصغر إلى "شذوذه" الجنسي، وهو يسترضي الصعيدي (عبده) في شقته الفاخرة الأثاث بالعمارة، ليجود عليه بـ (وصلة) تروي ظمأه، ثم اضطرار (عبده) لقتله، عندما أعماه "شذوذه" الجنسي عن النظر إلى (عبده) على أنه إنسان حر، وليس حيوانا اشتراه للفساد. إنك حين تقرأ الرواية، وتتنقّل عبر مشاهدها، لا يخطئك الحدس بأن مؤلفها أعدّها لتكون فيلما سينمائيا ناجحا، فقد بناها في صورة سيناريوهات محكمة، غنية بالتفاصيل، بحيث لا تحتاج إلاّ إلى قليل من الجهد الإخراجي، حتى تصبح فيلما يضجّ بالواقعية والإمتاع.
المكان، وهو (عمارة يعقوبيان) شخصية رئيسية في الرواية، فهو ليس مسرحا للأحداث فحسب، وإنما شاهد حيّ على انبثاق الأحلام في نفوس الشخصيات، وانسحاق آمالها على صخرة الواقع، الذي تتحكّم به ذئاب بشرية، مستعدة لفعل أي شيء في سبيل رغائبها الدنيئة. فالعمارة، بتاريخها العريق، ووقوعها وسط القاهرة، كانت أقرب إلى الكاميرا الكبيرة، أو (البراجكتور) الذي يكشف عاهات المتورّمين بالنذالة والسفالة من سكانها، أو عورات المستضعفين الذين يضطرون لتقديم التنازلات، والتفريط بالكرامة الشخصية إزاء قسوة الحياة. ترمز (عمارة يعقوبيان) إلى مصر الحديثة، بما طرأ عليها من تحولات، فقد بنيت عام 1934 لتكون سكنا لأرستقراطية القاهرة أيام النظام الملكي، ثم غدت بعد ثورة تموز 1952 سكنا للأرستقراطية الجديدة المكونة من ضباط الجيش، وكبار الموظفين، والأثرياء الجدد. وقد كان لبعض الفقراء، والصعاليك المحظوظين، نصيب في سكنى العمارة، متخذين من حظائر السطوح، التي هي، في الأصل، بيوت للكلاب، مسكنا لهم. وهكذا كانت العمارة تعكس الوضع الطبقي الجديد، وتكرّس، ببنيتها، مواقع الذين يملكون، ويسخِّرون قوتهم المادية لمزيد من النفوذ، والذين لا يملكون، ويسعون، بلا جدوى، لتغيير أوضاعهم التعيسة.
تستوقفك، وأنت تتابع المواقف المختلفة للشخصيات، تلك الموضوعية الرائعة التي تحلّى بها الكاتب، حين صنع الحوارات الحية التي تكشف عن الاتجاهات الإيديولوجية لشخصياته، دون أن يلوي عنق الحقيقة، أو يتحيز لشخصية، تمثّل فكرة يتبناها بصورة مباشرة، أو غير مباشرة. فهو حتى حين يقدّم نموذجا للمتدينين المتشددين، لا يبالغ لإرضاء السلطة التي دأبت على تسخير الأقلام، والأفلام في تصوير هذه الفئة بصورة كاريكاتورية، مبالغ فيها، تخلط الأوراق، ولا تفرّق بين الدين الحق السمح، والتدين الزائف المتطرف، غافلةً عن الأسباب الاجتماعية التي أفرزت هذه الظاهرة، والمدعوّة هي، أي: السلطة، قبل غيرها، لمعالجتها، وتجفيف التطرف من ينابيعه. لقد قدمت الرواية المسوغات المنطقية: اجتماعيا ونفسيا، لارتماء (طه) الشاب الفقير، ابن بواب العمارة، في أحضان الجماعات المتطرفة، فقد كان يطمح لأن يصبح ضابط شرطة، ويقترن بفتاة أحلامه (بثينة)، ولأنه من طبقة المهمّشين، أخفق في تحقيق حلمه، على الرغم من تفوقه العلمي، وإجاباته المتميزة في امتحان المقابلة. كان الظلم الذي تعرّض له أثناء المقابلة، والردّ المتحيّز الذي تلقاه من مكتب رئاسة الجمهورية على شكوى التظلم، فضلا عن معاناته النفسية، والاجتماعية، كافيا ليجعله فريسة سهلة في أيدي المتطرفين الذين قدّموا له الملاذ المادي والمعنوي. ثم جاءت حفلة التعذيب في أقبية الأجهزة الأمنية، وانتهاك عرضه الشخصي عدة مرات على أيديهم، أشبه بالضربة القاضية التي طوّحت به في أحضان التطرف إلى غير رجعة، ورسمت مصيره انتحاريا يبحث عن الانتقام لشرفه المهدور، قبل النضال لاستعادة (دولة الخلافة الضائعة).
إن اللعبة الروائية الذكية التي أجادها علاء الدين الأسواني) أنه لم يبنِ روايته على شخصيات رئيسية، وأخرى ثانوية، وبالتالي لم يكن هناك بطل رئيسي يختفي وراءه السارد، ويلقّنه أفكاره ورؤاه، بل كانت الشخصيات جميعا أبطالا بلا بطولة، لأنها تعاني هزائم داخلية أو خارجية، يفرضها المجتمع الطبقي، أو سلطة النظام، وتتحرك بتلقائية في دائرة المكان الذي يبسط عليها هيمنته الخفية، ويصنع مصائرها بيديه.
لقد حفلت الرواية بمشاهد جنسية، كان أغلبها ذا وظيفة فنية، تطوّر الحدث (مشهد الدسوقي مع بثينة قبل اعتقالهما)، أو تكشف دخيلة الشخصية (الضعف الجنسي للحاج عزام أثناء لقائه بسعاد)، أو تحقق التوازن النفسي والعاطفي (ليلة دخول طه بزوجته رضوى)، ولم يخلُ بعضها من ابتذال، أو تفصيل لا ضرورة فنية له (مشاهد الدسوقي المتكررة مع المومسات)، (مشاهد الشذوذ الجنسي لحاتم رشيد)، ولعلّ هذه المشاهد تقدّم خدمة لمخرجي السينما الذين يتقنون مخاطبة غرائز الجماهير البائسة، التي تجد في مشاهد الجنس تعويضا مؤقتا عن حرمانها الدائم.
وعلى الرغم من النهاية السعيدة التي أرادها الكاتب لروايته، فختمها بزواج (زكي الدسوقي) من (بثينة) في حفل زفاف متواضع، اقتصر على الأصدقاء، وأحيته (كريستين)، صديقة (زكي) الحميمة، بأغنية رومانسية، كمحاولة مكشوفة من السارد العليم لبعث الروح في أيام الماضي الجميلة، فإن الطابع السوداوي يخيّم بظله على الرواية، ويجعلها من النوع التراجيدي الذي يعمّق الشعور بمأساة الإنسان العربي المعاصر المرتهن للفقر والقهر.
امتازت لغة الرواية بالعفوية والانسيابية، فلم ترهق القارئ بشعرية مفتعلة، ولا استعراض بلاغي متكلف، وأتاحت للقارئ المتوسط الثقافة أن يتفاعل مع أحداثها، ويتابعها بشغف. يثير دافعيته للمتابعة، طزاجة الأحداث، وراهنيتها، وتطابقها مع الواقع المعيش. إذ إن الرواية كتبت له ولعامة الناس، ولامست قضايا المجتمع، وهمومه، (لا أقول المجتمع المصري، فحسب، بل المجتمع العربي ككل)، وزادت وعيه بما يجري حوله، ممّا لا يملك له تفسيرا صريحا، أو تغييرا قريبا، وأعتقد أن هذه المزايا كانت وراء طباعة الرواية طبعتها التاسعة، في ظرف زمني لا يتعدى خمس السنوات، الأمر الذي لم يحظ به العديد من الروايات العربية، رغم أسماء مبدعيها الكبار.

عدنان كزارة
السبت 15/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع