حزبنا الشيوعي يُحيي 90 عامًا من النضال:
ذكريات خِتيار لم تمُتْ أجياله (5)



*كانت سنة 1954 سنة تاريخية وهامة في حياة عرابة البطوف وجماهيرها. فقد احرزنا نجاحات هامة نتيجة للعمل الجبار الذي ادى في النهاية الى الغاء هذه الضريبة الجائرة والمجحفة بحق جماهيرنا العربية في هذه البلاد، وكان من الواضح جدا ان جماهير عرابة بقيادة فرع الحزب الشيوعي هم الذين بادروا للقيام بهذا العمل وحققوا الانتصار. بعد هذا شعر الناس بأهمية العمل الذي قاموا به ورأوا بها معركة وطنية من الدرجة الاولى، وامتحانا هاما في معارك شعبنا من اجل نيل حقوقه وترسيخ جذوره في وطن الاباء والاجداد، وعرفت كيف يمكن "للكف ان تلاطم المخرز"*

 

 

كان الهدف من وراء عمل السلطة بتلك الاساليب الرخيصة والعنصرية والاحكام الجائرة التي فرضوها على عدد من اولياء امور الطلاب وقادة الحزب في عرابة ومنطقة الناصرة، هو محاولة فرض جو من الخوف والرعب وبعدها الرضوخ لاملاءات السلطة وتحذير وتخويف الناس في عرابة من الاقتراب من الشيوعيين والابتعاد عنهم، لان الاقتراب منهم سوف يعرضهم للملاحقة والسجن، ولكن هذه السياسة قد باءت بالفشل الذريع وجاءت بردة فعل عكسية حيث انها ادت الى تقوية فرع الحزب في عرابة وتعميق جذوره بين جماهيرها.
في نهاية شهر حزيران من سنة 1954 كنت قد انهيت تعليمي في الصف الثامن الابتدائي وبعد ذلك طلبت من والدي ان اكمل تعليمي الثانوي وحاولت بكل الطرق اقناعه بضرورة ذلك وتدخل اخي سليم لاقناعه بذلك ولكنه رفض هذا الاقتراح. وما فرض القرار عند والدي هو ضيق الحال، بالرغم من انه كان بالامكان تدبر الامر، وبعد ذلك خرجت لسوق العمل في حيفا، وفي اليوم الاول من تواجدي في الساحة التي يقف فيها العمال لعرض عضلاتهم وبيع قوة عملهم، والتي سميت في ذلك الوقت بـ "ساحة الحناطير" واليوم "ساحة باريس"، واذا بشابين يحملان عريضة يتوجهان للعمال واحدا واحدا من اجل التوقيع عليها، وعلى ما اذكر كانت عريضة من مجلس السلام العالمي للمطالبة بعدم استعمال الاسلحة النووية ضد البشرية وكان هذان الرفيقين هما عباس زين الدين ونعيم عبيد، وعندما توجها إلي من اجل التوقيع عليها، وعرفت مضمونها قلت لهم انني قد سبقتهم الى هذا في قريتنا حيث قمنا بجمع تواقيع عشرات الشباب على هذه العريضة في عرابة البطوف، وقلت لهم انني عضوا في صفوف الشبيبة الشيوعية، عندها صافحاني وسرّا بذلك وقالا لي: تعال لنعرفك على نادي الشبيبة الشيوعية في حيفا والقريب من المكان الذي التقينا به ،وهو نادي درج الموارنة والذي ما زال موجودا حتى اليوم، والان توجد فيه مكاتب جريدة "الاتحاد"، وما زالت زياراتي مستمرة حتى يومنا هذا لهذا المكان التاريخي، والذي كان اول نادٍ تستأجره عصبة التحرر الوطني في سنة 1943، التنظيم الشيوعي للشيوعيين العرب في ذلك الوقت.
في اواخر سنة 1954 طلب مني والدي ان اعمل مع اخي يوسف في الحقل اي حراثة الارض وزراعة القمح والشعير والسمسم والبطيخ وكان هذا عملا شاقا، ولكني لبّيت طلب ابي في تلك السنة وفي السنة التي تلتها اراد والدي ان استمرّ في العمل في الحقل ولكني رفضت وذهبت بدون ان يدري للعمل في طبريا مع احد معارفنا وهناك عملت في قطف البندورة وكنا ننام هناك بالرغم من انني لم احصل على تصريح للعمل هناك وكنت اعود للبيت كل اسبوع. ولكن في الفترة الاولى، حتى لا يتمكن والدي من الضغط عليّ للعمل في الحقل، بقيتُ غائبًا عن البيت ما يقارب الشهر. وبعد انهاء عملي في طبريا حيث عملت نحو ستة اشهر ذهبت للعمل في مدينة حيفا في قطف الزيتون والصبر في القرى المهجرة مثل عين غزال واجزم وجبع وصرفند، وكان هذا عن طريق احد المقاولين الذين كانوا يضمنون الزيتون والصبر في هذه القرى بذلك الوقت، وخلال عملي هذا كنت اتردد على نادي الشبيبة الشيوعية في حيفا، وكذلك عملت في فرن في حيفا في "بيت جاليم" وكنت ابيت في حيفا، ولذلك كنت اشارك في نشاطات الشبيبة في حيفا ومن خلالها تعرفت على عدد اخر من الرفاق الشباب في حيفا منهم فكتور رزق وديب عابدي وابراهيم تركي وطوني نقارة وابراهيم عاقلة وعبد عابدي ومحمد الحاج وغيرهم، وفيما بعد اي بعد عدة سنوات، تعرفت على مجموعة اخرى من رفاق الشبيبة في حيفا سآتي على ذكرهم في ملاحظات قادمة.
وفي احد الايام وخلال تواجدي في النادي عرض علي الرفاق هناك الذهاب سوية الى كيبوتس "يد حانا" من اجل الاشتراك في دورة دراسية للشبيبة لمدة اسبوعين وقبلت العرض وذهبت معهم واشتركت بهذه الدورة الدراسية،حيث تعرفت لأول مرة على رفاق من المثلث وكانوا من باقة الغربية وهم الرفيقين الأخوين ابراهيم ويوسف بيادسة  رحمهما الله حيث عملوا في الكيبوتس في تقليم الأشجار؛ وكذلك خلال هذه الدورة وخلال عملي في حيفا كنت قد تعرفت على عدد من الرفيقات والرفاق اليهود وتعمقت علاقاتي الرفاقية معهم، وما زالت هذه العلاقة وطيدة وقوية حتى اليوم مع عدد من هؤلاء الرفاق الذين عرفتهم منذ ذلك الوقت ومنهم الرفاق بنيامين غونين وزوجته يوخيفت وعوزي بورشطاين وزوجته ماتي وكذلك مع الرفاق يورام وتمار غوجانسكي الرفيق نسيم براخا وزوجته سمحه ومع هؤلاء الرفاق بشكل خاص نسيم وسمحة توجد علاقات عائلية دائمة بيننا، وعمليا من خلال هذه العلاقة تعمق ايماني في مبادئ الحزب الشيوعي وايماني بالاخوة بين الشعوب، الاخوة القائمة على الندية بين الطرفين وليس اخوة الفرس والفارس التي تحاول ان تفرضها السلطة واحزابها الصهيونية على جماهيرنا العربية. ان الفكر الشيوعي الاممي كان وسيبقى اكثر الافكار تقدمية وانسانية والتي فقط عن طريقها يمكن ان يتخلص الانسان من الاستغلال والعبودية.
في سنة 1954 ايضا كان هناك حادث اخر جرى لي عندما كنت انا والرفيق طيب الذكر محمود شاكر خطيب ننتظر في الموقع الذي كان يسمى في ذلك الوقت "البركة الجديدة" حضور عضو الكنيست الرفيق اميل حبيبي الذي سيتكلم في الاجتماع الشعبي الذي كان مقررا عقده في عرابة. وخلال تواجدنا هناك شاهدَنا احد العملاء واخبر الشرطة عن مكان تواجدنا واذا بالشرطة تعتقل الرفيق ابو زاهي وتأخذه معها الى بيت المختار وعندما وصلوا الى هناك ارادوا منه ان ينزل ويدخل الى هناك فقال لهم انه لا يدخل هذا البيت، عندها اعتدى عليه ابن المختار وهو متواجد داخل سيارة الشرطة، ورأى الرفيق محمود بهذا العمل مسًا بكرامته وثارت ثائرته على الشرطة وحملها المسؤولية عن هذا الاعتداء السافر وقال لهم انه سوف يقدم قضية جزائية ضدهم، وعندها جاء ضابط الشرطة "شويلي" والمختار وحاولا ارضاء ابا زاهي واجراء صلحة ولكنه رفض اجراء الصلحة الا بشرط اطلاق سراحه وقد قُبل هذا الشرط وبعدها اطلق سراحه. ثم دعتني الشرطة وابلغتني بأنه عليّ الحضور في اليوم التالي الى مركز شرطة مجد الكروم، فأجبتهم بأنني لا استطيع السير من عرابة الى مجد الكروم، قالوا لي لماذا مشيا على الاقدام، افضل ان تأتي في الباص الى هناك فأجبتهم بأنه لا يوجد لدي النقود لأجرة الباص عندها قالوا لي بأننا الان سنأخذك معنا في سيارة الشرطة، وبكل وضوح اجبتهم بأنني لن اذهب معكم والان سوف يأتي الى هنا عضو الكنيست اميل حبيبي وسوف اشتكي له بأنكم تريدون اعتقالي والتحقيق معي وانا ما زلت لم اتجاوز الخمسة عشرة ربيعا، عندها قالوا لي بعصبية "انصرف من هنا"، وما كان مني الا الانصراف بسرعة ولكن في المقابل وجدوا في طريقهم احمد ابن اخي مصطفى واعتقلوه واخذوه الى بيت المختار وهناك جرى التحقيق معه، وعندما حضر اميل حبيبي اخبرناه بكل ما جرى لي ولـ ابي زاهي. وللرفيق ابو زاهي قضية اخرى حيث كان قد اعتقل في ليلة زفافه بحجة انهم وجدوا عنده بضاعة مهربة وفي الحقيقة ان هذه البضاعة المهربة كانت قطع قماش كان قد اشتراها لجهاز عروسه وذلك في سنة 1953.
كما اخبرنا اميل حبيبي بأنه لا يزال هناك معتقل ويجري التحقيق معه وهو احمد ابن اخي مصطفى وهو ايضا لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، عندها طلب الرفيق اميل حبيبي من والدي واخي يوسف مرافقته وقد رافقتهم انا ايضا الى بيت المختار حيث كان هناك يجري التحقيق مع احمد وعندما وصلنا الى هناك توجه للضابط "شويلي" بالقول له كيف وبأي قانون تقومون بهذه الزعرنة وعلى اي اساس تحققون مع شاب صغير بهذا الجيل بدون تواجد احد من اهله الى جانبه، فحاول "الشويلي" تهدئة اميل حبيبي وفي النهاية قال اميل للضابط: اذا كنتم مصرين على مثل هذه الزعرنة فيجب ان يبقى جده الى جانبه وبقي والدي وعدنا نحن للبيت مع الرفيق اميل حبيبي ولكن ما ان وصلنا الى البيت واذا بوالدي يلحق بنا ومعه حفيده حيث اطلقوا سراحه بدون اي اتهام.
وفي تلك السنة ايضا، سنة 1954، كانت منافسة بين فروع الشبيبة في منطقة الناصرة حول نشاطاتها الجماهيرية، وعقد مؤتمر لمنطقة الشبيبة الشيوعية في الناصرة وفي هذا المؤتمر جرى تلخيص لنشاطات الفروع، ولأن فرعنا قام في تلك السنة بالعمل الهام ضد "ضريبة الرأس" واعلان الاضراب، فقد حاز فرعنا على المرتبة الاولى في النشاط من بين فروع المنطقة وحصل على جائزة وهي علم المنطقة وقد فرح الرفاق كثيرا بهذا التقدير الذي حصلنا عليه ونتيجة لذلك تفتق ذهن الرفيق محمود مصطفى عبد الهادي ونظم اغنية بهذه المناسبة، كان مطلعها "علم المنطقة بايدنا اعظم شرف هو لينا/ من عندنا ما بروح نفديه بأرواحنا". وعمليا في تلك الفترة ازداد عدد الشباب الذين انتسبوا الى صفوف الشبيبة الشيوعية، وفي تلك الفترة أيضاً نظم الرفيق ابراهيم شكري سكرتير فرع الشبيبة في عرابة زيارة تعارف لفرع الشبيبة في البعنة وكان سكرتير الفرع هناك هو الرفيق يعقوب ابراهيم وقد ذهبنا هناك مشياً على الأقدام عن طريق منطقة المل المعروفة في ذلك الوقت بالمنطقة العسكرية رقم "9"، وقد قضينا ذلك اليوم كله في البعنة مع رفاق الشبيبة هناك حيث حضر الرفاق حسن بكري –رحمه الله- والرفيق حنا ابراهيم –أمد الله في عمره- وكنا قد عرفنا عنهم من رفاق عرابة الذين كانوا يثبتون وجوههم في مركز شرطة مجد الكروم لأنهم أيضاً كان محكوم عليهم بإثبات الوجود؛ وحدثونا عن الحزب ودوره وأهمية الشبيبة  الشيوعية ودورها وبعدها توثقت علاقاتنا نع رفاق البعنة وكان تنافس بين الفرعين خلال مدة طويلة حول من الذي يستطيع أن يحصل على نسبة أعلى من الأصوات في قريته بكل انتخابات للكنيست. وفي إنتخابات سنة 1977 حصل فرع الحزب في عرابة على نسبة 86.5% من الأصوات بينما حصل فرع البعنة على 81% من الأصوات وعندها أنشد رفاق البعنة المشهورون بتأليف الأناشيد  الشعبية الثورية: "عرابة يا ركن الجلبل والبعنة تمشي بظلها."

 وكنا ايضا نشارك في الرحلات التي تنظمها الشبيبة منطقيا وقطريا وكذلك في المخيمات ومهرجانات الشباب وأول مهرجان شبابي قطري اشتركنا به بشكل واسع كان في صيف سنة 1954 على نهر اليركون في تل ابيب وكذلك مخيم لمنطقة الناصرة كان في سهل البطوف في صيف سنة 1953 حيث شاركنا فيه بعدد كبير من فرع عرابة بالاضافة لذلك كنا نحاول ان نجد ايضا نشاطات محلية ومن هذه النشاطات قررنا ان نقيم فريق كرة قدم، ولكن من اين لنا الكرة؟ ولذلك قررنا ان نجمع بضعة قروش من كل واحد منا، فاستطعنا ان نشتري كرة القدم ولكن النقود التي جمعناها لم تكن تكفي لشراء منفاخ للكرة، فتفتق ذهننا ووجدنا الحل وهذا الحل هو "البريموس" اي الأداة التي كانت تستعمل في البيت للطبخ وقد كان متوفرًا في جميع البيوت في ذلك الوقت، فأخذنا واحدا وكان طبعا يملؤونه كاز من اجل توليعه، فقمنا بافراغه من الكاز ووضعنا فتحة الكرة في "فونة" البريموس وقمنا "بدكه" وهكذا نفخنا الكرة فكان هذا اختراع جديد اخترعناه في ذلك الوقت، وكما يقول مثلنا الشعبي "الحاجة ام الاختراع".
ان الحقيقة الواضحة هي ان سنة 1954 كانت سنة تاريخية وهامة في حياة عرابة البطوف وجماهيرها، وكنا قد دفعنا غاليا من اجل انجاح هذا العمل الكبير الذي قامت به عرابة في ذلك الوقت، ولكن في نهاية الامر احرزنا نجاحات هامة نتيجة لهذا العمل الجبار حيث ادى في النهاية الى الغاء هذه الضريبة الجائرة والمجحفة بحق جماهيرنا العربية في هذه البلاد، وكان من الواضح جدا ان جماهير عرابة بقيادة فرع الحزب الشيوعي هم الذين بادروا من اجل القيام بهذا العمل وحققوا الانتصار. بعد هذا شعر الناس بأهمية العمل الذي قاموا به ورأوا بها معركة وطنية من الدرجة الاولى وان التضحيات التي قدمت لم تذهب سدى، وكذلك اعتبرت هذه السنة امتحانا هاما في معارك شعبنا من اجل نيل حقوقه وترسيخ جذوره في وطن الاباء والاجداد، وعرفت كيف يمكن "للكف ان تلاطم المخرز" وان هذا الامر ممكن وفقط بالوحدة والصمود والتصدي بجرأة للسلطة وسياستها الجائرة.


(عرابة البطوف)
(يتبع)

توفيق كناعنة
السبت 15/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع