كوسوفو: نموذج موجة القومية الثالثة- قومية العمالة لحقبة العولمة



ليس الحديث التالي من جانبي دعما لمزاعم كثيرة من الفلسطينيين بفرادة القضية الفلسطينية، وإن كانت لها خصوصيتها التي تميزها بالضرورة، تمييزا بمعنى الإختلاف عن غيرها شأن كافة الإشكالات والقضايا في التاريخ البشري. فمنذ أن قررت الراسمالية المعولمة فك / فصل/ واستقلال كوسوفو عن صربيا، والحديث متواصل عن التشابه مع القضية الفلسطينية وخاصة "إعلان الدولة من جانب واحد". وهو إعلان إن حصل، سوف يَجُبُّ الإعلان الأول عن هذه الدولة عام 1988 لنصبح أمام "الدولة الفلسطينية الثانية"، وهذا يفتح على ثالثة وأكثر!
بداية، فإن عملية انفصال كوسوفو لم تكن أمرا كوسوفيا باي حال من الأحوال. فلا بد من الفصل بين الصراع العرقي الرجعي في تلك البقعة والمذابح المتبادلة التي رافقته، وبين عملية فصل كوسوفو بما هي عملية قسرية بالقرار والقوة غير الكوسوفية. بحديث محدد، لم يكن لكوسوفو ان تتمكن من الإنفصال لولا أن دول المركز الراسمالي المعولم هي التي فعلت ذلك، وربما اصرت على تسريعه وفرضه. وعليه، يكون انفصال كوسوفو من طرف واحد ، اي المركز الراسمالي المعولم، وليس من الطرف الكوسوفوي إن وُجد.
ما أقصده من وراء هذا التحديد، هو أن انفصال او استقلال او انتصار طرف صغير عن/ على آخر كبير ليس ممكنا في هذه الحقبة إلا بشرطين على الأقل:
الأول: توفر حركة شعبية ثورية قتالية ترهق عدوها الضخم إلى درجة الإعياء فالإستسلام، شأن فييتنام مثلا.
والثاني: وهذا يعني وجود قوة رجعية عالمية كبرى مبنية على جريمة تفكيك او تذرير المحيط وتركيز المركز، كالولايات المتحدة، بل، الولايات المتحدة نفسها لترعى انفصالا كهذا. وهو انفصال، يسهل تغطيته بالحديث عن الدمقراطية وحق تقرير المصير... الخ، وهي قضايا كانت منسوبة إلى الأمم المتحدة قبل أن تتحول إلى مشروع خاص للولايات المتحدة. يعيدنا هذا إلى حقيقة أن فصل كوسوفو يرتد إلى تدمير يوغسلافيا قبل عشر سنوات.
وعليه، لا تعود الإشكالية في حق شعب في الإنفصال عن آخر، أو حتى إثنية إذا كان الأمر بقناعة الأكثرية الشعبية، وإنما الإشكالية في احتضان الراسمالية المعولمة لحركات سياسية تستثمر ميل الشعب للإنفصال، أو تعبئة برغبة الإنفصال ووعود بجنة راس المال الأمريكي وذلك خدمة لمصالح طبقة كمبرادورية معينة تضع نفسها في خدمة مخططات أوسع وعدوانية ضد إقليم وربما قارة بأكملها.

 

*الموجة القومية الثالثة*

تحاول الطبقات الحاكمة في المركز تصنيف تجارب حركات الاستقلال والانفصال في الحقبة الحالية ضمن نوع واحد من الإستقلالات. وهي في حقيقة الأمر انفصالات إثنية أكثر مما هي استقلالات قومية تندرج ضمن المفهوم الأوسع والمرن لحق تقرير المصير. يمكننا بالطبع تسمية هذه بالموجة القومية الثالثة في العصر الحديث، باعتبار أن القرن التاسع عشر كان عصر القوميات (الأوروبية)، وكانت تسميته بعصر القوميات كتعميم على العالم غير صحيحة، لأن تلك القوميات المتبلورة آنذاك كانت تقفز لاستعمار بقية امم الأرض، مؤكدة أن الرأسمالية بطبيعتها متجهة لفقدان دورها التقدمي وخاصة على الصعيدن الإجتماعي الداخلي وأكثر تخصيصا تجاه الأمم الأخرى. أما الموجة القومية الثانية فممثلة في حركات التحرر الوطني في محيط النظام العالمي والتي غطت الربعين الثاني والثالث من القرن العشرين. وهي موجة انتهت وانحسرت بعد إنجازات لم يبق منها الكثير، وإن بقي بعضها، لتعود منخرطة في النظام العالمي على اساس كمبرادوري.
أما حقبة العولمة، فتعرض لنا نموذجا اقل تقدمية، بل رجعيا بامتياز لقوى وطبقات مرتبطة بالمركز الراسمالي المعولم، ومدعومة من قبله للإجهاز على مختلف بلدان المحيط التي خرجت عن عباءة النظام العالمي، وحتى التي لم تخرج على اعتبار أن إضعافها ينخرط في تفكيك المحيط وتركيز المركز. وعليه، فالكثير من هذه الإستقلالات مجسدة في حركة الموجة القومية الثالثة، هي ادوات للمركز، بصراحة وعلانية وكوسوفو تشكّل نموذجا واضحا.
من المهم الإشارة إلى أن كثيرا من هذه الحالات الجديدة صغيرة وفقيرة بما لا يسمح لها بالتماسك الاقتصادي مما يجعل تبعيتها ضرورة لا يسهل الوقوف في وجهها، أو هي غنية بموهوبية ثرواتية معينة، لا بد للمركز من التهامها من البلد الأم، وبالتالي لا بد له من خلق قوى مرتبطة تلعب دور حصان طروادة، باسم الاستقلال وتقرير المصير لصالح المركز. وهذا يضعها في حالة احتراب مع البلد الأم والمنطقة متلقية مقابل ذلك اقتصاد التساقط الذي تحصل عليه، سواء بسبب الحرب او شراء السلاح  من المركز نفسه، وهي بهذا تسهم في سد عجز الميزانية الأمريكية او الدول الغربية عموما! فأية حلقة مفرغة من التخلف والإحتراب هذه! في هذا القالب يمكننا إدراج جنوب السودان ودارفور وشيشينيا وكردستان العراق... الخ. 
وهنا تجنبا لسوء الفهم، علينا الفصل أيضا بين حق القوميات في تقرير مصيرها، كالأكراد مثلا، وبين استخدام طبقة معينة من هذا الشعب لمسألة حق تقرير المصير لتوليد دويلة تابعة للمركز منذ الولادة، ومعادية لمحيطها، اي توليد نماذج جديدة عن إسرائيل.
وقد يكون من الطريف القول، أنه إذا كان أحد تبريرات فصل كوسوفو هو اختلاف الدين بين أكثرية الكوسوفيين وأكثرية الصربيين، وهو مدخل رجعي بامتياز ويطمس الحقائق الطبقية على الأرض، فإن على الأنظمة والطبقات الحاكمة في الغرب الرأسمالي التي انتقلت من القصف 1998 إلى الفصل 2008 أن تتوقع مطالب مشابهة من الأقليات المسلمة قد تصل إلى مستوى المطالبة بالتجمع في جغرافية ما ومن ثم الانفصال... الخ.

*فوارق أخرى*

كتب الكثير عن التشابه والتفارق بين كوسوفو وفلسطين. ولكن لا بأس بحديث عن فارق أو فوارق ما. فالبلقان منطقة غضة للنهب الرأسمالي المعولم، فهي خارجة طازجة بعد سقوط دول الإشتراكية المحققة، على الأقل بما هي سوق للعمالة الرخيصة، وبالتالي هي تحتاج "تعددية" إسرائيلية هناك! لكل نظام غربي واحدة. وقد تكون كوسوفو أو غيرها للجميع.
أما في الوطن العربي، فإسرائيل موجودة ولا حاجة لإسرائيل أخرى. هذه الحكمة التي لم يلتقطها فلسطينيون كتبوا يُشبهون فلسطين بكوسوفو، ويطالبون نفس المركز الذي خلق كوسوفو أن يخلق ما لا تريده إسرائيل!! ويبدو أنهم لم يقرأوا تاريخ تمنيات كثيرين بأن يُخلقوا في المنطقة على غرار إسرائيل، وفشل تلك الأماني. فمنذ بداية خمسينيات القرن الماضي حاول قادة من موارنة لبنان، وابدوا مفاتنهم لإقامة دولة مارونية في لبنان، لكن السيد الإمبريالي اكتفى بعشيقة واحدة! إلى أن تأتى للموارنة قيادة وطنية في شكل ميشيل عون.
من الذي سيدعم فلسطينيي التسوية لإعلان كوسوفو فلسطينية؟ لا المركز الرأسمالي بحاجة لها، وليس لها بنظره دور تؤديه كدور كوسوفو، ولا الكمبرادور العربي مأذون له من هذا المركز، ولا الفلسطينيون قادرون وحدهم على ذلك!
وفوق هذا وذاك، قد يكون هناك جزء على الأقل من الكوسوفيين ممتنا للمركز على دعمه ومخلص له، أما في فلسطين، فليست سوى القشرة الكمبرادورية ومثقفيها ممالئين لهذا المركز. وهذا لا يغري المركز بالإساءة للكيان الصهيوني من أجل هذه القلة. لقد اصبح المطلوب اليوم شعوبا بأكملها جاهزة كعملاء للمركز. هذه من سمات العولمة.

د. عادل سمارة
السبت 15/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع