غياب المجلة العربية المركزية



ذكرني غياب الروائي والأديب العربي سهيل إدريس، الرجل الذي صنع جزءاً من الذاكرة الثقافية العربية في ما يزيد عن ربع قرن من الزمان، بغياب المجلة المركزية العربية. كانت «الآداب» هي المجلة المركزية التي يقرأها المثقفون العرب ولا يتعمد حضورهم الثقافي إلا من خلال النشر على صفحاتها. لكن بعدما تراجعت، لأسباب لا تتعلق بها في الغالب، بل بالسياق السياسي والاجتماعي والثقافي الذي أحاط بها خلال ربع القرن الماضي، لم يعد هناك ما يمكن تسميته بالمجلة المركزية في دنيا العرب. ما بقي هو مشاريع متناثرة هنا وهناك، مجلات محلية صغيرة، أو موسمية لعدد محدود من القراء، بغض النظر عن أهمية هذه المجلات ثقافياً، أو مركزية المشروع الذي تحمله.
في النصف الأول من القرن الماضي، وحتى في الخمسينات والستينات منه، كان هناك ما يمكن تسميته بالمجلة الثقافية المركزية في الوطن العربي. ويمكن أن نضرب أمثلة على ذلك مجلات «الرسالة» و «الأديب» و «الآداب» و «شعر»... اضافة الى عدد من المجلات: التي استمرت تصدر فترة من الزمن ثم توقفت عندما تغيرت المشاريع الثقافية ووهنت المجلة عن متابعة دورها كمنبر حي للنقاش وإثارة القضايا الثقافية الأساسية التي كانت تشغل المثقفين في الفترة التي توقفت فيها المجلة. وقد واصل بعض هذه المنابر الثقافية الصدور رغم ضعفها، وأصبحت تلك المنابر هامشية تتغذى على أفكار الماضي ومشاريعه الآفلة، وتحولت إلى تمثيل الفكر المحافظ بعدما كانت تمثل فكر الطليعة والتغيير والتحول المضاد في المجتمع. وهكذا أصبح الطريق سالكاً أمام منابر ثقافية أخرى تحمل هموم العصر وانشغالات مثقفيه لتبدأ هذه المنابر مرحلة جديدة من التواصل أو الانقطاع مع ما سبقها.
يمكن من هذا المنظور التأريخ للحركات الثقافية من خلال المجلات ودورها في إثارة الجدال حول القضايا المركزية التي تشغل بال جماعة بشرية أو قومية محددة. ولا يمكن مجلة أن تحوز مثل هذا الدور المركزي إلا إذا استطاعت التقاط نبض عصرها وإيقاعه الصاخب، واعتنقت رسالة التعبير عن ذلك العصر وتجلية آفاقه والتبشير بأحلامه. وبغض النظر عن مستوى النقاش الذي كان يدور على صفحات المجلات الثقافية العربية، التي صدر بعضها في القاهرة وبيروت وبغداد، فإن ما يحسب لها هو أنها استطاعت أن تجمع على صفحاتها أقلام كتاب ينتسبون الى معظم البقاع العربية، ويحملون الهموم الثقافية والمعرفية والسياسية نفسها تقريباً. لقد كان العصر العربي، وصولاً الى أفق الستينات والسبعينات من القرن الماضي، نابضاً بالشعور بوحدة الأهداف الثقافية، بل السياسية؛ ولذلك كان يستطيع المنبر الثقافي أن يحشد على صفحاته أقلام كتاب عرب ينتمون إلى جغرافيات عربية مختلفة. ولم يكن التباين في الانتماء الفكري ليمنع هذه الأقلام أحياناً من الكتابة في مجلة بعينها، لأن هناك أفقاً واسعاً من اللقاء حول الأهداف الأساسية المشتركة.
الآن غابت هذه المجلة المركزية، وضعف دور ما واصل الصدور منها أو انه تغرب عن أهدافه ومشاريعه الأولى، ولم يعد هناك في العالم العربي مجلة ثقافية يمكن القول إنها ذات مشروع مركزي يلمّ حوله أعداداً كبيرة من المثقفين الحالمين بالتغيير. وحتى المجلات التي حاولت لعب هذا الدور، مثل «مواقف» التي انشأها أدونيس أو «الكرمل» التي أنشأها محمود درويش، عجزت عن تحقيق أحلامها بسبب حال التفتت والانقسام وغياب الأهداف المشتركة، وازدياد النزوعات القطرية وتغلغلها في تفكير المواطنين والجموع الشعبية قبل السلطات الحاكمة العربية. وعلى رغم صدور عدد كبير من المنابر الثقافية، في عواصم عربية مختلفة، وتبني عدد من هذه المنابر أفكار التغيير والدفاع عن قضايا ذات طبيعة سياسية ثقافية قادرة على جمع كثير من الأنصار والمحازبين حولها، إلا ان ذلك ظل مجرد مشاريع محدودة الأثر في الحياة الثقافية العربية.
وفي المحصلة النهائية، فإن غياب المنابر الثقافية المركزية يؤدي إلى ضعف الحوار والجدال حول القضايا التي تشغل الحياة الثقافية العربية. وينبغي ألاّ يغرنا العدد الذي لا يحصى من المطبوعات التي تصدر الآن في البلاد العربية، فرقعة توزيعها جد محدودة، وتأثيرها في تحريك النقاش والجدال والحوار، حتى حول المسائل التقنية الصغيرة، شبه غائب. وقد أصبحنا، لهذا الغياب الفادح للمجلات الثقافية التي يتحلق حولها المثقفون العرب، ولأسباب أخرى غير ذلك، بعيدين بالفعل من مشروع عصر التنوير العربي الذي امتدت ذيوله وأضواؤه الشاحبة الى افق السبعينات من القرن الماضي!


* ناقد أردني ("الحياة" اللندنية)

فخري صالح
الجمعة 14/3/2008


© كافة الحقوق محفوظة للجبهة الدمقراطية للسلام والمساواة
حيفا، تلفاكس: 8536504-4-972

صحيفة الاتحاد: هاتف: 8666301 - 04 | 8669483 - 04 | فاكس: 8641407 - 04 | بريد الكتروني:aletihad.44@gmail.com

* المقالات والتعليقات المنشورة في موقع الجبهة تعبر عن آراء كاتبيها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع